فرناندو بيسوا: كل رسائل الحب سخيفة

نشر في 23-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 23-08-2012 | 00:01
عن دار نشر «أسيريو وألفيم» صدر في العاصمة البرتغالية لشبونة كتاب بعنوان: «رسائل حبّ فرناندو بيسوا وأوفيليا كيروس»، جمع وتصنيف الباحثة البرتغالية مانويلا باريرا داسيلفا. يتضمّن رسائل الحبّ التي تبادلها الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا (1888-1935) وحبّه الوحيد أوفيليا. سبق أن تُرجم إلى العربية جزء من الرسائل بعنوان «رسائل إلى الخطيبة» عن دار «ورد» في دمشق. اللافت الآن كثرة المقالات المتشابهة عن هذه الرسائل ربما بسبب ترجمتها عن المصدر نفسه.

يتضمّن كتاب رسائل بيسوا وأوفيليا سلسلة طويلة من الرسائل التي تبادلها العاشقان (الشاعر والمراهقة)، تتضمن أحياناً بعض الجمل الصادمة، من بينها جملة يقولها بيسوا لأوفيليا: «كل رسائل الحب سخيفة». أما هي، فتجيء رسائلها مليئة بالصدق، كونها صادرة من شابة، لا علاقة لها بالكتابة، بل كانت الرسائل وسيلة للتعبير عن صدق مشاعرها.

بدأت قصة الحب بين بيسوا وأوفيليا، بإدامته النظر إليها واستراقه، ثم بقصيدة شعرية اختتمها بيسوا بقوله: أي تعذيب وأي لهيب/ فاذا كنت بقربها/ يغشى ضباب نظري/ وغيمة روحي، / ضاع الهدوء إلى الأبد/ وأنا لا أجده/.

تقول أوفيليا إنها، بعد هذه القصيدة، لم تعد تشعر أنها حرة، وانتابتها الحيرة حتى قررت، وسط تجاهل بيسوا لما حدث بينهما، أن تكتب إليه رسالة تطلب منه فيها تفسيراً، ما استدعى كتابته لرسالته الجوابية الأولى، لتبدأ بعدها مكاتبات يومية تقريباً، خلال فترة قصيرة نسبياً، لكن غنية بالمشاعر والأحاسيس.

تقول في إحدى رسائلها: «فرناندو: لم يحالفني الحظ اليوم. كل شيء في حياتي، هذه الأيام، وفي أغلب الأحيان، ليس على ما يرام. تمنيت كثيراً أن تحين الساعة. وفي النهاية، جئت وقد مللت من حياتك ومني. ألم أعد أعجبك فرناندو؟». يجيبها: «أوفيليا: حياتي أضحت تحوم حول أعمالي الأدبية، جيدة كانت أم سيئة، أيّاً كان، وما يمكن أن يكون. الجميع (...) عليهم أن يقتنعوا أنني هكذا».

تعود الفقرة الأولى من الرسالة، التي كتبت في سبتمبر 1929، إلى أوفيليا، وكانت حينذاك في التاسعة والعشرين من عمرها، أما الفقرة الثانية، والمكتوبة بعد أيّام، فقد خطتها ريشة بيسوّا وهو في سن الأربعين.

وكان كل من بيسوا وأوفيليا قد تعارفا في أواخر 1919، في أحد المكاتب التجارية، حيث تقدمت إوفيليا، البالغة آنذاك 19 عاماً، للبحث عن وظيفة بصفة سكرتيرة، بينما كان بيسوا (31 عاماً) يعمل بدوام جزئي بصفة مترجم رسائل تجارية إلى الإنكليزية. وفي فبراير 1920، طلب الشاعر، العاشق لأول مرة في حياته، الزواج منها بصورة دراماتيكية في ظهيرة يوم شتائي، عندما كانا وحدهما في المكتب.

أوفيليا التي تملّكها الذعر بعض الشيء، سرّها ذلك المشهد الرومنسي والمسرحي المبالغ فيه، من ثمّ كتبت إليه: «أفكر فيك كثيراً، سأكون صريحة معك، أخشى ألا يدوم حبك لي طويلاً (...) بلى فيرناندو لم تفكر قط في أن تكون لديك أسرة، أطلب منك أن تقول لي ...» وكان أن ردّ بيسوا على هذه الرسالة بالشكل التالي: «الذي يحبّ بصدق لا يكتب رسائل شبيهة بالتي يكتبها محامي. الحب لا يتأمل الأشياء بعمق، ولا يعامل الآخرين كمتهمين».

تخيم على الرسائل ظلال علاقته المرتبكة معها وطبيعة حبه لها، فهو لا يعلم إن كانت تحبه حقاً، أم تحب شاباً آخر، أم أنها تتسلى، أو أن يستخلص مثلاً أنها تشكّ في أنه على علاقة بامرأة أخرى، أو أنها تودّ التخلص منه بسهولة.

وداع

تؤكد باريرا داسيلفا أن لغة بعض تلك الرسائل كانت تشير إلى أن حبهما لم يكن من النوع الأفلاطوني، مثلما تصوّر البعض، إذ يبدو أن ثمة كلمات تكشف عن وجود مداعبات غير واضحة المعالم. ومن بين المشاكل التي كانت تنتاب علاقة بيسوا وأوفيليا وتقف حائلاً بينهما، شخصية ألفارو دي كامبوس، الذي أقلق الشاعر كثيراً، ذلك أن ثمة رسائل من كامبوس الى أوفيليا التي كانت ترى فيه إنساناً مكروهاً، فقد كتبت في يونيو 1920: «لا أحبه، إنه سيئ». وفي نوفمبر لم يعودا يلتقيان ببعضهما البعض. يودّع بيسوا أوفيليا برسالة حزينة غامضة تحمل تاريخ يونيو 1920 يقول لها فيها: «ينتمي قدري لقانون آخر لا تعرف أوفيليا شيئاً البتّة عن وجوده، هذا القانون يخضع أكثر فأكثر لمعلمين لا يمنحون شيئاً ولا يغفرون».

وبعد مرور تسع سنوات، تجمعهما الصدفة من جديد. أضحت أوفيليا امرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، وبيسوا من المدمنين على الكحول. هي لم تعد تتحدث عن الزواج، بينما يحاول هو الإبتعاد عنها. في نهاية المطاف، تتحول الرسائل إلى مونولوج يائس خاص بها، تطلب فيه، بلا جدوى، أن يكاتبها، قبل أن تحدث القطيعة بينهما في أواخر 1929.

وفي عام 1935، قبل وفاته بأشهر، التقت عينا بيسوا بأول كتاب منشور له وهو على قيد الحياة، قصيدته «رسالة». وبعد مضي سنواتٍ على ذلك، روت أوفيليا بنفسها: «جاء أحدهم بكتاب، وعندما سلّموني إيّاه وفتحته تبيّن لي أنّه رسالة مطوّلة يتصدّرها إهداء، عندما سألت عن الشخص الذي جاء بالكتاب، ومن خلال الوصف الذي قدّمته لي الفتاة التي استلمته، عرفت أنّ الذي استقدمه كان فرناندو بيسوا نفسه، حينئذ أسرعت مهرولة نحو باب المدخل، لكنّي لم أجد أحداً، ومن ثمّ لم أرَ بيسوا أبداً من جديد».

يقول الروائي أنطوان تابوكي صديق بيسوا: «وفي الأخير يصعب الحكم على تلك الرسالة التي كتبها وهو يعرف ورع أوفيليا الديني وكرمها، وفيها يرجوها أن تصلي من أجل صديقه أ . أ. كروس A.A.Cross المغرم بالأحجية، الذي ساهم في مسابقة ذات جائزة مالية مغرية موّلتها صحيفة «التايمز» اللندنية، وفي حالة الفوز وعد كروس فرناندو بحصة من هذه الجائزة الكبيرة التي سيخصصها لعشهما الزوجي في المستقبل.

يعتبر المترجم المهدي أخريف أن قيمة رسائل بيسوا الأدبية تأتي من شخصيّة كاتبها أكثر من كونها «رسائل غرامية»، رغم صور الانتظار (الرومنسية) التي يطل منها على الحبيبة في هذه الرسائل، إذ لا يوجد فيها كلام كثير حول الحب بالمعنى الذي نقرأه عادة في سير العشاق الكبار من المبدعين.

من هي؟

من هي أوفيليا هذه التي شغلت قلب بيسوا؟ كانت في التاسعة عشرة من عمرها حين أحبها بيسوا فيما كان في الحادية والثلاثين، زميلة تعمل مترجمة في مكتب للاستيراد، قصة حب قصيرة كانت أشبه بحياة مضافة إلى حيواته المستعارة وإن ظل يعيشها بصور متقطعة، تلك الحيوات والأقنعة التي كانت تعيش فيها كل ذات حياتها وموتها كأنها ذات مستقلة، فيتصرف مثلا حين كان يزور أوفيليا على أنه ألفارودي كامبو - أحد أنداده الشعراء إلى جانب برناردو سوارس، ألبرتو كاييرو وريكاردو رييس- كما اعترفت هي بذلك بعد سنوات من فراقهما: «اليوم لست أنا الذي جاء، إنما صديقي الفارو كامبو»، وكان يتصرف بطريقة مختلفة تماماً.

back to top