فضل خلف جبر في طق إصبع... محاولة لإنقاذ الفرح في الذاكرة العراقيّة

نشر في 25-04-2012 | 00:01
آخر تحديث 25-04-2012 | 00:01
No Image Caption
في جديده «طق إصبع»، يقدّم الشاعر العراقي فضل خلف جابر مدوّنة أسطوريّة تمّ رفعها وترميمها من بين أنقاض الذاكرة الجمعيّة العراقيّة.

قد تكون الأسطورة من الأرحام الكثيرة التي تخرج منها الشعوب. وبعض حملة الأقلام يعود إلى التاريخ القديم مستعيناً بكثير من رموزه على فرح واحتفاء في الكتابة كأنّه يعيد صناعة الأمس أو محاولاً إهداء ذاكرة الأمس إلى الغد.

وأيّاً تكن الأسباب، فإنّ الإنسان يرتاح للأسطورة والشعوب تغفو على الحكايات مثل الأطفال، ونحن، مهما بلغنا من الموضوعيّة، فإنّنا نبالغ دائماً في تصوير الماضي ونؤسطره يوماً بعد يوم، وذلك بدافع الانتماء والوجد.

على امتداد نصوصه في «طق إصبع»، يبدو الشاعر فضل خلف مستقيلاً من الراهن والآني والحاليّ ومغرقاً في التجريد على طريقته، وقد يكون على طريقة أمّة يراها أمّه بحاجة إلى من يعيد تسييل الماضي البعيد في عروقها بعدما تجمّد في ذاكرتها مكفّناً بالنسيان. ولا شكّ أنّ الغريب عن تاريخ العراق الطاعن في الماضي لا يستطيع أن يعرف إذا كان جبر يعيد صياغة ما هو موجود مضيفاً إليه بصماته، أو إذا كان يبني أسطورة ويحاول أن يقنع الغد بها، لأنّ الأمس انسحب إلى أقاصي الذاكرة ولم يعد عنده الوقت ليتلقّى...

إنّ أسطورة «طق إصبع» عمل كتابي مدروس ومنسّق وخاضع لمنهجيّة تأليفيّة واضحة تتّضح من خلال عناوين النصوص، فمن الديباجة والمستهلّ، مروراً بأحداث كثيرة توصل إلى المخاض، وصولا إلى زغردة بنات سومر. آثر جبر تسمية النصوص ألواحاً انسجاماً مع حقيقة المدوّنة، وكلّ لوح يسلّم المعنى الأخير في كلامه إلى اللوح التالي، هكذا تصير الألواح لوحات كلاميّة تختصر مراحل المدوّنة الأسطوريّة من ألفها إلى يائها.

الشعيرة

يستهلّ جبر لوحه الأوّل/ اللوح الديباجة بالملك والخادم ويجعل الشعيرة مساوية بينهما: «الشعيرة التي ساوت بين الملك والخادم، وكأنّه يسعى إلى المساواة من خلال الرغيف الذي يعني الحياة لكلّ إنسان بصرف النظر عن أيّ صفة من صفاته، وبالتالي عن أيّ حال من أحواله... ثمّ يظهر «طق إصبع» تقليداً يتخطّى العنوان إلى أن يكون حدثاً يثبت تكراره أنّ الأمّة لا تزال حيّة ترزق هي وذاكرتها: «طق إصبع/ تقليد السومريين المقدّس/ إنّه ليس مجرّد ممارسة شكليّة/ بقدر ما هو عمليّة تماس مع أمواج الغريزة الأولى».

ولا بدّ من معرفة دلالة هذا التقليد وقد أوردها الكاتب في «مسْرَد الآلهة»، وقال: «تقليد عراقي يقوم على شبك أصابع اليدين وإنتاج صوت من انزلاق إحدى السبّابتين على الأخرى بسبب الضغط. بتكرار الضربة نحصل على إيقاع موسيقيّ غالباً ما يصاحب الدبكات الراقصة والأهازيج الشعبيّة ومواسم الأفراح والمناسبات السعيدة». ما يعني أنّ جبر يحاول أن يدخل إلى ضمير أمّته من باب فرحها، ويمدّ يده عميقاً إلى قاع الروح، إلى أعمق ما في الزمن، إلى ماء الغريزة الأوّل، ومن هناك، من البعيد البعيد يفتح شراعه ويبحر نحو القريب والآنيّ، نحو الحاضر والراهن، ليؤسس للغد. وهو وإن وجد في إيقاع «طق... طق... طق» فرحاً لآلهة سعداء و: «عيونهم مستغرقة في نوم هانئ وسعيد» يبحث عن فرح لشعب عراقيّ لم يجده له في الواقع المعاش، فاتّجه نحو التاريخ ليقطفه ثمرةً شهيّة من أغصان شجرته العملاقة التي لا يدركها اليباس.

وفي ضوء ما سبق لم يعد من المستغرب تحوّل طق إصبع معبوداً أعلى يفدى بالدمع والدم والأحزان، وهو: «ثمرة الزواج المقدّس/ بين الإله المغامر الشجاع «أكثر ممّا تظنّون»/ رئيس المجمع العلوي للآلهة المرحين/ والإلهة «هيهات ذات الأسرار السبعة»/ ابنة الملاك «دعه يموت من الغيظ» رسول الآلهة إلى العالم السفليّ»...

وتجدر الإشارة الى إنّ هذه الأسماء كناية عن جُمَل تحوّلت أسماء ولكل إسم دلالة تخدم السياق الذي شاءه الكاتب، وفي «مَسْرَد» (القسم الأخير من الكتاب) فهرس أو قاموس للأسماء/ الجمل، ليت هذا المسرد كان في بداية الكتاب لأنّ فيه ما يسهّل عمليّة الفهم والربط بين الشخصيات والأحداث، وكيفما تقلّبت الأمور والصفحات فإنّ القارئ يشعر بجفاف يقيم في لغة النصوص الطقّ إصبعيّة، ويبدو جبر مراسلا تلفزيونيّاً يقف في بدايات الزمن، وعلى كوكب آخر، وينقل إلينا أحداثاً شخصيّاتها لا تنتمي إلى الحياة، وزمانها لا يتّسع له الزمان، ومكانها يوجد بصعوبة في الخيال فكيف في الجغرافيا: «وقد وقعت الإلهة ذات الواحد والعشرين ربيعاً في حبّ إله/ من أثرياء الآلهة هو الإله ابن النخلة التي ولدت على جرف الماء/ وكان هذا الإله الموسر المدلّل ينفّذ لحبيبته كل ما تشتهيه/ فهو سليل أسرة من طائفة ذوي الرؤوس الكبيرة/ وكانوا متخصّصين بصناعة العواصف الترابيّة والفيضانات والأوبئة»...

وقد التزم جبر بمناخ جملته من بداية رحلة الخلاص إلى المخاض فالولادة، فـ{طق إصبع» هو الإله المنتظر، وفي استعداده للخروج من أحشاء أمّه «هيهات ذات الأسرار السبعة» يكتمل عقد المدعوّين ليروا: «شهاباً برّاقاً يشقّ السماء/ ... كان الشهاب يقترب شيئاً فشيئاً من بستان النزهة/ وقد انشغل المدعوون عن طيّبات المآكل والمشارب/ بالتحديق في هذا الزائر غير المتوقّع»... وفي السماء حركة نورانيّة غريبة: «ارتسم في الآفاق شكل نجميّ عجيب/ تشير أقواسه المدبّبة إلى ثماني جهات»... بينما الأنوار تفيض شلالات وتدعو الناس من كلّ جنس ولون على اختلافاتهم للمشاركة في إحياء الحدث الجلل، وحتى الحيوانات التي لا جامع بينها، والطيور، و»كائنات سماويّة مجنّحة وغير مجنّحة»... وما هذا الحشد الخرافيّ سوى لسماع: «صرخة الطفل الأولى/ بهجة كأريج أزهار البراري/ ومضمّخة بفرح الأهازيج كلّها/ طق... طق... طق».

في «طق إصبع» حاول فضل خلف جبر أن يكون ممّن يمدّون اليد للتاريخ المنسيّ، وأن يشارك في صناعة الأمس البعيد جدّا وهو يقف متأمّلا على شرفة هذا العصر، وأن يعبر إلى ذاكرة أمّة ترتدي جراحها وتعتمر تيجان الآلام المزمنة، ليداويها بلغة تحترف الفرح ويدلّها على غد ذي معجزات جميلة قد يأذن الله باجتراحها.

back to top