هل تتوقف تلك القوارب؟

نشر في 15-07-2012
آخر تحديث 15-07-2012 | 00:01
 آدم يوسف من جملة ما تحمله الذاكرة عبارة قالها أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في قاعة الدرس حين كنت في السنة الأولى الجامعية: "إسبانيا في أوائل القرن التاسع عشر لم تكن أفضل حالا من الرباط، ومصر محمد علي باشا"، ملمحا إلى النهضة التي قادها الزعيم المصري في ذلك الوقت، مشتملة كل مناحي الحياة، وخصوصا الاقتصادية والثقافية منها، ومن دون الدخول إلى تفصيلات تلك المرحلة التاريخية، والحروب العديدة التي كانت تخوضها إسبانيا، وما أعقبها من خسارة لمستعمراتها في أميركا الجنوبية، بعيدا عن كل ذلك، ما سبب تدهور الوضع الاقتصادي في ما بعد مرحلة القرن العشرين، وتراجع مصر، ومعها العديد من بلدان المشرق، حتى أصبحت إسبانيا اليورو في عصرها الراهن، ومصر الثورة والإصلاح مجددا، حتى كأن لم تكن نهضة محمد علي انطلقت فيها ذات يوم، والطريف أن محمد علي كان يستعين بمهندسين معماريين من فرنسا وإيطاليا لبناء قصورها ونهضتها المعمارية.

الحديث من زاوية تاريخية يشوبه العديد من نواحي النقض، وإعادة البناء، لاختلاف المؤرخين، وتباين أهوائهم وأمزجتهم، ولكن السؤال الملح الآن، ما سبب تخلّف الأوطان العربية جنوب المتوسط عن نظيرتها في شمال البحر؟ حكم العسكر، دكتاتوريات عدّة، تراجع التعليم، الاختلال في بنية العقل المشرقي، حتى أصبح الإنسان لدينا قانعا تماما بفكرة الزعيم الأوحد، وبعضهم يضع صور الزعماء العسكريين في سيارات التاكسي، كنوع من إبراز الولاء. سؤال التخلّف هذا ناقشته مؤتمرات فكرية عدّة، وتحدث عنه الفلاسفة على مدى قرن كامل، ولكن الوضع مازال على ما هو عليه، بل إن قوارب الموت والسفن الشراعية ما زالت تحمل المئات والألوف من الحالمين بجنة الضفة الأخرى. لو لم تكن إسبانيا أفضل حالا من القاهرة، والرباط، وطرابلس لما خاض هؤلاء الحالمون تجربة الموت هذه.

وكان الزعماء العرب يشاركون في لعبة الهجرة هذه، ويستخدمونها ورقة ضغط ضد الدول الأوروبية، لذلك كان معمر القذافي قبل اغتياله يهدد فرنسا وإيطاليا بأن سيفتح المجال على مصراعيه لتدفق السفن الشراعية إلى هاتين الدولتين. وتقلق الهجرة الزعماء الأوروبيين باعتبارها مسألة إنسانية بالدرجة الأولى، ثم تتبعها المناحي الثقافية والاجتماعية، فهذه الدول التي تعاني الشيخوخة لا تمانع بتدفق الشباب العربي المعطاء، ولكن عبر تقنين معين، واختيار الصفوة المثقفة والمتعلّمة، وهو ما لا يتحقق عبر السفن الشراعية.

قضية الهجرة بكل تعقيداتها ستبقى هاجسا يقلق كيانات الأوطان الأوروبية، فالتخوّف الشديد من مظاهر الإسلام السياسي، وكذلك قضية الجذور، والهجرة المضادة، تبقى عوامل تدق في رأس المهاجرين وأبنائهم، إذ أدرك هؤلاء الأوربيون صعوبة تخلي المهاجرين المسلمين عن عاداتهم المشرقية، وتعاليم دينهم، لذلك هم يدعون إلى ما يسمونه "التنوّع في إطار الوحدة"، وبحسب د. سعيد اللاوندي، - وهو صاحب أطروحات كثيرة في هذا المجال- "فإن هذا المنهج يقوم على أساس يشبه الفسيفساء التي تضم قطعا من أشكال وألوان متباينة، ولكن ضمن إطار مشترك يحافظ على بعض الأساسيات، مع السماح بالتباينات الثقافية والاجتماعية التي تزيد ثقافة المجتمع ثراء، وعلى هذا الأساس فإنه يتعين على المهاجرين الجدد، احترام الأسس الديمقراطية للحكم في الأوطان الجديدة، وتعلم اللغة السائدة، واحترام التاريخ الوطني للبلدان التي يأوون إليها".

والآن وبعد مرور ما يربو على ستة عقود من حكم العسكر في الأوطان العربية، وما تبعها من تردٍ في كل مناحي الحياة، هل يعيد "الربيع الجديد" شيئا من الأمل؟ وهل تتوقف موجة الهجرة والنزوح هذه؟... قد يستغرق الأمر بعض السنوات، ولا أريد أن أقول عقودا أخرى.

 

back to top