... عن مثقف عربي كبير !

نشر في 23-08-2012
آخر تحديث 23-08-2012 | 00:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري تعاني الثقافة العربية المعاصرة مشكلات عدة؛ أبرزها "الخفة" التي تؤخذ بها قضاياها، خاصةً في أوساط الشباب، تليها مشكلة "المثقفين" المحسوبين قادةً للثقافة العربية، وهم لم يتحرروا بعد من مشكلاتهم الشخصية! وأود التوقف لدى هذه "المشكلة" التي تنخر في جسمنا الثقافي العربي، مركّزاً على ظاهرة "أدونيس" الذي يعتبره البعض نموذجاً للمثقف العربي "القيادي"!

ما يدعوني إلى ذلك المقالة التي كتبها قبل أسبوع بشأن: معاناة المتنبي في حلب. كانت المقالة– من أولها إلى آخرها– محاولة "للعب على الحبلين"، فإن انتصر هؤلاء كان بها، وإن صمد أولئك فليكن! وهذا غير لائق أخلاقياً وإنسانياً، فقد نُشرت المقالة والمدينة تتهيأ "لأم المعارك" حيث يمكن أن يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومن الواضح أن القصد من المقالة هو تجنب اتخاذ موقف من الصراع، مع إظهار "الاهتمام" بما يجري في المدينة وذلك غير مستغرب من الكاتب الذي غيّر موقفه مما يجري في سورية عدة مرات! لأسباب طائفية خاصة به، فقد كان مؤيداً للنظام، ثم انقلب عليه، ثم عاد إليه ومازال يضع رجلاً هنا ورجلاً هناك.

كان صاحبنا "علمانياً" حتى قيام الثورة الإسلامية في إيران، عندها انقلب إلى تأييدها وجرت بينه وبين المفكر السوري، أستاذ الفلسفة الجامعي، الدكتور صادق جلال العظم مواجهات فكرية يذكرها المثقفون العرب، فلما أسرفت الثورة في توجهها الديني، وجد أنه من الصعب عليه الاستمرار في تأييدها، فاتخذ موقفاً مضاداً.

وكان يمارس علمانيته في باريس بطريقة عجيبة، كان يلتقي بالشباب الخليجي المعجب ويقول لهم: "الأنظمة العربية كلها فاسدة، عدا النظام السوري"... الذي ينتمي إليه طائفياً! وعندما كانت تحل "جائزة نوبل في الشعر" كل عام، كان يوحي لتلامذته أنه سينالها، فينشر ذلك في الصحف العربية، ويتم الإعلان عن الجائزة، وتذهب لغيره من الشعراء، وهو يعلم تمام العلم أن "نوبل" لا تذهب إلا لمن تصالح مع إسرائيل رسمياً، وهو ينتمي إلى دولة تسمي نفسها جبهة ممانعة ومحور مقاومة، وهو يؤيدها بحكم الصلة الطائفية... فكيف يستقيم الأمر؟ المعيب أنه يقف على باب "نوبل" كل عام ويشحذ الجائزة، باسم الثقافة العربية والمثقفين العرب.

وهو صاحب سجل حافل في المواقف "الإيديولوجية" المتناقضة، في البداية كان قومياً سورياً من أتباع أنطون سعادة أيام سيادة المد القومي العروبي، وقد ساهم في حركة "مجلة شعر" في ذلك الوقت. ولا اعتراض على القائمين بها لقناعاتهم الإيديولوجية، ولكن "التجديد" الفني الذي زعموه كان رديئاً للغاية، فقد كان شعرهم الجديد، عبارة عن ترجمات ركيكة عن الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو أي لغة أخرى.

وأدونيس كاتب ماهر ماكر، فهو صاحب أسلوب عربي سلس يتضح ذلك في كتاب "الثابت والمتغير"، وليس مفهوماً لماذا أيد كاتب بهذا البيان الناصع ذلك "التجديد" الركيك؟

وقد ظل صاحبنا معادياً للتيار الناصري حتى وقعت الهزيمة، هزيمة 1967 فأصبح "ناصرياً" وأصدر مجلة "مواقف" في بيروت! وظل الرجل يغير مواقفه الإيديولوجية، وقيل إنه اعتنق المسيحية، ولكن "شيئاً ما" غلب عليه وجعله يؤيد النظام القائم في دمشق، فكثير من المسيحيين الشرفاء وقفوا موقفاً مغايراً، وقد علق أحد الخبثاء بأنه يستخدم المسيحية في لبنان، والإسلام في سورية!

وكما كان الرجل صاحب بيان ناصع، فقد كان شاعراً كبيراً، لابد من الاعتراف له بذلك، وقد كتب عنه الناقد الكبير المصري الراحل رجاء النقاش "أيها الشاعر الكبير... إني أرفضك"– تأكيداً لشاعريته ورفضاً لأفكاره!

وقد أجريت معه عام 1996 "حوار المختلفين" في البحرين، وهالني أنه يرى أن كل موقف رفض في التاريخ الإسلامي، كما عبر عن ذلك في كتاب أطروحته "الثابت والمتحول"، أفضل من أي موقف آخر! وهذا يعني أن الخوارج كموقف رفض "متقدمون" على الإمام علي الذي حاربوا معه ثم انقلبوا عليه وحاربوه... وقتلوه! وحقيقة الأمر أن "الخوارج" ينتمون إلى قبيلة تميم في شرق الجزيرة، ولم يكونوا يريدون الانتماء إلى دولة قريش، بل يريدون هدمها. قد تصوروا في البداية أن الإمام علي يريد هدم الدولة، فلما اكتشفوا أنه يريد إصلاحها لا هدمها، فهو قرشي، وله موقف مؤيد للدولة وسلطتها السياسية، كما عبر عن ذلك في "نهج البلاغة": "لا بد للناس من أمير بر أو فاجر... إلخ" انقلبوا عليه وقاتلوه وقتلوه، رضي الله عنه.

وأدونيس بذلك الرأي قد ساير الموجة الثورية "السائدة عربياً" عندما كتب أطروحته، وقد حدثني أستاذنا الدكتور كرم رحمه الله، وكان مشاركاً في لجنة تحكيم الأطروحة في "اليسوعية" أنه سأل أدونيس بصراحة ومباشرة: هل أن جذوره الطائفية أملت عليه ما أبداه في "الثابت والمتحول"؟ وقد كان الدكتور كرم كاثوليكياً محباً للأدب العربي، وكان يحدثنا بالفصحى حتى خارج الفصول... وظل على هذا الموقف- لم يغيره- إلى أن توفاه الله في يونيو 1979م.

أكتب هذا، والبحرين بقي عليها ثلاثة شهور كعاصمة للثقافة العربية، وقد قامت وزارة الثقافة البحرينية بجميع الفعاليات الثقافية في الأشهر المنصرمة، والحق أن البحرين نالت هذه المكانة المستحقة بفضل جهود الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة حفيدة الشيخ إبراهيم بن محمد شيخ الأدباء ورجل النهضة الثقافية الأول. ولم يكن أدونيس ضمن المدعوين إلى أي فعالية، وسواء دعي واعتذر أو لم يُدع فالأمر سيان، والمهم أن يكون بعيداً عن هذا الحدث فحضوره لا يشرف أحداً، وقد كان حوله العديد من التلامذة والمعجبين والأتباع في البداية، لكنهم انفضوا واحداً بعد الآخر، وبعضهم كتب عما شاهد ورأى من تناقضاته "وتحولاته".

كتب الكاتب البحريني المعروف سلمان الحايكي مقاله المنشور في "أخبار الخليج" بتاريخ 19 مايو 2007 بعنوان "بعد أن خذله الزمن ومعطيات الكون أدونيس يفقد ميزة الإبداع وقوة التأثير"، ويقرر الحايكي أنه كان مأخوذاً بشعر أدونيس مع أفراد جيله، ولكن هذا "الشاعر" فقد الكثير من تأثيره "وفي آخر زيارة للبحرين، لم يقدم الشاعر العربي الكبير أي جديد واكتفى بأمسية شعرية باهتة، قرأ فيها ما هو قديم، ولم يلاق اهتماماً كبيراً أو تجاوباً...".

ويقول الحايكي في نهاية هذه المقالة: "ومن واجبه اليوم أن يصدر بياناً يعترف فيه بجموده ويفتح الطريق لتلامذته، حتى يتحرروا، ويتنازل جذرياً عن دكتاتوريته ويكون على درجة عالية من الشفافية ...".

* أكاديمي ومفكر من البحرين

back to top