جورج مغامس في «رجل في مرآة متكسّرة»...

نشر في 17-12-2012 | 00:01
آخر تحديث 17-12-2012 | 00:01
No Image Caption
ذاكرة لا تسمح للنسيان بافتراس جروحها

ليس بالأمر السهل أن يستطيع كاتب السيرة تجسيد قامة وحياة إنسان آخر، غير أن من يكتب عن ذاته يُعاني صعوبة أكبر، فنحن حين نعيش، لسنا كما نحن حين نكتب أنفسنا... ماذا عن جورج مغامس في «رجل في مرآة متكسرة».
يعترف الأديب اللبناني جورج مغامس، في بداية جديده «رجل في مرآة متكسّرة»، أنّ كتابه ليس أسير أيّ نوع أدبيّ، وأنّه يكتب استجابة لحبر تجيش نفسه به: «لوحاتٍ ذراراتٍ من سيرة، من تاريخ، من عبثٍ مُمِضٍّ...» ولا يتأخّر قارئ رجل المرآة المتكسِّرة في اكتشافه أنّ ما يقرأه شكلٌ حرّ من أشكال السيرة الذاتيّة، لا يلتزم إلاّ بحرية الكاتب المطلِق أسراب كلماته في السماء التي تروق لمزاج قلمه ذي العلاقة الذهبيّة مع ذاكرة لا تسمح للنسيان بافتراس جروحها، وقلبٍ يتوزّع حُبًّا على الله والأرض والإنسان.

من يقرأ جديد مغامس يجد رَجُلاً متشظّيًا أمام مرآة لم تستطع جمعه، فيدخل إليها كما هو، ويقع الالتباس لأنّ المرآة لا تنفصل عن الصّورة التي تتبنّاها. لكنّ جمال مَن يوصي فضّة المرآة بجروحه هو أنّ الحياة شظّته ليصير متعدِّدًا في ذاته تعدُّد القيم النبيلة التي تنازل عن عمره لها نضالاً ثمنه غربة عن أكثر من جغرافية، وغربة عن الذات... وقد يكون ما أبقى مغامس حيًّا هو أنّه لم يقع يومًا في غربة عن الكلمة.

يكتب جورج مغامس لغة ممتلئة من ذاتها، مثلما هو ممتلئ من ذاته، وصندوق مفرداته «صندوق جهاز»، كما يقول اللبنانيون، فيه من المفردات ما يكفي لألف عرس لغويّ ساحته بياض الورق. وجملته تخضع لهندسة دقيقة في صياغتها أوّلاً، ثمّ في علاقتها مع أخواتها، فهو يخلّصها من لعنة الثرثرة ورتابة الشائع والمألوف قبل أن يُدخلها ذمّة الورق، وكثيرًا ما يحرص على إيقاع يوزّعه بينها وبين جملة تليها، بذلك يخصّ نثره بنعمة لطالما خُصّ بها الشّعر: «ومع أولى خيوط الشمس على المدينة، تسرّبت أولى خيوط النعاس إلى عينيه».

ومغامس، نحّات اللغة، وصاحب الإزميل الذي يتقن التعاطي مع التفاصيل الصغيرة في أجساد الكلمات، يفعل ولا يفتعل، يفعل بانفعال لا تؤذيه الصّناعة إنّما تبقيه بكلّ ما فيه من حياة وهي تهدي إليه الإطار الجمالي اللائق به. نعم، إنّ مغامس صَنّاع كتابة على خبرة عتيقة، وله بلاغة خاصّة ترتكز على اثنين: ثراء قاموسيّ على دقّة في اختيار الكلمة التي لا تأذن لغيرها بالحلول مكانها، ومجاز فيه من الخيال ما يقرب على غير ابتذال وسهولة، وما يبعد محافظًا على زَبَد المعنى، من دون أن يصبح أسير دائرة الطلسمة والهذيان: «فكأنّك قلت إنّ المال ربّ الأرض، وإنّ الله ربّ السماء، وهما ضدّان ولن يلتقيا؛ فلن تكون الأرض المائدة التي يُكسر عليها خبزُ السماء!».

مرارة عند باب النصّ

مغامس مَدِين للحرب بكتابه. وهي تقف بكلّ ما فيها من مرارة عند باب النصّ – أو المشهد الأوّل. إلاّ أنّ الأمومة سطت بألمها العظيم على الحرب، فأمّ الكاتب المستعدّ لارتداء شراع السفر تقفز رغمًا عنها عن شرفة الحياة: «... وما أن بلغ بابه المشرّع حتّى أطلّ على النسوة السّود، حول مُسَجّاها الأبيض، فصرخن بعويل واحد يصدّع الفرائص: قومي استقبليه... قومي».

ولا يطيل مغامس الكلام ليعلن وجَعَه الوجوديّ، فهو المؤمن لبنانيًّا «برسالته الوطنيّة في سبيل الوجود والكيان». لكنّ وجدانه صدّق ما رأته عيناه، وما سمعته أذناه، وعرف الثائر، يقينًا، أنّ القضيّة تراجعت أمام شهيّة أصحابها إلى الكراسي والحسابات المصرفيّة، فاعتمر ندمه تاجًا من الشوك ثقيلاً. «فالظنّ أنّ عمرًا بريئًا منه تفتك به سود الغربان، يغيظه من الوريد إلى الوريد». ومغامس في سرده متحوّل من ضفاف إلى ضفاف، وعارف كيف يحافظ على مزاجه الكتابيّ بينما هو يقطف معنى ويتّجه نحو آخر بعيد. ولقد زار الجسد هاربًا من يأس ليس ابتسامه مختلفًا عن ابتسام ليث المتنبّي، ضاربًا نواقيس عالية في قباب اللّذّة: «ولئلاّ يفترسه اليأس، انقاد بلا وعي تعويضيّ، نحو الجسدانيّة، يمجّدها بالهمس واللمس والغمس... واستولى عليه الشبق. وصار لشبقه رائحة كرائحة الغابات بعد شمس وشتاء».

ولم يفت الرّجل الساكن شظايا مرآته أن يدلّ على قرية تُشظّيها المدنيّة والعولمة، فيقف تحت قرميد ذاكرته معانقًا أمسه، راثيًا زمن الجمال والبراءة والقصيدة: «فبلغ مكانًا مشرفًا على قرية تداخل فيها الجديد بالقديم... لكنّه أشاح بنظره عن البشاعة إلى تلك الطمأنينة المفقودة التي، ولا شكّ، كانت تنعم بها هذه القرية، كما سائر القرى، قبل أن يغزوها مفترسان: المدنيّة الزّائفة، والعولمة القابضة...».

بين بوح وآخر

أمّا الحرب فهي سرير السّرد ووسادته واللحاف، وتحضر بلا استدعاء بين بوح وآخر، ومغامس يستقبلها في نصّه بفجاجتها وصراحتها ووقاحتها دون أن يشذّب لها كلامًا أو يقصّ لأصابعها الأظافر: «قتلوا منّا الأب والأخ وفلذ الأكباد. قتلوا العجائز... قلّموا الأظفار. سملوا العيون. فجّوا الرؤوس. بقروا البطون. بتروا الأطراف. غدروا بنا. خانوا الخبز والملح. حتّى الذئاب لا تفعل بالخراف ما فعلوا...».

وإذا كان مغامس ابن زمن الحداثة بكلّ أبعادها، فهو يعانق جذور الشجرة قبل أن يقبّل رأسها، وحين تغزو شباك المصائب بحرَه يلجأ إلى وجدانه ويستحضر أجداده في مرايا ذاكرته غير المتكسّرة، ويملأ صدره من رحيق جباههم ليكتسب القدرة على المواجهة بفرح الرجال الذين لا تترك لهم الريح وقتًا ليشتكوا: «كان من عاداته أن يستهلم من صبر الآباء والأجداد... عبق أرواحهم لفحه، واشتمّ له رائحة في أنفاس جِلدِه...».

متعدّدة هي حدائق المعاني في جديد مغامس الذي لولا الفجيعة لما دعاها إلى ربيع الورق الذي لا يذهب به حرّ صيف أو برد شتاء، وهذه الفجيعة قد يكون الكاتب مختصرًا إيّاها بقوله: «مضى الوقت. مضى العمر. على كرسيَّ اقترعوا، وفي سريري ينامون. لكنّ رؤاهم غير رؤاي، وأحلامهم غير أحلامي». فمن هم هؤلاء الذين خبّأهم مغامس في «واو الجماعة»؟! نعم، إنّهم «هُم»، هم الذين كانوا قريبين من كرسيّه وسريره. هم الذين، ربّما، بينهم وبين مغامس خبز وملح فحاول أن ينسى طعم الخبز أمّا ملحهم فلا ينسى!!!

«رجل في مرآة متكسّرة» كتاب يسكنه رجل لا تحتمل فضّة المرايا صدقه، فتتعدّد المرايا لتتّسع له، لكنّه لا يتشظّى.

back to top