عنصرية الربيع وظلم الخريف
لا أدري من بدأ تاريخياً في استعمال كلمة «الربيع» كتوصيف للثورات أو التظاهرات أو الاحتجاجات التي تحصل ضد الطغيان والأنظمة الجائرة والمستبدة.لكن من خلال القراءة، أعرف أنها أكثر ما استعملت بعد «ربيع براغ» في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، هذا «الربيع» الذي كان تتويجاً لحراك مستتر ضد الرعب الستاليني الذي بدأت فصوله مع نهاية الأربعينات في أوروبا الشرقية، وفي بداية التسعينات من القرن الماضي تكلل «ربيع براغ» بالنجاح بعدما كانت سحقته الدبابات السوفياتية عام 1968، في بلد كان مهيئاً اجتماعياً وثقافياً للتحول، وقادراً على الانتقال إلى الديموقراطية بسبب قربه من ظاهرة الحداثة في أوروبا الغربية.
ليس هذا هدفنا، بل نريد القول إن ثمة ظاهرة سائدة في العالم تسمي تظاهرات الشعوب ضد الأنظمة التوتاليتارية بـ{الربيع»، من أوروبا الشرقية حيث تهاوت تماثيل ستالين والمنظومة الشيوعية إلى الصين الشعبية وربيع بكين بعد تظاهرات تيان آن مين، ثم في «إيران الخمينية» حيث أطلق على الاحتجاجات توصيف «ربيع طهران» أو «الثورة الخضراء».ولا ننسى ما يجري في بعض بلدان العالم العربي حالياً من تونس إلى مصر وليبيا وسورية واليمن، إذ باتت كلمة «الربيع العربي» ممجوجة لكثرة استعمالها في التوصيف الإعلامي وفي خطب السياسيين والناشطين والمثقفين.السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، لماذا يلجأ أهل السياسة والإعلام والثقافة إلى اختيار الربيع لتوصيف مشهد سياسي جيد؟(!)، أو يتم اختيار الخريف لوصف الطاغية أو الظالم الدكتاتوري في أيامه الأخيرة؟!إذا عدنا إلى فلسفة الطبيعة أو الواقع نجد أنه لا يمكن الفصل بين فصول السنة، ولا يمكن عزل الربيع عن الخريف أو الشتاء، فما يقدمه الربيع من زهور وثمار ونبات وعشب، لا ينفصل عن حركة الطبيعة في الخريف الذي يحمل المطر والندى ويتوشح بالغيوم الطويلة.من قال إن الخريف قبيح حتى يستعار اسمه لتوصيف الطاغية في أيامه الأخيرة، فالخريف نفسه له جماله ورونقه ومشهديته وإن تساقطت فيه أوراق الشجر وهاجرت الطيور، وإن ظهرت ملامح الكآبة والذبول. إذا أردنا أن نكون «شاعريين»، فنجد أن ثمة «عنصرية» ثقافية وسياسية في تمجيد الربيع، وثمة ظلم يلحق بالخريف الذي له جماليته وإن كان رمزاً للموت في الوجدان الشعبي. ويا حبذا لو كان الطغاة يشبهون الخريف، ويا حبذا لو يكون إسقاط الأنظمة ربيعاً فعلياً. فالواقع غير التمني، والطموحات أقل من الممكن، وما يشهده العالم العربي اليوم هو بداية طريق طويلة يمكن وصفها بالتحولات ولم يصلها الربيع بعد، أو لا هي ربيع ولا هي خريف، شيء من حيرة معقدة، الجميل فيها هو التخلص من وجوه حكام وفراعنة وصلوا إلى الكرسي منذ زمن الأجداد... العودة إلى بعض القواميس التراثية العربية قد تفيدنا في توصيف معنى الخريف والربيع، فقد قال أَبو حنيفة: يسمى قِسما الشتاء ربيعين: الأَوَّل منهما ربيع الماء والأَمطار، والثاني ربيع النبات لأَن فيه ينتهي النبات مُنْتهاه، قال: والشتاء كله ربيع عند العرب من أَجل النَّدى، قال: والمطر عندهم ربيع متى جاء، والجمع أَرْبِعةٌ ورِباعٌ. وذكر أَبو حنيفة: ليس الخريفُ في الأَصل باسم الفصل، وإنما هو اسم مطر القيظ، ثم سمي الزمن به، والنَّسَبُ إليه خَرْفيٌّ وخَرَفيٌّ، بالتحريك، كلاهما على غير قياس.قيل:- أن يهتمّ المرء بالفصول المتغيرة أسعد له من أن يحب الربيع بلا طائل.جورج سانتايانا (كاتب وفيلسوف وشاعر أميركي)- يكسب الخريف تعاطفك بمناشدته الصامتة للتعاطف مع ذبوله.روبرت براوننغ (شاعر وكاتب مسرحي إنكليزي)