خرائط الواقع الاجتماعي... أم بكائيات الأندلس؟!

نشر في 11-08-2011
آخر تحديث 11-08-2011 | 22:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري أصبح العربي، بتضخم الأندلسيات وإغفال الاجتماعيات، كالماشي في طريق مظلم وهو يتطلع إلى النجوم البعيدة، ولا يعلم عن الحفر الخطيرة التي تعترض طريقه، ويمكن أن يقع فيها... والتي يقع فيها بالفعل، أحياناً كثيرة!

من عوائق "الذهنية العربية المساندة" ميلها وانشدادها إلى ما هو خيالي وعاطفي ونفورها من الواقع وتفصيلاته وجزئياته وإن كان مؤثراً في حياة أهلها ومصيرها إلى أبعد الحدود!

والمدهش أن "ثقافة النهضة"، بحكم ظروفها، ركزت على الجانب الرومانسي التاريخي وعلى "الإحياء الأدبي والشعري" الذي لم يقصر فيه أدباء النهضة كسامي البارودي وأحمد شوقي، وجبران، وحافظ إبراهيم، لكنه لم يكُن كافياً لتأسيس نهضة فكرية بمعنى الكلمة.

فمثل هذه "النهضة" كانت تتطلب أولاً تطبيق المنهج الواقعي، لا الرومانسي، على التاريخ الإسلامي الذي وجد جورجي زيدان أن رواياته العاطفية عنه هي مطلب الجمهور! كما كانت تتطلب تحليلاً للواقع الاجتماعي الذي يعيشه العرب في وقتهم، وهو واقع تخلف تحت الاستبداد العثماني الذي أدى إلى "هزائم" متكررة أمام الأطماع الأوروبية، في حين كان بلد شرقي كاليابان "ينهض" نهوضاً مكّنه من الانتصار على تلك الأطماع والقوى التي تقف خلفها!

وكان "الهم الاجتماعي" مرافقاً لكاتب هذه السطور منذ وقت مبكر: ("إن نزعة التحليل الاجتماعي" ذات الحس التاريخي الواقعي هي حلقة الوصل الضرورية التي نحتاج إليها... وهي أشد ما أفتقر إليها في أغلب مراحل النهضة الحديثة، وهي النزعة التي أشاح عنها الجمهور عندما برزت لدى عدد من كتابنا القلائل)- ت-4- "جديد النهضة"، ط1، "المؤسسة العربية"، "بيروت 1992، ص 97 – 98 ". حتى يومنا هذا لو قست مساحة الأندلسيات ووجدانياتها في ثقافتنا العربية الراهنة لوجدتها تفوق حجماً الدراسات الاجتماعية المعنية بتشخيص الواقع العربي والجهود العلمية المبذولة لتأسيس علوم اجتماع عربي.

لقد فرضت النزعة الرومانسية في النظر إلى التاريخ، مثل هذا الخلل، وأصبح العربي، بتضخم الأندلسيات وإغفال الاجتماعيات، كالماشي في طريق مظلم وهو يتطلع إلى النجوم البعيدة، ولا يعلم عن الحفر الخطيرة التي تعترض طريقه، ويمكن أن يقع فيها... والتي يقع فيها بالفعل، أحياناً كثيرة!

لذلك فلا عجب إن وجدنا أنفسنا كعرب منتشين بالعنتريات التاريخية التي تغذينا بها، بينما أوضاعنا الحقيقية المائلة لا تتماشى مع ذلك المستوى "الوردي" من الأمجاد التاريخية... فنحن ندعي أفضل المبادئ... ونعيش أسوأ الأوضاع!

ومن عجب أن ابن خلدون، صاحب "المقدمة" التي لم نستوعب مغزاها ومنهجها العقلي في تفسير التاريخ بعد قادم إلينا من الأندلس... ولكنا ما نزال أكثر انجذاباً إلى غراميات "ولادة" مع "المعتمد بن عباد" وأشعاره الغزلية!

أليس "الشعر ديوان العرب"... والنثر ثقيلا مملا رغم أنه "لغة العصر"؟! منذ زمن هيغل الذي نبّه إلى هذه الحقيقة الجديرة بالتأمل... وهي مسألة مهمة وحيوية يبدو أننا لم نستوعبها بعد!

هذا جانب مهم في تغليب الأندلسيات الرومانسية على الاجتماعيات الواقعية، لكني ألمح سبباً آخر وراء هذا "التغليب"، هو أن الكتابة في الأندلسيات- كموضوع وجداني بعيد عن واقعنا الساخن المعيش- "أسلم" للكثيرين من التصدي لمشكلاتنا الاجتماعية التي لا تخلو من أبعاد سياسية. لهذا كثرت الأندلسيات أيضاً- خصوصاً في البلدان العربية والإسلامية "الحساسة" وندرت الواقعيات عندما تم التأسيس للثقافة العربية الحديثة، ابتداءً من الثلاثينيات إلى الستينيات من القرن الماضي، وتحديداً إلى هزيمة يونيو 1967، وذلك بعد أن أصبحت "العنتريات" التاريخية، لدى أغلبية الباحثين مسألة ممجوجة، (ولا أقول أغلبية القراء الذين مازالوا في رومانسيتهم)!

ولا بد لي أن أوضح لماذا أصدرت كتابي "الأندلسي" عن "ابن سعيد المغربي" (الأندلسي، وآثاره) والذي طبعه ونشره مشكوراً صاحب دار الغرب الإسلامي عام 1992، بعنوان (التفاعل الثقافي بين المشرق والمغرب في آثار ابن سعيد... إلخ)، أشعر بالأسف لأن الجهد الذي بذلته فيه عندما كنت أعده كأطروحة ماجستير، بإشراف أستاذي د. إحسان عباس، رحمه الله، الذي كان المرجع العربي الأول في الدراسات الأندلسية والتراثية عموماً، ذلك الجهد كان يمكن بذله في دراسة اجتماعية واقعية.

ولكن قلة الأساتذة المؤهلين للإشراف الجامعي على مثل تلك الدراسة يؤكد هذا الذي نذهب إليه في هذه المقالة!... ثم إنني اخترت "منهج البحث" لدى إحسان عباس أكثر من اختياري لابن سعيد صاحب الجذور الأندلسية!

ولو أن أستاذي المشرف اختار لي موضوعاً آخر لما ترددت في الموافقة عليه، لكن اختصاصه أندلسي وهو صادق، كأستاذ أكاديمي، مع نهجه العلمي رحمه الله. وعذري أن الكتاب، برمته، بحث علمي ورؤى فكرية وليس رومانسيات.

ومسألة سيادة "الأندلسيات" في ثقافتنا العربية وحجبها للاجتماعيات لا تختص بتاريخ العرب في الأندلس، وحده بل تتناول تاريخ العرب في مجمله.

لم يحدث، بعد، أن نشأت لدينا مدرسة نقد تاريخي تميز بين "الإسلام الإلهي" المتمثل في الكتاب والسنّة الصحيحة وبين "الإسلام التاريخي" الذي هو نتاج اجتهاد المسلمين وصراعاتهم وأخطائهم وتأثرهم بنظرات عصورهم، ابتداءً من توقف الوحي بوفاة النبي الكريم.

لقد انعكس هذا "التمييز" الذي لا بد منه لأي "تجديد" إسلامي في كتابات فردية، لكنه لم ينعكس- للأسف- في مدرسة نقدية ثابتة تخاطب الوعي الإسلامي العام الذي ما زال باحثاً عن البطولات الرومانسية والعنتريات البعيدة عن الواقع والتي ترفض الأخذ بحقائقه.

الفتوحات العربية الإسلامية كفتح الأندلس وغيرها من البلدان، وكذلك "الفتوحات" العثمانية التي اجتاحت شرق أوروبا، لا يمكن أن تعود لأن الظروف الموضوعية التي ساعدت على نجاحها لم تعد قائمة. وثمة متطلبات أخرى للقوة العسكرية في عالم اليوم لابد أن يستوعبها العقل المسلم.

يقول القرآن الكريم: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..."، إن "القوة" هي العنصر الثابت، ولا بد لفقهاء الإسلام ومفسري القرآن من التركيز على مقصد التشريع.

أما "رباط الخيل" فقد جاء في السياق لتوضيح مفهوم "القوة" في تلك العصور، أما التمسك بحرفية النص فهي معركة خاسرة منطقياً وعملياً.

إن طائرة "هيلكوبتر" واحدة ليست من الأحدث- وهي بالعربي الفصيح طائرة سمتية- يمكن أن "تبيد" أقوى الخيول العربية وراكبيها في طرفة عين!

وهناك "ضبابية فكرية" بشأن اجتماع سقيفة بني ساعدة.

والتاريخ يذكر أن "المهاجرين" لم يندفعوا إلى ذلك "الاجتماع" إلا بعد أن قيل لهم إن الأنصار يريدون- بعد وفاة النبي- أخذ الخلافة والانفراد بها. وقد حصل "تدافع" في ظل تلك السقيفة بين هؤلاء وأولئك كاد يؤدي إلى مواجهة بالأيدي. ولكن عدداً من "المفكرين" الدينيين يرون في ذلك الاجتماع... اجتماعاً برلمانياً! وإذا كنا نرى أن أعضاء البرلمانات الحديثة يتصارعون بالأيدي، فذلك لا ينفي كون اجتماع بني ساعدة اجتماعاً برلمانياً.

ولكن ثمة أسئلة أخرى... يقول أحد الرجال المهمين الذين حضروا الاجتماع وأسهموا في توجيهه الوجهة التي اتخذها، وهو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إن "بيعة أبي بكر كانت (فلتة) وقى الله شرها". وبيعة أبي بكر كانت أهم ما تمخضت عنه "السقيفة". واجتماعها لم يتكرر حتى في تاريخ الخلافة الراشدة. وإنما أوصى أبوبكر لعمر، وتولى عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب الخلافة بطريقتين مختلفتين. فهل من سبيل لمناقشة ذلك؟!

*مفكر من البحرين

back to top