السينما المصريّة: بين الواقع... والغرائبيّة!

نشر في 22-07-2011
آخر تحديث 22-07-2011 | 00:01
No Image Caption
 محمد بدر الدين عرف فن السينما، منذ انطلاقته، نموذجين، شأنه في ذلك شأن الأدب، هما: الدراما الواقعية والدراما التي تتجاوز الواقعية.

ليست الواقعية محاولة لنقل الواقع أو مجرد محاكاة له، إنما هي رؤية الفنان (السينمائي أو الأديب وغيرهما) للواقع، عبر تأملات أو خواطر حول واقع معين، مع اجتهاده لإتقان تصوّر وتجسيد بيئة معيّنة من الواقع.

وإذا كانت رؤية الفنان للواقع نقدية فنكون أمام «واقعية نقدية»، وإذا كانت اشتراكية فنحن إزاء «واقعية اشتراكية»...

تنتمي رواية الأديب نجيب محفوظ «بداية ونهاية» مثلاً إلى الواقعية النقدية، وكذلك فيلم المخرج صلاح أبو سيف عن الرواية نفسها وبالعنوان ذاته.

ثمة أمثلة هامة وقيّمة للفيلم الواقعي المصري من «السوق السوداء» لكامل التلمساني، إلى «الفتوة» لصلاح أبو سيف، إلى «الأرض» ليوسف شاهين، إلى «سواق الأتوبيس» لعاطف الطيب، إلى «الطوق والأسورة» لخيري بشارة، إلى «بنتين من مصر» لمحمد أمين...

في هذه الأفلام توافر أمران منحاها أهمية وقيمة، هما إتقان تصوير بيئة معينة من الواقع والتعبير عن رؤية فكرية لهذا الواقع وليس مجرد التصوير.

في المقابل، تتّجه طبيعة المعالجة الدرامية في أفلام أخرى إلى تجاوز الواقعية، لكن إلى أين؟ إلى تصوير بيئة أخرى متخيلة، يحلّق فيها خيال الفنان ويتخطى مفردات الواقع وتراكيبه، إلى عالم آخر له قسماته الخاصة وطابعه البصري والسمعي المخالف للواقع المعروف أو المتعارف عليه.

وفي هذه الحالة... ثمة تسميات أو اصطلاحات عدة من بينها: التجريبية، السوريالية، الفانتازيا، الغرائبية...

قد تأتي هذه الأشكال في إطار كوميدي، وإن كانت الكوميديا ذاتها، بحكم طبيعتها، تبتعد مسافة عن الواقع والواقعية، اللذين لا يكون فيهما التركيز على روح الفكاهة التي نجدها في الكوميديا والمبالغة في تلك الروح بدرجة أو أخرى.

والحقّ أن السينما المصرية، كما شهدت نماذج متفاوتة القيمة في الفيلم الواقعي وفيها أعمال مرموقة ورفيعة، قدّمت أيضاً نماذجها من السينما التي تتجاوز الواقع سواء إلى فانتازيا أو غرائبية...

لكن يشترط في هذه الأعمال، لكي تحقّق أهمية وقيمة، ألا تكتفي بالشكل والانطلاق فيه وأن تعبّر، إلى جانب التصوير لواقع متخيّل بعيد عن واقعنا الذي نعرفه، عن رؤية أو وجهة نظر للحياة التي نعرفها والعالم أو الكون الذي نعيش فيه، وذلك قاسم مشترك بين مذهب الواقعية وأشكال ودرجات وآفاق تجاوزها المختلفة.

على سبيل المثال: في إطار حركة تجديد السينما المصرية التي بدأت مع بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، رأينا أفلاماً كتبها رأفت الميهي وأخرجها من أهمّها: ثنائية «الأفوكاتوـ سمك لبن تمر هندي»، متجاوزاً الواقع إلى فانتازيا وعالم غريب، لكنه عبر من خلاله عن الواقع والعالم الحقيقي الذي نحياه.

وفي أعقاب ذلك رأينا أفلاماً كتبها ماهر عواد وأخرجها شريف عرفة من بينها: «الأقزام قادمون»، «الدرجة الثالثة»، «يا مهلبية يا»، «سمع هس»، ثم «حب في الثلاجة» للمؤلف نفسه من إخراج سعيد حامد.

يستحقّ عالم ماهر عواد الدراسة لغرابته وفرادته، ولما يحمل من نظرة خاصة ومغامرة في الشكل وتجاوز الواقع إلى عالم رحيب من الفانتازيا والتجريب. وترجع قيمة عالم عواد، سواء بكاميرا عرفة وروحه أو غيره، أولاً إلى أصالة هذا العالم الفني الإبداعي وصدقه.

واللافت أن عدداً من مخرجينا البارزين بدأوا مشوارهم بأفلام تتجاوز الواقعية، إلى عالم من الغرابة أو روح الفانتازيا أو التجريب. هكذا بدأ شاهين مشواره في أول أفلامه «بابا أمين»، محمد راضي في أول أفلامه «الحاجز»، مدكور ثابت في أول أفلامه «صورة» (روائي قصير)، ومحمد شبل في أول أفلامه «أنياب».

كذلك تجاوز خيري بشارة الواقعية في مرحلته الثانية التي بدأها بفيلم «كابوريا»، ولداود عبد السيد اجتهاداته في هذا المضمار مثل «البحث عن سيد مرزوق»، وليسري نصر الله اجتهاداته مثل «مرسيدس»، ولأسامة فوزي اجتهاداته مثل «عفاريت الأسفلت»، ولمحمد أمين اجتهاداته مثل «ليلة سقوط بغداد»...

هكذا نلاحظ أن أفضل محاولات في هذا المجال، تتجاوز الواقعية، لتشكِّل عالماً آخر يوازي واقعنا الحقيقي وبالقدر نفسه ليعبّر العالم الجديد المتخيل الغرائبي عن واقعنا وعن رؤية، عبر شكل مختلف، لحياتنا أو عالمنا الذي نحياه.

back to top