كيم الثالث... قائد كوريا الشماليَّة الغامض

نشر في 31-12-2011 | 00:02
آخر تحديث 31-12-2011 | 00:02
مع موت الحاكم المستبد كيم جونغ إيل، ورث ابنه بلداً يواجه مستقبلاً غامضاً، بلداً يحلم كثر فيه اليوم بالازدهار والرخاء الغربيين. «شبيغل» سألت: ماذا سيكون تأثير إمساك كيم جونغ أون بزمام الحكم في علاقات هذا البلد المستقبلية مع جارته كوريا الجنوبية وغيرها من دول؟

كان الطقس بارداً في ذلك المساء مع تدني الحرارة تحت الصفر. لكن مما لا شك فيه أنهم كانوا سيخلعون معاطفهم قبل التوجه إلى تمثال كيم إيل سونغ، فقد تعلموا أن هذه الخطوة دليل احترام. هذا ما فعلوه يوم الاثنين في 19 ديسمبر الجاري حين أعلنت مذيعة الأخبار وهي تجهش بالبكاء أن «القائد العظيم» قد توفي.

صعد الآلاف، من الأمهات والأولاد إلى الطلاب والموظفين وعمال بناء، الدرج العريض المؤدي إلى التمثال المضاء بأنوار ساطعة في بيونغ يانغ. كان كثر منهم يحملون أزهار أقحوان بيضاء في أيديهم. قدم بعض المفجوعين مباشرة من عملهم في المصانع الحكومية، فكانوا يحملون حقائب وأكياس صغيرة فيما ارتقوا السلالم ببطء.

شكّل الناس بصمت سلسلة على طول الدرج. لم يمسكوا بأيدي بعضهم البعض، بل اكتفوا بالوقوف مكانهم، وقد بلل الدمع وجوه بعضهم. على بعد مسافة قصيرة، وقف أجنبي يتأمل هذا المشهد. يعمل في كوريا الشمالية منذ بضع سنوات، لكن في تلك الليلة شعر، على حد قوله، أنه حقاً غريب في هذه الأرض.

لم نلمح أي أثر للفوضى التي توقعها خبراء أجانب كثر طوال سنوات. فقد بدا كما لو أن «القائد العزيز» ما زال حياً وأن هذا الحاكم الكوري الشمالي المبجّل هو مَن يدير مراسم الحداد في العاصمة بيونغ يانغ، التي لطالما بدت أشبه بموقع غير حقيقي في فيلم إعلاني.

تحكم النظام بكامل أوجه الحياة في هذا البلد، وصولاً إلى دموع مواطنيه. فقد يواجه كل مَن لا يبكي غضب السلطات. أفاد رجلا أعمال صينيان عبر شبكة الإنترنت أن الأجانب طُلب منهم النزول من قطار لأنهم لم يذرفوا دمعة واحدة. تلاءم المشهد من بيونغ يانغ، حتى أدق تفاصيله، مع طقوس الحداد التي نظمها «القائد العزيز» عام 1994 بعد موت والده، مؤسس كوريا الشمالية كيم إيل سونغ.

حرب باردة

لا شك في أن العالم تتبع مراسم الحداد والتشييع هذه بخوف، فلم تنتهِ الحرب الباردة بعد عند خط عرض 38 شمالاً. هذا الخط الذي يفصل عالم كيم عن كوريا الجنوبية المزدهرة ديمقراطياً واقتصادياً. تلتزم هاتان الدولتان باطلاق نار هش منذ نهاية الحرب الكورية (1950 إلى 1953)، وترعب كل تجربة صاروخية في الشمال العالم، فضلاً عن أن كل حادث في البحر الأصفر، حيث لا تزال الحدود البحرية موضع نزاع، يؤدي إلى وقوع ضحايا من كلا الجانبين. كذلك، حوّلت تجارب الأسلحة النووية، التي انتهى تطويرها في عهد كيم جونغ إيل، هذا «القائد العظيم» إلى محب للحرب في نظر العالم. لذلك، وصف بـ»المجنون الذي يملك قنبلة نووية».

بعدما سئمت كوريا الجنوبية استفزازات الشمال، قررت إنهاء مسعاها إلى المصالحة مع جارتها. هكذا، صارت {الحرب الباردة أكثر برودة. فقبل سنة، قصفت كوريا الشمالية في نوفمبر عام 2010 جزيرة يونبيونغ الجنوبية الحدودية، وفي مارس من العام نفسه اتُّهمت كوريا الشمالية بإغراقها السفينة الحربية الكورية الجنوبية «شونان» بعدما قصفتها بطوربيد، ما أدى إلى مقتل 46 بحاراً كورياً جنوبياً.

لم يكن قد مرّ على إعلان خبر وفاة كيم جونغ إيل أكثر من 90 دقيقة حين اتصل الرئيس الأميركي باراك أوباما بنظيره الكوري الجنوبي وحثه على توخي الحذر في تعامله مع بوينغ يانغ. فقد سعت الولايات المتحدة للحؤول دون اتخاذ حليفتها الجنوبية أي خطوات متهورة.

يتوقع الأميركيون أن يشهد العالم كثيراً من استفزازات كوريا الشمالية، التي ستحاول عرض عضلاتها وتأكيد عزمها وثباتها. أجرت كوريا الشمالية يوم الاثنين اختباراً لصاروخ قصير المدى. في اليوم عينه، تراجعت أسعار بورصة طوكيو وسيول نتيجة إعلان خبر وفاة كيم.

ندرة المعلومات

اللافت أن مَن سيخلف «القائد العظيم» رجل لم يدلِ بأي تصريحات علنية قبل يوم الاثنين 19 ديسمبر. فلا نعرف ما إذا كان في السابعة والعشرين من عمره أو الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين.

علاوة على ذلك، تكثر التخمينات بشأن ما إذا كان القائد الجديد سيواصل السير على خطى والده ويحافظ على تبجيل الشعب له أو أنه سيقرر إصلاح البلد، مقرباً إياه من النموذج الاقتصادي الصيني، أو ربما يسعى إلى الانفتاح ببطء ورفق على الغرب.

في الأشهر الأخيرة، دفع ابن كيم جونغ إيل، كيم جونغ أون، الذي أعلنته أحدث قوة نووية في العالم «الخليفة العظيم» يوم الاثنين، إلى دائرة الضوء تدريجاً، خصوصاً خلال ظهور والده على التلفزيون. فلطالما ظهر على الشاشة الحكومية برفقة والده خلال تفقد كيم جونغ إيل شخصياً مختلف الشركات. لكن في الأسابيع الأخيرة، ظهر كيم جونغ أون في مناسبات عدة من دون والده.

أمضى ابن كيم جونغ إيل الأصغر، الذي أنجبه من زوجته الثالثة (راقصة وُلدت في اليابان)، بعض الوقت في الغرب. يُقال إنه تعلم في مدرسة في سويسرا تقع في ضواحي العاصمة بيرن. ومع أن السفارة الكورية الشمالية تنفي ذلك، يؤكد زملاؤه السابقون في المدرسة أنهم تعرفوا إليه من خلال الصور.

يذكر جواو ميكايلو (28 سنة)، طاه في فيينا، أنه كان صديق كيم جونغ أون، جلس قربه في الصف ولعب معه كرة السلة. كذلك أخبر المجلة السويسرية L’illustré أن «جونغ أون كان ولداً هادئاً» اعتاد انتعال أحذية Nike وارتداء ملابس Adidas الرياضية، وكان يتنقل في سيارة يقودها سائق.

يخبر ميكايلو أن جونغ أون أراه ذات يوم صورة وقال: «هذا والدي. إنه رئيس كوريا الشمالية}. لكن ميكايلو لم يصدقه. يذكر بعض التقارير أن جونغ أون يجيد الإنكليزية وأنه يهوى الفنون العصرية والمجلات المصورة ومشاهدة أفلام الفنون القتالية من بطولة جان-كلود فان دام.

لمحة أولى

لم تُكشف هذه المعلومات للشعب الغافل عما يدو حوله في كوريا الشمالية. لم يدخل هذا الخليفة دائرة الضوء في كوريا الشمالية إلا قبل ثلاث سنوات. فبدأ التلامذة في المدارس الكورية الشمالية ينشدون تدريجاً أغنية لم تكن معروفة سابقاً تحمل عنوان «تقدّم، تقدّم، تقدّم على خطى جنرالنا كيم». يذكر كنجي فوجيموتو، الطاهي الذي كان يعدّ أطباق السوشي للدكتاتور الكوري الشمالي، أن كيم جونغ إيل طلب تأليف هذه الأغنية في عيد ميلاد ابنه التاسع لأنه رأى بعض صفاته في شخصية ابنه الصلب الإرادة.

تبدو الصورة التي يرسمها الطاهي عن القائد الجديد في كوريا الشمالية غربية. يقول فوجيموتو إن جونغ أون كان يستعير السجائر (إيف سان لوران) منه غالباً، يكثر من شرب الفودكا، ويعرب عن قلقه من تخلف كوريا الشمالية. كذلك يُقال إنه ذكر خلال رحلة في القطار من وونسان في الجنوب الشرقي إلى بيونغ يانغ: «بلدنا متخلف كثيراً عن سائر دول آسيا من الناحية التكنولوجية. فلا نملك ما نفخر به غير مخزوننا من اليورانيوم».

في السنة الماضية، بدا واضحاً أن جونغ أون سيخلف والده. في 8 يناير عام 2010، أعلن يوم ميلاده عطلة وطنية، وعيِّن في يناير جنرالاً بأربع نجوم، وقُبل في اللجنة المركزية لحزب العمال. عندئذٍ، تمكن الكوريون الشماليون من التعرف للمرة الأولى إلى حاكمهم المستقبلي.

بدا الشبه واضحاً بين الرجل المستدير الوجه الجالس في الصف الأمامي ببزته التي تشبه ما اعتاد ماو ارتداءه وبين جده كيم إيل سونغ. عُيّن جونغ أون نائب رئيس اللجنة العسكرية، ولا شك في أن هذا منصب بالغ الأهمية. فيملك هذا البلد الصغير أحد أكبر الجيوش في العالم، بعديد يبلغ 1.2 مليون جندي.

على رغم ذلك، كان استقلال جونغ أون السياسي محدوداً ولا يزال. فقد أصبحت عمته كيم كيونغ هي (65 سنة) وزوجها شانغ سونغ ثايك (65 سنة) مستشاريه. يتولى الأخير منصبي نائب رئيس لجنة الدفاع الوطنية ومدير بنك التنمية الحكومي. أما الأولى فعُيّنت جنرالاً بأربع نجوم في شهر سبتمبر. ويُعتبران شخصيتين قويتين ونافذتين في النظام الكوري الشمالي، لذا لا شك في أن جونغ أون سيعتمد على مشورتهما وربما قراراتهما أيضاً.

علاوة على ذلك، سيحرص رئيس الأركان ري يونغ هو على تقديم الجيش بكامله الخضوع والولاء للقائد الجديد، ولأنه يشكّل جزءاً من النخبة الحاكمة سيؤدي على الأرجح دوراً رئيساً في بنية القوى الجديدة.

احتفالات تذكارية

ترغب كوريا الشمالية في تمهيد الطريق أمام «التحول إلى بلد قوي ومزدهر» في عام 2012، حين يحتفل النظام بذكرى مولد كيم إيل سونغ المئة. أدَّت هذه السنة البالغة الأهمية إلى ازدهار أعمال البناء في العاصمة، فقد شُيّدت أبنية سكنية وأخرى شاهقة لتكريم «القائد العزيز». يقيم كيم جونغ أون الاحتفالات في 15 أبريل. لكن قبل ذلك، ربما في مطلع السنة الجديدة، يقدّم لمحة شاملة عن بنية السلطة الجديدة، حين يدلي برسالة القائد التقليدية، وفيها يحدد سياسة الحزب وشعاراته للعام المقبل.

قبل أيام, وقف كيم جونغ أون إلى جانب جثمان والده المسجى في تابوت زجاجي، وراح يستقبل الدبلوماسيين فيما كانت الفرقة تعزف موسيقى عسكرية حزينة. كان محاطاً بنخبة الطبقة السياسية بدت أشبه بمجموعة من قادة شيوعيين متقاعدين، وسطهم وقف هذا الشاب بوجهه الطفولي ليصافح دبلوماسيين لا يعرفون المسار الذي سيسلكه أو النفوذ الذي سينعم به.

يذكر كنجي فوجيموتو، طاهي كيم جونغ إيل السابق، أن جونغ أون يرغب في توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة. كذلك يشير المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الأميركية جيمس روبن إلى أن القادة الشيوعيين، الذين يمضون جزءاً من طفولتهم على الأقل في الغرب، يعربون عادة عن انفتاح كبير تجاه الدول الغربية.

يعتقد البعض أن الجيش قد يستولي قريباً على السلطة، في حين يظن آخرون أن الصين تسعى على الأمد البعيد إلى استغلال انهيار كوريا الشمالية لتوسع نفوذها.

لا شك في أن البلد الأكثر عزلة في العالم دخل اليوم في المجهول. صحيح أن الماكينة الإعلامية الحكومية تحاول إظهار الحاكم الجديد أكبر سناً، إلا أن محاولاتها هذه لا طائل فيها. فقد ذكر بعض التصريحات من بيونغ يانغ أن كيم جونغ أون سيبلغ قريباً الثلاثين من عمره.

المستقبل في عهد الحاكم

يصبح هذا «الخليفة العظيم»، الذي لم يبلغ الثلاثين بعد، القائد الجديد لبلد يعدّ 24 مليون نسمة وينعم ببعض الموارد الطبيعية. إلا أن اقتصاده لن يصمد طويلاً من دون مساعدة جارته القوية، الصين. فيتفشى سوء التغذية والمجاعة في أجزاء كبيرة من كوريا الشمالية، فضلاً عن أن إمداد الطعام في حالة يُرثى لها. كذلك، بات قطاع الطاقة أسوأ مما كان عليه السنة الماضية. فيمكن لمن يتنقل في شوارع العاصمة ليلاً أن يرى أحياء بأكملها غارقة في الظلمة. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما تكون أنظمة التدفئة معطلة، إذ لا يتوافر الضغط الكافي لضخ الماء إلى الطوابق العليا من المباني.

لعل الأجزاء الأكثر بؤساً في عالم كيم تلك الممتدة على طول الحدود الشمالية مع الصين. في مدينة تومن الحدودية، يفصل النهر الذي يحمل الاسم عينه عالمين مختلفين: حياة على الجانب الصيني مزدهرة وصاخبة، تملؤها أصوات أبواق السيارات والموسيقى، فيما يقف السياح في الشوارع لالتقاط الصور. في الليل، يخيم على الجانب الكوري الشمالي البرد والظلمة، ويسود الصمت في الأكواخ المتواضعة.

يتولى كيم جونغ أون رئاسة بلد تبدّل في الأعوام الأخيرة. نشطت أعمال البناء وازداد عدد السيارات، بدت نساء بيونغ يانغ مختلفات فجأة، فأصبحن يضعن الحلي وينتعلن الأحذية العالية الكعب، وتبيّن أن الكوريات الشماليات يعشقن السراويل السوداء المزينة جيوبها بالحجارة البراقة. علاوة على ذلك، نرى في العاصمة شباناً يستعملون باستمرار هواتفهم الخلوية. حتى إن بعضهم اختار الأغنية الفلكلورية Arirang رنة لهاتفه، في حين انتقى آخرون أغنية لاقت أخيراً رواجاً كبيراً. تبدو هذه الأغنية الأخيرة أقرب إلى موسيقى البوب وتتحدث عن أمهات وزوجات صالحات، واللافت أنها لا تتطرق إلى أي موضوع سياسي.

وسّع الكوريون الجنوبيون نظرتهم إلى العالم التي صاغتها سابقاً الدعاية الكاذبة. يعود الفضل في ذلك إلى مشاهدتهم أقراص DVD لمسلسلات كورية جنوبية يشترونها بطريقة غير مشروعة من الصين. هكذا، تعرفوا إلى الرخاء الذي ينعم به إخوانهم في الجنوب، رخاء لم يألفوه. لكنهم تخلوا عن سعيهم إلى التقرب من الشمال، فقد انخفضت نسبة الذين يؤيدون منهم إعادة توحد الكوريتين إلى 56% بعدما كانت 80% في تسعينيات القرن الماضي. حتى إن هذه النسبة انخفضت إلى نحو 20% بين الشبان الذين لا يتعدى عمرهم العشرين سنة، فهم يخشون أن تحرمهم هذه الوحدة من الازدهار الذي بلغوه بفضل انضباطهم وجهودهم الجبارة.

back to top