في كتاب سمير التنير... الشّعب أراد فهبّت رياح التّغيير
يحمل العالم العربي في طيّاته اليوم طاقاتٍ شبابيّة ضخمة تفجّرت في وجه الحكام الظالمين، داعيةً إلى الثورة على الفساد، وإلى التغيير الجذري في أنظمة الحكم الدكتاتورية التي تسلّطت على شعوبها عقوداً من الزمن. وفي كتاب «الانقلاب الشعبي في الوطن العربي»، منشورات «دار الفارابي»، يدعونا مؤلّفه الدكتور سمير التنير إلى قراءة معمّقة في السياسة العربية والدولية واقتصادياتها، وإلى تأثيرات هذا الانقلاب.وضع الدكتور سمير التنير كتابه في قسمين، شمل الأول السياسة العربية والدولية، جمع فيه الأحداث المهمة التي تناوبت على مصر، وأزمة الاستبداد العربي في اليمن والأردن والمغرب والجزائر، ثم انتقل إلى أميركا وعلاقتها بأفغانستان وأوروبا.
وتناول في القسم الثاني الاقتصاد العربي والدولي انطلاقًا من اليونان والنفط في لبنان، إلى الاقتصاد التركي والصراع على الأسواق بين ألمانيا والصين، ووضع العالم العربي الذي لا يستطيع إطعام سكانه.موضوعات متفرّقة لكنّها غزيرة في المعلومات، تفتح أمام القارئ آفاقًا جديدة تساعده على فهم أحداث كثيرة حصلت، وأحداث راهنة عدة تشكّل أمامنا علامات استفهام مريبة.استبداد عربيمقدّمة رائعة استهلت الكتاب، لكنها لم تكن شاملة لما احتواه المضمون من موضوعات شتّى. وقد تكون الأحداث الجارية في الدول العربية هي التي دعت المؤلف إلى التركيز على الجزء الذي يبحث في واقعنا العربي.تمحورت المقدّمة حول عمل الأنظمة السياسية في العالم العربي وتقديم المبررات لدعم استمراريتها وتأييد سياساتها المعادية للديمقراطية والتنافس السلمي الديمقراطي الذي وحده يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.فالأنظمة العربية تقدّم نفسها على أنها صاحبة القواسم المشتركة التي تدفع جانبًا بالتنافس غير الإيجابي، ومن جانب آخر تقدّم نفسها للعالم على أنها الأفضل بين البدائل المتاحة، ولكن ليس بالضرورة من وجهة نظر شعوبها.وفي الوقت الذي ينظر فيه المثقفون المستقلون إلى أن الأسباب التي تقدمها الأنظمة ضد التنافس غير شرعية، يرى منظرو الأنظمة أن هذه الأسباب تشكل عوامل تشتيت وتفرقة للوحدة الوطنية.راية بيضاءيتصدّى المؤلف في مطلع كتابه لمن يريدون من الشعوب العربية رفع الراية البيضاء علامة على استسلامها، في حين أن الواقع شيء آخر تمامًا. ويعطي مثالاً على ذلك المقاومة العراقية التي أحدثت انقلابًا في الاستراتيجيا العسكرية في العالم فبعدما كان يظنّ أن حرب العصابات لا تحدث إلا في الطبيعة وبين الغابات الكثيفة والأراضي الوعرة في الجبال، انتقلت إلى الأرض المنبسطة في المدن الكثيفة السكان، وإلى الصحراء المترامية الأطراف. والسقوط الأميركي في العراق يعني سقوط التجلي الأكثر عدوانية والأكثر شراسة، ما أدى إلى تراجع المشروع الأمبراطوري الذي يهدف إلى غزو العالم العربي والإسلامي وجعل القرن الحادي والعشرين قرنًا أميركيًا.وبعد التنكيل بحكم عبد الناصر واتهامه بخوض حروب خاسرة أفقرت الشعب المصري، إذا بالشعب يثور مجددًا وتصبح الأجواء ملائمة لحدوث التغيير، وأزوف الوقت لفكّ عرى الارتباط الاستراتيجي بين مصر وأميركا.دور الشبّانيمثل الشبان في الدول العربية نسبة تفوق نصف عدد السكان، أي أن عددهم بلغ 190 مليون نسمة من أصل 352 مليون عربي. وهؤلاء الشبان تقل أعمارهم عن 24 عامًا، وثلاثة أرباعهم يعانون من البطالة، ولا تشفع لهم شهاداتهم الجامعية وخبرتهم العلمية إذ لا توجد فرص للعمل. أما حكوماتهم فهي غارقة في الفساد وغير فاعلة، وقادتهم بلغوا من العمر عتيًّا. وتسود في بلدان مثل تونس والجزائر ومصر وغيرها كآبة سببها القمع والقهر اللذان يتسبّب بهما الحاكمون، وتدرك الحكومات في الغرب هذه الحقائق، ومع ذلك فهي تستمرّ في تأييد تلك الأنظمة المفلسة.في الجزائر والأردن واليمن تستمر التظاهرات إذ إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والحياتية تتماءل في أقطار الوطن كافة. وتكشف برقيات ويكيليكس بعض أسرار الرؤساء العرب، فتصف بعضها عبد العزيز بوتفليقة بأنه ضعيف معزول، ويريد توريث الرئاسة إلى أخيه سعيد الذي يصغره بعشرين عامًا، كما يحيط به الفاسدون من كل جانب، ولا يجد الشبان في تلك الحالة إلا انتظار الموت البطيء أو الهجرة في «قوارب الموت» التي تنطلق من ميناء عناية إلى الغرب، وقد غرق في أحدها مراد الشاذلي ابن أخ رئيس الجمهورية السابق. وفي المغرب أيضًا يقيم الشبان بعض المخيمات في انتظار فرص العمل التي لن تأتي. أمّا إذا تحرّك الشبان لإيصال صوتهم والاعتراض على الاستبداد يصرخ بعض القادة العرب طالبين النجدة من الغرب في سبيل محاربة «الإرهاب الاسلامي»، وهم في الحقيقة يعملون لتأسيس سلالات تستولي على الحكم بعدهم.فهل تترك الشعوب العربية الممتدة أوطانها من موريتانيا إلى اليمن ومن السودان إلى سورية، حكامها المستبدين والفاسدين يعربدون في أنحائها وإلى متى؟لقد كسرت ثورة تونس وثورة مصر كل جدار للخوف، وجسد محمد بوعزيزي أشعل نارًا لن تنطفئ أبدًا، وتظاهرات عمان وصنعاء الضخمة مطلبها واحد: رحيل الحكام والمسؤولين.انفصالفي أزمة الاستبداد العربي يطرح التنير السؤال: لماذا انفصال الجنوب؟استمرّت الحرب بين شمال السودان وجنوبه طوال 21 عامًا أدّت إلى مقتل مليوني شخص وإلى ضعفهم من الجرحى. وعلى رغم أن ثلاثة أرباع الاحتياطات النفطية تقع في الجنوب، فإن هذا القسم من البلاد هو الأفقر في القارة الأفريقية، وصاحب النسبة الأكبر في وفيات الأطفال وفي الأميّة.ويعزو المؤلف بعض أسباب الانفصال إلى الإعلام الغربي الذي كان يحرّض على هذا الأمر، فهل ستكون دولة الجنوب المستقلّة دولة مسالمة، أم ستكون قاعدة مسلّحة للغرب في قلب أفريقيا؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر والسنوات المقبلة.أمراض ولا علاجيصل سمير التنير في تجواله إلى المغرب الذي اتّصف ملكها الحسن الثاني بتركيز السلطة في شخصه مدة 38 عامًا، مترافقة مع خطوات صغيرة لتحسين الوضع الاقتصادي.وعندما خلف الملك محمد السادس والده كانت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية قد بلغت ذروتها، ولم يعد بالوسع معالجتها إلاّ بالتغيير الجذري لسياسات الدولة في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية.التزم الملك الجديد في بداية حكمه بإطلاق الحريات وبحقوق الإنسان، فقوبلت تلك الإجراءات بالترحيب داخليًا وخارجيًا. وبسبب عدم وضوح الرؤية لدى الحكم مضت السنوات الخمس الأولى خالية من اتخاذ أي قرارات جدية. وقد تميّزت هذه الحقبة المهمة من الوفاق الوطني بالصراع بين الأجيال التي تحمل أفكارًا سياسية متناقضة.وعلى رغم الارتفاع في نسبة النمو الاقتصادي، ظلّت نسبة البطالة في ارتفاع، وتفاقمت المشاكل الصحية، وخصوصاً مسألة العناية بصحة الأطفال. وعلى صعيد آخر، أشار الخبراء إلى أن المغرب تفتقر إلى الديمقراطية السياسية، وأن السلطة التنفيذية تتركز بيد نخبة من السياسيين ورجال الأعمال الذين لا يستطيعون مواجهة التحديات على مختلف الصعد.ولم تنفع خارطة السياسات المستقبلية التي أصدرها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، فانتقلت عدوى الانتفاضات المطالبة بالإصلاح في العالم العربي إلى المغرب، فشارك الآلاف في تظاهرات بدعوة من شبان عبر موقع «فايسبوك» وهم يهتفون: «الشعب يريد التغيير».غيض من فيضهذه نظرة خاطفة إلى بعض الموضوعات التي تناولها المؤلّف في كتابه، وهي غيض من فيض الأحداث العربية المعاصرة التي عشناها ولا نزال نتلقى تأثيراتها. فهل تتمكّن هذه الانتفاضات الشعبية من تفتيت الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، والانتقال بالحكم إلى ديمقراطية يستطيع الشعب فيها بشكل مباشر وجماعي السيطرة الفعلية على صنع السياسة العامة؟