من يتذكّر مجلة المكشوف اللبنانيَّة؟

نشر في 25-07-2011 | 00:01
آخر تحديث 25-07-2011 | 00:01
قبل مدة، تحقق مشروع إعادة إصدار أعداد مجلة «المكشوف» اللبنانية التي صدرت في الثلاثينيات من القرن الماضي. قلة تعرف هذه المجلة الشهيرة في زمانها، والتي تبدو أعدادها اليوم، مع دار «المكشوف»، كصرخة في وسط ثقافي راكد...

أنشأ الشيخ والصحافي فؤاد حبيش مجلة «المكشوف» عام 1935.‏ فانطلقت أسبوعية، وكانت في بداية تأسيسها داعية إلى العري وأخبار التشويق عن أماكن الحب والعشق في بيروت، كأنها في مناخ باريسي «متحرر».

 واللافت أن حبيش في مجلته قدَّم أفكاراً جريئة تتعلق بالإنسان وجسده في زمن الممنوعات، فسبق بعقود بعض الذين يطرحون هذه الأفكار اليوم. كان الجسد هو الحاضر الأكبر في الأعداد الأولى من «المكشوف»، المجلة المسلية والممتعة، والطليعية في ما بعد، والتي تفتقد الثقافة العربية مثيلاتها اليوم. على أن تجربتها مع الجسد لم تعمّر كثيراً، فبعد نصائح بعض الأدباء المهتمين بالحداثة، كان على حبيش أن يبدِّل في فكرة مجلته ليجعلها طليعية، مستشرفة، جريئة، نقدية، ورصينة، تتابع مجريات الحداثة الثقافية في لبنان والعالم. ولاحقاً، قدمت المجلة سلسلة من النقاشات والأفكار حول القوميات والحداثة واكتشاف المواهب والقصص، وبعد سنتين تحولت إلى مجلة أدبية ذائعة الصيت، واسعة الانتشار، وقد استمرت في الصدور حتى عام 1950، فحملت لواء الأدب الحداثوي، ودعت إلى ثورة تجديدية في الأدب الحديث.

وتعد مجموعة «المكشوف» اليوم مرجعاً مهماً من المراجع الرئيسة لتاريخ الأدب الحديث في النصف الأول من القرن العشرين، ولتياراته الفكرية في لبنان وسورية، وكانت مدرسة أدبية وفكرية نقدية أسهمت في تحريرها نخبة من الكتاب والأدباء أمثال: ميخائيل نعيمة وعمر فاخوري ورئيف خوري وعبد الله لحود ولطفي حيدر والياس أبو شبكة وبطرس البستاني ورشاد دارغوث وخليل تقي الدين ويوسف أسعد داغر وفؤاد الشايب وسعيد الجزائري الذي كان له الفضل في إصدار عدد خاص منها عن الأدب في سورية في أواخر الثلاثينيات.‏

تغريب

 الغريب اليوم أن الذين يكتبون عن الحداثة في بيروت يختصرون كل شيء في مجلتي «الآداب» و{شعر». فالأولى حملت لواء الحداثة مع العروبة، والثانية حملت لواء «تغريب» الشعر والترويج لقصيدة النثر، والأنكى أن بعضهم يلغي كل شيء للحديث عن «أقنوم» اسمه مجلة «شعر»، وأكثر من ذلك يلغي مجموعة من الكتاب والشعراء في المجلة نفسها لمصلحة «عباقرة» آخرين. ليصبح تأريخ الذاكرة الثقافية إشارة إلى عمق الفصام الحداثوي في العالم العربي، فالحداثة في أذهان الشعراء والكتاب لم تنفصل عن المنطق «القبلي» و{العصبي» وصولاً إلى الطائفي (والعنصري أحياناً)! لنقل بكل وضوح إن مجلة «شعر» ليست هي بوابة الحداثة وإن كانت استحوذت على قدر كبير من الدراسات والاهتمام والكتب. ففي لبنان تواجدت تيارات ومشارب ثقافية لا تُحصى، تبدأ بأحمد فارس الشدياق وأفكاره الصحافية وتمر بمجلتي «المعرض» و{الأحرار» المصورة، ومجلات «الطريق» و{الآداب» و{الأدب» و{الثقافة الوطنية» و{مواقف» و{العرفان» (الجنوبية)... وتصل الى مجلة «الحسناء» الفنية...

لم يكتفِ فؤاد حبيش بإنشاء مجلة «المكشوف»، بل أنشأ بعدها بعام «دار المكشوف» وكانت باكورة إنتاجها قصة «الصبي الأعرج» للقاص توفيق يوسف عواد. وصدرت عنها أيضاً مجموعة مجلات هي «المدرسة» و{الإذاعة» و{الراديو» و{الجندي اللبناني» و{الشرف العسكري» و{قرأت لك» و{الحرب الجديدة» المصوّرة التي غطت أحداث الحرب العالمية الثانية بالتعاون مع الصحافي الراحل كامل مروة مؤسس جريدة «الحياة»، وعشرات الكتب الجيدة لكل من: مارون عبود ورئيف خوري والياس أبو شبكة وخليل تقي الدين ولطفي حيدر وعمر فاخوري وكرم البستاني وقدري قلعجي ومحمود تيمور ونسيب عازار وفؤاد الشايب وغيرهم.

واللافت أيضاً أن كتب «دار المشكوف» لا تزال موجودة حتى اليوم في بعض المكتبات والبسطات، ولم تبع كلّها على رغم إقفال الدار منذ عقود. فبقيت الكتب كأنها إشارة إلى واقع القراءة في العالم العربي.

قبل «المشكوف»، شارك حبيش في تأسيس «عصبة العشرة» في بيروت عام 1930، وكان أحد أبرز مؤسّسيها رئيسها ميشال أبو شهلا ورسامها الشاعر الياس أبو شبكة وقطبها الكاتب خليل تقي الدين. أما الستة الباقون الذين ظلوا خارج نطاق العصبة فكانوا مجرد أصدقاء ومؤيدين وهم: كرم علي ملحم كرم ويوسف إبراهيم يزبك وتقي الدين الصلح وتوفيق يوسف عواد وعبد الله لحود وميشال أسمر.

مناخ ليبرالي

‏ كانت العصبة تجتمع في إدارة تحرير مجلة «المعرض» بين الثانية عشرة ظهراً والثالثة بعد الظهر، فيتناول أعضاؤها الطعام ويتناقشون في أمور الأدب والسياسة.‏ والملاحظ من خلال الأسماء المشاركة في نشاطات «المكشوف» والعصبة هو المناخ الليبرالي الذي يجمع بينهم. فمنهم من أسّس الحزب الشيوعي ومنهم من أتى من عائلة سياسية لبنانية (إقطاعية) ومنهم من حمل لواء «القومية اللبنانية» وبعضهم نادى بـ{العروبة»، وبعضهم الآخر كان مسيحياً لكنه يقدّم نصوصاً هي أقرب إلى التجديف وتلتقي مع توجّهات الشاعر الفرنسي بودلير.

 يقول الياس أبو شبكة في هذا الإطار: «لن تقف عينك على مشهد ألطف وأكمل من مشهد هؤلاء الجنود الروحيين وقد احتدم بينهم الجدل حول فكرة يتخطفونها بأبحاثهم، ولن يُقدّر لك أن تستنشق روحاً أخف من روحهم، وقد رفرفوا بها في مكتب مجلة «المعرض» وحلقوا في سماء الأدب تحليق النسور في مذاهب الجو{.‏ كان أعضاء العصبة ينشرون مقالاتهم في الصحف والمجلات إما بأسمائهم الصريحة، أو بأسمائهم المستعارة. فميشال أبو شهلا وقّع باسم «أبو فريد» وفؤاد حبيش باسم «جوابة» أو «منخّل» والياس أبو شبكة باسم «رسام» أو «عصبصب» أو «أبو ناصيف» وخليل تقي الدين باسم «بشار».

كانت لنشاط العصبة أصداء واسعة ليس في لبنان فحسب، بل في سورية والعراق ومصر والمغرب العربي، وسائر الأقطار العربية الأخرى، ولاقت في كل مكان تحبيذاً وتأييداً من الأجيال الطالعة هنا وهناك، ما ضاعف من إيمانها برسالتها، وشجّعها على المضي في أدائها.‏

المضحك المبكي

ولم يقصر دور العصبة على الأدب وفنونه، بل خصّت السياسة بنصيب وافر، وكان الشيخ خليل تقي الدين أول مقتحمي هذا الميدان. فهو لم يكتف بالنشر في مجلة المعرض، بل صار ينشر في مجلة «المضحك المبكي» التي كان يصدرها حبيب كحالة في دمشق، ويتناول في نقده شؤون السياسة، وكان آنذاك أمين سر مجلس النواب اللبناني، وتبعه في ذلك الياس أبو شبكة الذي كان يترصّد رجال القلم والسياسة والإدارة جميعاً، فيرسمهم وينتقدهم ويسخر منهم أحياناً، ويوقّع ما يكتبه باسمه المستعار «رسام» وقد جمع هذه المقالات التي نشرها في مجلة «المعرض» في كتابه «الرسوم» الذي صدر عن مطبعة المعرض في بيروت عام 1931.‏

حبيش

وُلد فؤاد حبيش في بلدة «غزير» في كسروان بلبنان عام 1904، وتلقى دراسته في مدرسة «الحكمة» الشهيرة التي أسسها المطران يوسف الدبس (1833 ـ 1907) في بيروت، والكلية العلمانية في القاهرة. وفي عام 1923، التحق بالمدرسة الحربية في دمشق وتخرّج فيها ضابطاً مترجماً عام 1924.‏

عندما عاد حبيش إلى بيروت استهوته الصحافة، فحرر في صحف ومجلات: «الشمس، الأرز، الشبيبة، المعرض، الأحرار، الراية، بيبلوس والصحافي التائه، النداء، الاتحاد اللبناني، العهد الجديد، النهار»... وغيرها. لكن اسمه ارتبط بمجلة «المعرض» التي أسسها ميشال أبو شهلا (1898 ـ 1956) وميشال زكور (1893 ـ 1937)، وفي ظلّها تأسست «عصبة العشرة» التي ضمّت عدداً من الكتاب والأدباء اللبنانيين الذين شنوا حرباً لا هوادة فيها على القديم البالي من أدبنا المعاصر، وعلى شيوخ الأدب المحنّطين، وعملوا على كسر عالم فكري جامد وبناء عالم آخر جديد ينبع من الحياة.‏

back to top