العطاء... تحت المجهر
شهدنا في السنوات الأخيرة حدوث كوارث طبيعية عدة حول العالم، وقد أظهر أشخاص كثر من دول مختلفة تعاطفًا كبيرًا مع المتضررين منها. وقد بلغت التبرعات التي جُمعت للإغاثة مستويات قياسية. فما الذي يدفعنا الى العطاء ووهب شيء من ذاتنا لأشخاص لا نعرفهم؟ ما هو معنى العطاء الحقيقي؟ السطور التالية تتطرّق الى مسألة العطاء الذي يشكل جزءاً من حياتنا اليومية...ثمة أنواع متعدّدة من التضامن قد يظهرها الناس لمساندة الأشخاص الذين يواجهون محنة ما. فقد يقدّم بعضهم تبرعات مالية، فيما يقدّم آخرون تبرعات عينية، أو يهبون وقتهم لمساعدة الآخرين، أو يساهمون طبياً من خلال التبرّع بالدم أو حتى بالأعضاء، وهم غالبًا ما يفعلون ذلك بسريّة تامة. تبيّن في إطار دراسة حديثة حول العطاء أن الجميع يشعر اليوم بضرورة أن يساهم ويفتح قلبه للعطاء بحسب إمكاناته. فما هو العطاء حقيقةً ومن أين يأتي؟ وما الأمور التي تدفعنا، كي لا نقول تجبرنا، على العطاء؟
نظام معقّد وغير منطقيّبحسب بعض الباحثين، الأمر واضح جدًا: حين نفكّر بالعطاء في مجتمعاتنا الحالية، يتبادر الى ذهننا نوع معيّن منه، كالإحسان والتبرعات الإنسانية. يعتبر العطاء مجانيًا بمعنى أنه لا يمكن استعادته. نحن إذاً بصدد التخلّي عن شيء ما لشخص ما من دون الحصول على أي مقابل منه. تتناقض هذه النظرة الى الأمور مع تحديد آخر للعطاء معتمد في العلوم الاجتماعية، والذي يضعه في إطار «تبادل هادف ينزع نحو تحقيق التكافؤ». هذا كافٍ لكي ندرك الى أية درجة قد يكون مفهوم العطاء معقدًا وغير منطقي. بحسب الباحثين، العطاء مجنون بعض الشيء، وهو خاضع لدوافع عاطفية، كذلك يدع الأمور تجري في مجاريها ويفترض التخلّي الفاعل عن قيمة ما. هو مناقض لمفهوم العقد حيث نحاول أن نتوقع كل الأمور، بينما في العطاء نحرّر الآخر من التزاماته العقدية. تشكّل هذه الفكرة أيضاً أحد تحديدات العطاء الكثيرة: فهو نوع من تداول للأشياء وهو يحرر المتعاقدين من الواجب العقدي الذي يحتم عليهم إعطاء شيء ما في مقابل شيء آخر. بحسب أحد الكتاب، عمل الخير هو خدمة يقّدمها شخص ما على رغم كونه حرًا في ألا يقدّمها.فلنتّفق أولاً على أن العطاء قوةٌ اجتماعية أساسية، وهو في أساس العلاقات والتبادلات التي يقيمها النساء والرجال الذين ينتمون الى المجتمع نفسه أو المجتمع المصغّر نفسه (حلقة الأصدقاء أو الأهل). بحسب أحد علماء الاجتماع والأعراق، يوجد، بالإضافة الى تبادلات السوق وإعادة توزيع الثروة من الدولة، نوع ثالث من طرق تبادل السلع والخدمات، وهو التبادل بواسطة العطاء والعطاء المقابل. يقوم العطاء إذن في كل مكان وفي كل وقت بتشكيل ونسج وعقد العلاقات الاجتماعية، ويتسبّب القبول به أو رفضه ببناء أو تدمير شبكات الثقة والولاء الموجودة في مجتمعنا. قد تدفعنا ظروف مختلفة، خطيرة أو سعيدة، الى تقديم العطاء، كما قد تدفعنا إليه أسباب كثيرة كالشفقة أو الحب أو احترامنا لثقافة أو قيمة أو دين ما. قد نقدم المساعدة لشخص ما لأننا قد عشنا التجربة التي يمر بها، أو لأننا نملك الإمكانات المادية لفعل ذلك. لكن في النهاية، نحن نعطي بشكل مستمر ونحن مدفوعون بحكم طبيعتنا الى القيام بذلك في كل علاقاتنا الاجتماعية. فكلما «التقينا» بالآخر وأدركنا حاجاته من خلال تعبيره الواضح أو الضمني عنها، أقمنا معه اتصالاً فعليًا، في الشارع مثلاً، أو اتصالاً افتراضيًا من خلال وسائل الإعلام والاتصال.مبدأ المعاملة بالمثلفلنتذكّر أيضًا أن العطاء يفترض وجود مقابل يمكن أن يحصل عليه الشخص الذي يعطي، حتى وإن كان الحصول على هذا المقابل أمرًا غير مؤكد. بحسب أحد الأطباء العاملين في منظمة «أطباء بلا حدود»، «العطاء مجازفة بأداء خدمة لا يمكن ضمان الحصول على مقابل لها». ويقول أحد الباحثين، «إن إغراء العطاء هو بمثل أهمية إغراء الربح». تمتزج مساعدة الغير مع الأنانية في العطاء، فنحن نريد أن نظهر كرمًا، ونسعى في الوقت نفسه الى تحقيق مصلحة لنا. تكمن المفارقة في أننا، وبشكل متناقض، أحرار ومجبرون على تقديم العطاء، كما أننا في الوقت نفسه مستفيدون وغير مستفيدين منه. يبدو العطاء «النقي» والمجاني تحت هذه الشروط وهمًا، إذ إن مبدأ المعاملة بالمثل، أي الميل الى تقديم شيء في المقابل، يبدو طاغيًا. ثمة في كل علاقة تبادلات دورية من الأخذ والعطاء. يشير أحد الخبراء الى أن «العطاء يحمل في طياته باعثًا على العطاء لدى الشخص الذي يتلقاه». لا نساعد في هذه الحالة أشخاصًا مجهولين نعرف تمام المعرفة أنهم لن يقدموا لنا شيئًا في المقابل، إن لم يكن الهدف إرضاء احترامنا لذاتنا والشعور المجزي بأننا قد قمنا بعمل جيد؟ قد يكون السبب في ذلك أننا نبدأ حياتنا بالتلقّي لا بالأخذ! الولادة والحياة بحد ذاتهما هبات غالية: ليست الحياة مصنوعة ولا مشتراة، بل هي معطاة أو بمعنى أصحّ منقولة. نستمر بالتلقي لسنوات عدة، وهذه الهبات الأخرى هي تكرار لهبة الولادة. لذا لا يسعنا إلا أن نعطي بدورنا، وننقل ما قد حصلنا عليه الى أشخاص آخرين. يؤثر ما نحصل عليه منذ الطفولة من أهلنا وأصدقائنا ومن محيطنا عموماً على قدرتنا ورغبتنا في العطاء مستقبلاً. يميل الأشخاص المدللون الى أن يصبحوا معطائين أكثر من الذين حصلوا على قليل من العاطفة من المحيطين بهم. ثمة طبعًا عطاءات مهمة وأخرى أقل أهمية، وقد تتطلّب هذه العطاءات موارد هامة أو أقل أهمية، وقد يسهل أو يصعب القيام بها. ليس المهم أن نعلم الى أية درجة نحن مستعدون للعطاء، بل أن ندرك مقدار تأثير مبدأ المعاملة بالمثل في العطاء. فالعلاقة بين المانح والمتلقي هي بمثل أهمية الأشياء المنقولة. في النهاية، العطاء يحررنا ويساعدنا على التعبير عن أنفسنا وعلى أن يتم الاعتراف بنا كبشر، إذ يجد الإنسان موقعه ودوره في المجتمع من خلال العطاء. وكما تقول الحكمة الشعبية، أعطوا، سيبقى لكم دائمًا شيء ما! أسئلة موجّهة الى أحد أساتذة العلوم الاجتماعيةما هي مواصفات العطاء؟يمكن تحليل العطاء على المستوى الفلسفي والنفسي والأنثروبولوجي. يعتبر العطاء ثابتة في المجتمعات القديمة: لا تقوم هذه المجتمعات على قانون المنح أو على عقد اتفاقات هدفها تحقيق المنفعة، بل على واجب ثلاثي الأبعاد هو «واجب العطاء، والتلقي، ورد الجميل». هذا هو النظام الذي يؤدي الى خلق رابط اجتماعي. العطاء هو بهذا المعنى عامل تحالف أو عامل سياسي. لكن، عموماً، لكل التصرفات التي تظهر اهتمام شخص ما بقريبه بعد سياسي. يشكّل العطاء المجتمعات حتى الصغير منها، مثل حلقة الأصدقاء، والأهل... وهذا ما ينسج العلاقات الاجتماعية سواء أكانت جيّدة أم سيئة. نقدّم مع العطاء شيئًا من أنفسنا، لذا هو عامل يساعد على إضفاء طابع شخصي يسمح بالاعتراف العلني بفردية الآخر، كل حالة بحالتها.هل يمكن أن نعطي من دون أن ننتظر شيئًا في المقابل؟ثمة نزعة الى العطاء لدى كلّ انسان، لكن من الضروري أن نفهم أن للعطاء بعدين: بعد قوامه الأنانية والبحث عن المنفعة الذاتية، وبعد قوامه الاهتمام بالآخرين. هذا ما نراه تحديداً في العلاقات العاطفية: الحب الذي نعبّر عنه لشريكنا هو بقوة اهتمامنا بمصلحتنا الخاصة. العطاء هو أيضًا واجب اجتماعي، نقوم به مثلاً خلال الأعياد الدينية أو أعياد الميلاد. لكن المفارقة أن هذا الواجب ينبغي أن يترافق مع مفهوم الحرية. فالعطاء لا يساوي شيئًا إن لم يكن حرًا ونابعًا من القلب وعفويًا، فهو في النهاية ناتج من لعبة قوامها حركة مستمرة ما بين واجب العطاء والقدرة على تجاوز هذا الواجب.العطاء إذاً ذو طبيعة متناقضة، إذ يجمع ما بين الاهتمام بالمصلحة الخاصة ومصلحة الغير، وما بين الجانب الإجباري لتقديم العطاء والحرية في تقديمه. ليس العطاء بأي من الأحوال تخليًا عن أمر ما، اذ غالبًا ما نستفيد منه. حتى وإن لم يحصل الشخص المانح على مقابل لما منحه، فهو يحصل على الأقل على رضا شخصي أو على نوع من المكافأة النرجسية التي تجعله يشعر باحترام أكبر لذاته. في الأحوال كافة، الحديث عن أن العطاء هو فعل مجاني وخالٍ من أي أغراض هو غير دقيق.العطاء الذي لا يتوخّى الحصول على أي مقابل للذات أو للآخرين لا معنى له. لكن ما هو مهمّ فيه، هو منح الشخص الذي يحصل عليه إمكان أن يمنح بدوره شيئًا- ذلك أن العطاء والكرم يدلان على أننا بشر كاملون ويجعلان الآخرين يعترفون بأننا كذلك.أما الشخص الذي يتلقى العطاء من دون أن يتمكّن من رده بأية طريقة، فهو يشعر بأن إنسانيته منقوصة وبأنه تحت سيطرة المانح، حتى وإن كانت هذه السيطرة مجرد سيطرة رمزية.