صرخة اللوحة الثالثة

نشر في 08-06-2011
آخر تحديث 08-06-2011 | 00:01
 زاهر الغافري حسناً اللوحة لاتزال هناك معلقة في غرفته، يظهر فيها الجرح، فاتناً، متلألئاً، شديد الغواية والإغراء. توقفت السيارة عند المدخل ونزل “م” بعد أن أعطى السائق أجرته. تأكد من رقم المنزل وخطا إلى الداخل، إلى الباحة الواسعة، عبر بوابة مفتوحة. كان المنزل قديماً، ومتآكلاً في قلب حقل شاسع، وكانت أشجار الكالبتوس الكثيفة، المحيطة بالمنزل تُضفي عليه مسحة من الكآبة وثقل الظل. من نافذة في الأعلى يبين ضوء خافت، كما لو أنه ضوء شمعة. صعد “م” سلّماً خفيضاً بحذر شديد، مُتحسساً الجدران الخارجية المتآكلة، بفعل الرطوبة، ربما وفي يده عود ثقاب مشتعل. هناك وقف أمام باب بلون أخضر غامق. تنفس قليلاً ثم ضغط بإصبعه على الجرس. ظلّ واقفاً منتظراً أن يُفتح الباب. مرت لحظات ولم يسمع شيئاً. لا حركة، ولا صوت، لا موسيقى أيضاً. تيقن أنه أخطأ، وأن خطوته هذه ليست سوى خطوة في فراغ هائل ومظلم، شَعر بأنه متعب وثمل وأحمق إذ لا حياة في هذا المنزل الغريب، بين هذه الأشجار الضخمة. كان على وشك النزول عندما سمع خطوات متثاقلة قادمة من بعيد، بعد لحظات فتح الباب:

- نعم. كانت النعم هذه خافتة، شريرة كأنها قادمة من الطرف الآخر للكون.

لمح “م” وجه امرأة عجوز، وغريب في نفس الوقت، لأنه في اللحظة التي أراد فيها أن يتفوه بشيء ذي معنى كان الوجهُ كلهُ قد تحول إلى ابتسامة خرقاء:

- أليس هذا منزل السيدة أورسولا؟

- بلى. أيها السيد، إنه منزلها، إنها نائمة، لكن، اسمع أيها السيد، يمكنك الدخول، وسوف أُوقظها. صمتت فجأة، ثم أضافت:

- كأنك قادم من بلد بعيد أيها السيد.

في الصالة جلس “م” على أريكة قديمة مصنوعة من جلد أسود:

- عليك بالانتظار قليلاً أيها السيد.

قالت المرأة، الغريبة، ثم اختفت في مدخل يؤدي على ما يبدو إلى غرفة جانبية.

ظل “م” حائراً. كان يتوقع استقبالاً أشبه باحتفال صغير. ظل هادئاً، ينظر إلى الصالة وقلبه يخفق باضطراب. كانت الصالة عادية تماماً. سجادة حمراء منقوشة بأزهار بيضاء وسوداء، ثلاث لوحات معلقة على الحائط، واحدة لمنظر طبيعي مرسومة بمنظور كلاسيكي، والأخرى تظهر فيها قلعة قديمة وسماء زرقاء. في الزاوية الأخرى، جهاز للموسيقى، الستائر شفافة بلون الكرز، بعض المزهريات، وطاولة عليها مجلات نسائية حديثة. فوق الجدار كانت معلقة تلك اللوحة الثالثة التي لم تظهر له بوضوح تام بسبب الضوء الكتيم. وقف “م” واتجه إليها بفضول، وفجأة ظهرت له على نحو واضح:

- ماذا تفعل لوحة إدوارد مونك هنا؟

تساءل “م”. كانت الصرخة الشهيرة معلقة هناك وحيدة، أبدية، كأنها صرخة حقيقية معلقة بين السماء والأرض.

- آه يا وعل حياتي، لقد عُدت أخيراً. كنت أحدس هذا منذ زمن بعيد.

هكذا فجأة قذفت المرأة هذه الكلمات في وجه “م” وهي تخرج من باب جانبي. ارتبك قليلاً، ونظر اليها، أحس كأن أمطاراً حقيقية تغسله من الداخل. ها هي أورسولا أخيراً، لؤلؤة حياته، بلقيسه الضائعة، أحس بأن عناقهما الصاخب يخلو من تلك الانفجارات الكوكبية الصغيرة التي كان قد توقعها. كانت أورسولا ترتدي فستاناً أشبه بألوان قوس قزح كامل الهيئة. شعر “م” بضعف مؤقت في ركبتيه، بفعل هذا الجمال الصارخ الذي أيقظ روحه، من جديد، هنا والآن. جلسا على الأريكة متشابكين. إنهما الآن رجل وامرأة حقيقيان. شعر “م” تلك الليلة، كأنه يجتاز وديان طفولته البعيدة، متردداً، سعيداً، خائفاً، غارقاً، ناسياً، متذكراً، قوياً، سالباً، مسلوباً، نائماً، يقظاً، أبدياً، فانيا، آخذاً، مأخوذاً.

- كل هذا كان بفعل جمال كان ضائعاً ذات يوم. قال “م” لنفسه.

كانت زجاجات النبيذ والسجائر الملفوفة ذات حضور أخاذ. وكانت روحه مسحوبة الآن بتلك الكلمات التي يتذكرها، والتي أشاعت انتعاشاً خاصاً في جسده من صوت الليدي هولداي. سألها “م” ان كانت المرأة، العجوز التي رآها قبل قليل ثم اختفت، قريبتها أو خادمتها.

- أية امرأة، يا بؤبؤي السعيد.

ثم أطلقت ضحكة أضاءت الصالة كلها:

- المرأة التي فتحت الباب… قاطعته أورسولا بضحكة أخرى، ثم أكملت:

- أووه يا حياتي، لا يبدو انك تغيرت أبداً. إن مخيلتك منحرفة كالمعتاد، وأوهامك كما هي، رغم مرور سنوات كثيرة، أوَ حسبت تسكن هنا امرأة غيري، يا لطف حياتي؟ لقد أسقط في يده. ظل “م” حائراً، مشوشاً، شعر كأن ذاكرته مليئة بثقوب سوداء. وأن جسمه بدأ يثقل وأن روحه افتقدت الخفة، التي كانت تنقذه في مواقف كهذه. أراد أن يحدثها عن حياته، عن عمره كلّه، كما كان يفعل منذ سنوات بعيدة، وأن يستمع إليها، ويتعرف على أحداث حياتها منذ أن افترقا، عندما باغتته أورسولا:

- أما زلت تفكر، يا حبي، ليس هذا الوقت هو الوقت المناسب. ليست هذه الليلة سوى للصمت، للموسيقى والمداعبات اللانهائية، أنصت إلى الليل يا حبي ودع الأحاديث جانباً الآن. غداً يوم طويل آخر.

back to top