وثيقة الأزهر ... هل تحسم الصراع؟

نشر في 25-08-2011
آخر تحديث 25-08-2011 | 22:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري حرّكت "وثيقة الأزهر" راكداً في مياه الفكر السياسي الإسلامي، فمنذ صدور كتاب علي عبدالرزاق، "الإسلام وأصول الحكم"، الذي ظهر في عشرينيات القرن المنصرم، لم تشهد ساحة الفكر السياسي في الإسلام حدثاً هز العقول، وكان كل ما ظهر بعد ذلك الكتاب الجدالي المثير مثل ردوداً عليه لا غير، إلا إذا اعتبرنا "الكمالية" العلمانية المضادة في تركيا، وظهور الشيخ حسن البنا، التي أسس بها حركة "الإخوان المسلمين" من الأحداث المؤثرة في توجه ذلك الفكر الذي يستند أصلاً إلى أساس ضعيف في تراثه القديم وتجاربه السابقة.

هكذا فإن "وثيقة الأزهر" التي بادر إليها بشجاعة ودراية شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب لمواجهة حاجة داخلية مصرية، كما فعل سلفه الشيخ علي عبدالرزاق من قبل، وإن تكن "وثيقة الأزهر" أقرب في تقديرنا إلى روح الإسلام، تمثل تطوراً مهماً في الفكر السياسي الإسلامي. هكذا يسقط الاعتراض الذي اعتبر أن الأزهر تدخل فيما لا يعنيه من أمور السياسة، وخرج عن دوره التاريخي في التعليم والبحث الدعوي والفقهي، ذلك أن الفكر السياسي في الإسلام من صميم عمل أي مؤسسة فكرية إسلامية، فكيف بالأزهر الشريف الذي تولى مشيخته في مطلع النهضة الأستاذ الشيخ محمد عبده الذي اعتبر أن الإسلام قد أسقط السلطة الكهنوتية في العبادة، وفي الحكم.

وامتداداً لهذه الرؤية، ففي "بيان التوافق" الصادر عن المجتمعين في الأزهر، من علماء دين ومفكرين ومثقفين، وفي مجال الحديث عن "الدولة الوطنية الدستورية"، تم التذكير بأنه لم يعرف الإسلام ما يُعرف بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس... إلخ.

ويلاحظ أن "وثيقة الأزهر" لا تخلو من تحسس سياسي تجاه الوضع الراهن في العالمين العربي والإسلامي، حيث تتقوى النزعات غير السُنيّة وتتحدى "الاتجاه السني" الذي يمثل الأغلبية العظمى من المسلمين، حيث ورد في الأبعاد التي تم الارتكاز عليها، "البعد الفقهي" في إحياء علوم الدين وتجديدها لمذهب أهل السنة والجماعة الذي يجمع بين العقل والنقل ويكشف عن قواعد التأويل المرعية للنصوص الشرعية... هذا بالإضافة إلى الأبعاد الأخرى من "تاريخية" و"وطنية"، وصولاً إلى البعد الجامع "للعلم والريادة والنهضة والثقافة" في الوطن العربي والعالم الإسلامي. والمذهب المشار إليه بشّر به الأشعري وجاء حجة الإسلام أبو حامد الغزالي امتداداً له.

وتأكيداً لمتابعة الأزهر لهذا الأمر فقد تم النص في "بيان التوافق" المذكور على "اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي... إلخ".

وكان قبل ذلك قد نُص على: "تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر وعودة "هيئة كبار العلماء" واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري ليستمر دوره الفكري الأصيل، وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء"، وذلك أمر لابد من الترحيب به.

ولكن يشم المراقب في ذلك رائحة السياسة، أما من الوجهة الدينية والفقهية فهو من تراث الأزهر أيضاً، عندما أصدر شيخه محمود شلتوت عام 1959 فتواه الشهيرة بجواز التعبد على المذهب "الاثناعشري" الذي عده من مذاهب الإسلام الصحيحة. وقد تقدم المسلمون اليوم في الفهم والانفتاح فأضافت مجامعهم الفقهية إلى المذاهب الإسلامية الصحيحة ما جعلها ثمانية، (بالإضافة إلى المذاهب السنية الأربعة والمذهب "الاثناعشري"، أضيف الزيدي والأباضي والظاهري).

وإذا كانت "وثيقة الأزهر" تعالج شأناً مصرياً داخلياً بعد الثورة، فإن العرب والمسلمين جميعاً، بحكم مكانة مصر ومكانة الأزهر فيها قد أصغوا السمع واهتموا اهتماماً بالغاً بما جاء فيها وما تعنيه.

نجد ذلك فيما كتبه المفكر المتميز الدكتور سليمان العسكري، رئيس تحرير أعرق مجلة ثقافية عربية وهي مجلة "العربي" الكويتية، حيث قال: "وبدا واضحاً أن المجتمعات العربية... قد انشغلت بهذه الأسئلة (في علاقة الدولة بالدين) إلى حد تدخل مؤسسة كالأزهر بثقلها في محاولة لإعادة ضبط المفاهيم التي تخلط الدين بالسياسة عبر وثيقة أعلن عنها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب عقب مشاورات وحوارات جادة مع العديد من التيارات الفكرية وأفراد المثقفين في مصر، أحدثت أثراً واضحاً في أوساط النخبة والجمهور معاً لكونها وثيقة شديدة الأهمية في حرصها على توضيح العلاقة بين الدولة والدين... ولعلها المرة الأولى التي تعلن فيها قيادة الأزهر وجوب التفريق بين الدين والسياسة، والتأكيد على أن المؤسسات الدينية، وبينها الأزهر، لا ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية. وهي قبل ذلك وثيقة يبدأ بها الأزهر وقد استعاد دوره المهم في الإصلاح الديني... إلخ" (مجلة العربي أغسطس 2011م).

ولا يواجه المرء صعوبة في تلمس الطابع "المدني" للدولة في الإسلام، فمنذ أول دستور تعاقدي في عهد النبي الكريم نفسه، نجد أن "صحيفة المدينة" التي وضعها عليه الصلاة والسلام تميز بجلاء بين المجتمع السياسي المؤلف من المؤمنين واليهود وبقايا الوثنين العرب والمجتمع الديني الذي يمثله المسلمون وحدهم.

كما أن المسلمين منذ السقيفة، وبعد وفاة المصطفى، اتبعوا خلفاء كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليست لهم صفة دينية محددة، التي لم تكن في الإسلام إلا للنبي نفسه، وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى حد تفضيل القائد الشجاع الفاسق على القائد الرخو الصالح، لأن الأول شجاعته للمسلمين وفسقه على نفسه، كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كان يردد المقولة: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة". في إشارة إلى توخيّ المعايير الدنيوية والإنسانية.

ومن جديد الفكر ما ذكره د. سليم العوا، أن الصحابي عبدالله بن مسعود كان من أعلم الصحابة، ولم يرد عنه أن تولى منصباً سياسياً، مما يدل على التمييز بين الوظيفتين، ولكن أهل عصرنا ينقسمون انقساماً حاداً بشأن الطابع "المدني" للدولة، فالبعض يفسره بأنه "غير عسكري" كما يفعل د. العوا (الأهرام: 19/8/2011)، والبعض الآخر يفسره على أنه "لا ديني" ويصر على النص في دستور الدولة بأنها ليست "علمانية"، وهذا أمر مستغرب فالنص في الدستور يرد عما تكونه الدولة لا عما لا تكونه! فهي ليست دولة "شيوعية" ولا دولة "أفلاطونية"... فهل ينص على ذلك أيضاً وما شابه؟! والأجدى هو التقارب لتفسير المفهوم "المدني" للدولة، والخروج من أسر التعريف المتوتر(مدني = لا ديني) الذي وضعه الأستاذ الجامعي محمد حسين في كتابه البحثي، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر (1955)، في فترة احتدام الصراع بين الإخوان والناصرية، فذلك حسب علمي هو أبكر تعريف حديث لذلك المصطلح، وأراه نتيجة صراع سياسي لا رؤية علمية.

والأهم في تقديرنا التركيز على السؤال المفصلي: هل السيادة في الدولة الإسلامية للشرع أم للشعب ممثلاً في مجلس نوابه؟ وبعد أن يترسخ العدل الإسلامي في ظل الدولة "المدنية"، هل ستقطع يد السارق، كما ينص الشرع، أم أن المسألة سيقررها مجلس نواب الشعب؟ ولا تقتصر "وثيقة الأزهر" على المسلمين من الأغلبية العظمى السنية، بل يمكن أن تشمل على امتداد عالم الإسلام "الشيعة الأحرار" المستقلين من السائرين على نهج الإمامين اللبنانيين محمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله رحمهما الله، وكذلك المسيحيين العرب في جميع الأقطار العربية ممن يتعرضون اليوم للمضايقة والتهجير، وفي ذلك يقول د. سمير مرقص رئيس مؤسسة المصري المواطنة والحوار: "إنها محاولة للمصالحة التاريخية لحالة الخصومة التي شابت العلاقة بين الدين والسياسة على مر السنين..."

لقد شاركت مختلف التيارات السياسية وممثيلها في وضع هذه الوثيقة، واعتبرها البعض "استرشادية"، وإن لم يكن من المقبول اعتبارها "فوق-دستورية"، فذلك قد ينفّر البعض منها.

والخلاصة، إنها "موقف سياسي" كما عبّر عن ذلك الفريق عنان رئيس الأركان المصري (الأهرام: 18/8/2011)، وربما كانت المواجهة الحدودية مع إسرائيل عاملاً مشجعاً على وحدة الموقف، ولكننا لا نتوقع استمرار "الإجماع" على الوثيقة مصرياً وعربياً.

فالمسألة مسألة توازن قوى على الأرض، ونعتقد أن "الدينيين" يمثلون قوة لا يستهان بها، والتحليلات الآتية من ليبيا، ناهيك عن مصر ذات الإرث القديم في هذا الجدل، تشير إلى أن "الدينيين" يمثلون قوة على الأرض، وعلينا انتظارهم قريباً، بغض النظر عن "تحذيرات" القذافي.

ويبقى في ختام هذا الجدل، الذي علينا إدارته بأمانة وشفافية، تذكر المقولة الخالدة للزعيم المصري سعد زغلول الذي قرعت لوفاته أجراس الكنائس في لبنان: "الدين لله... والوطن للجميع".

* مفكر من البحرين

back to top