الشاعر الأسود لانغستون هيوز...
وجه أميركا الجميل في العالم العربيسبق أن كتبنا عن شاعر «نهضة هارلم» الأميركي (الأسود) لانغستون هيوز 1902 – 1967 قبل نحو سنتين، وفي الأشهر الأخيرة لوحظ مدى اهتمام الشعراء والمترجمين العرب بقصائده، وخلال فترة قصيرة صدرت ترجمات كثيرة له بعضها في كتب وبعضها الآخر على شبكة الإنترنت، مبينةً جوانب من سيرته الساحرة والرمزية.
ما من شك في أن هيوز أحد أجمل الأصوات الشعرية في الولايات المتحدة، فجمله البسيطة تبقى كالموسيقى في أذنَي القارئ، ومن خلال عناوين كتبه وقصائده نلاحظ قوة شاعريّته.ترجم المصري أحمد الشافعي قصائد لهيوز مع آخرين صدرت بكتاب بعنوان «وجه أميركا الأسود... وجه أميركا الجميل» عن «المركز القومي للترجمة»، وفيه نلاحظ أن مجمل الشعر الأسود يتمتّع بنبض إنساني عالٍ ويخلو من أية عرقية أو عنصرية... قال هيوز: «أنا الأخ الأسود/ أنا أيضاً أميركا».بدوره، اختار الشاعر سامر أبو هواش «أنا أيضاً أغنّي أميركا» (دار الجمل) عنواناً للمجموعة التي ترجمها لهيوز ضمن سلسلة بعنوان «أشياء أخرى تأتي من بلاد العم سام»، هي الأشياء الجميلة بالطبع التي تتحدى منطق الجنون والصواريخ والحروب التي طالما عُرفت بها الأمبراطورية الأميركية.على شبكة المواقع الإلكترونية، نلاحظ مدى حضور ترجمات هيوز بتوقيع عادل صالح الزبيدي وسنان أنطون وعبد القادر الجنابي وحسن حجازي وفيصل عبد الوهاب ومجيد الأسدي وأسماء أخرى. حتى أن ثمة من ترجم قصائد له بالعامية المصرية باعتبار أنه كان يكتب أحياناً بالعامية الإنكليزية المستمدة من أحياء السود. وفي جديد ترجمات هيوز إلى العربية مجموعة «قصائد مختارة» بتوقيع محمد باقر علوان عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، وهي إعادة طبع لكتاب كان صدر في بغداد عام 1972، بعد مراجعته وتصحيح أخطائه المطبعية.المهم القول إن معظم ترجمات هيوز إلى العربية يبيّن مدى حضور شاعر «نهضة هارلم» (حي السود في نيويورك) في النسيج الثقافي العربي ومدى حضور شعره الذي ينطوي على نبض إنساني أكثر من مجمل الشعر الأميركي (الأبيض). والقارئ يشعر ببساطة في تراكيب جمله وسلسلتها، وبأن شعر هيوز في الأساس يعتمد على البساطة في الأداء والموضوع، واللافت فيه الومض الساطع (من دون افتعال) من صوره ومعانيه وموقفه وشعره مع ذلك تنطبق عليه صفة «السهل الممتنع».دراستههيوز الذي لُقّب بشاعر الزنجية، لم تتسنّ له فرصة إكمال دراسته الجامعية، فاضطر الى العمل في مهن ووظائف مختلفة وغريبة لتأمين لقمة عيشه، وقبل أن يطبع أولى مجاميعه الشعرية، نُشرت غالبية أشعاره وأقاصيصه ومقالاته ومسرحياته في صحف ومجلات أدبية عدة، ونال جوائز كثيرة. وكانت بدايته من «مقاهي هارلم» حيث كتب قصيدة «حلم مؤجل»، وفيها: «ماذا يحدث لحلم مؤجل؟ هل يجف مثل زبيب تحت الشمس؟ أو يبقى مثل جرح لا يندمل؟ هل يتعفن مثل لحم قديم؟ أو يسيل مثل عسل حلو؟ أو هل ينفجر؟». وفي قصيدته المؤرخة عام 1942 وعنوانها «حلوات هارلم»، ينشد هيوز لأنواع عريضة وغنية من الجمال الأسود الذي يظهر في الشارع:جنجر، نبيذ ذهبي،أكي دنيا، توت،على امتداد هذا الطيفتتنوع بنات هارلم - لو لديك رغبة في التعرف علىقوس قزح جمال عذب – مشوق،تنزه في شوغير هيل الحلوة،اللذيذة والناضجة.في هذا الإطار، كتبت ليزا كلايتون روبنسون أن شعار «الأسود لا ينقصه الجمال» أصبح حكمة متداولة في الستينيات والنمطية القائلة بأن البشرة السوداء تمثل بالضبط عكس ما هو جميل – كانت عنصراً حاسماً في بنية الأسطورة الأميركية البيضاء ذات الفحوى العنصري.قدّم هيوز الشخصية السوداء المقهورة بمثالية، وعام 1926 نشر مقاله الشهير «الفنان الأسود وجبل العرقية» في صحيفة «نيشن»، وعرض فيه رؤيته للفنانين الأفرو - أميركيين. قال: «لنعبّر عن أنفسنا، على رغم سواد لوننا، من دون خوف أو خجل. لنسعد إذا رضي البيض عنّا. ولنسعد إذا لم يرضوا عنّا. لا يهم رأي البيض فينا». ولا تزال قصاصة الجريدة موجودة في «متحف هيوز» في بنسلفانيا، ويقول عنها البعض «مانفيستو هيوز» الذي افتخر بلونه الأسود، ودعا الى المساواة، واعتبر نفسه ليس أقل أميركيّة من أي أبيض. علماً أنه تأثّر بالشعر الزنجي الأميركي، خصوصاً بشعر بول لورنس دنبار ولكنه في الوقت نفسه تأثر بشعراء آخرين سواء كانوا أمواتاً أو معاصرين له أمثال لونجفالو ووالت ويتمان وكارل ساندبرغ وإيمي لويل.شعرهيعتبر المترجم محمد باقر علوان أن شعر هيوز يمتاز من الناحية التكنيكية بقصر جملهِ وقوّتها، وشعره دائماً يثير الخيال الإنساني، ويهمس بصورة جميلة تارة وبشعة طوراً، لكنه يؤديها بشيء من الفهم والمجاوبة وحتى العطف. وهو يغلف ذلك كلّه بموسيقى ساحرة، ونكاد نحسّ أنه كان يعتقد اعتقاداً جازماً بشعار «الموسيقى قبل كل شيء». وما يدل على ذلك كتابته قطعاً شعرية عدة قصيرة للأطفال الذين هم أكثر الناس تأثراً بالهارمونية العفوية، والإيقاع الرتيب.وفي تجربته الشعرية يكاد هيوز يتمثل بالنجّار تماماً، يدق مسامير الكلمة على خشبة العواطف دقاً مدركاً، ماهراً فناناً. وهو في زمن حي هارلم، اعتمد على اللهجة العامية التي يمتاز بها الزنوج، واستمد أشعاره من موسيقى الجاز وأغاني الزنوج الحزينة (البلوز)، وأشكال موسيقية رأى أنها التعبير الأصيل والمتعمّق عن الفن الذي تبدعه المجتمعات السوداء، ويظهر ذلك واضحاً في أولى مجموعتين له هما «البلوز الحزينة» 1926 و{ملابس فاخرة إلى اليهودي» 1927. على أن أهمية هيوز تكمن في أنه قدّم البعدين الروحي والحضاري للسود، والمتمثلين في الأشكال التعبيرية والإيقاعات الموسيقية والثقافة الطقوسية الضاربة عميقاً في التاريخ.ربما كان هيوز، بحسب الترجمات العربية ومقدمات الترجمات، أول شاعر أفرو- أميركي يستثمر انتماءه في تطوير خطاب شعري متميز، على عكس شعراء آخرين من الانتماء ذاته آثروا أن يكونوا أقرب إلى الموروث الأميركي (الأبيض) أو الأنغلوسكسوني منهم إلى انتمائهم الإثني، بما يزخر به من ثقافة ومكونات سياسية واجتماعية واقتصادية.وكمثل كثير من شعراء العالم، اهتم هيوز بالجماعات اليسارية الثورية، لا سيما الحزب الشيوعي وعلى رغم أنه لم ينضم رسمياً الى صفوفه، إلا أنه كان مناصراً للشيوعية التي رأى فيها نموذجاً لجلب العدالة الى السود في أميركا. وكتب في هذا المجال: «صباح الخير أيتها الثورة» و{وداعاً أيها المسيح» وقصيدة «إلى لينين».وبإزاء «شيوعية» هيوز استُدعي إلى التحقيق من لجنة مكارثي التي تعتبر أسوأ كابوس عرفته أميركا في زمن «الحرب الباردة» في الخمسينيات من القرن الماضي. فحققت معه في وقت كان قد أصبح أحد كبار الشعراء الأميركيين، لكن المحققين معه لم يكونوا ليدركوا أن هيوز سيصبح لاحقاً رمزاً أدبياً بالنسبة الى السود. مرّ هيوز في حياته بمرحلة تعاطف قويّ مع الشيوعية، وهو لم يبقَ على قناعاته تلك بعد ذلك، وإن لم يتبنّ بعد ذلك قناعات نقيضة، لكن تعبيراته السياسية باتت أقل علانية وأكثر شاعرية. كتب هيوز قصائد كثيرة رابطاً بين الرأسمالية والتمييز العنصري الذي يعاني منه السود في أميركا، منحازاً إلى نظام اشتراكي تسود فيه العدالة والمساواة.قصائد تلك المرحلة في أية حال هي التي قادت هيوز ليمثل أمام لجنة مكارثي التي خاضت معه سجالاً «أدبياً» وسياسياً أقل ما يقال فيه إنه عبثي.توفي هيوز عام 1967 بعد معاناة مع السرطان، وكان أصبح بمثابة أسطورة تتجاوز الكتابة والشعر الى مستوى الرموز، حتى أن البعض أطلق عليه لقب «شاعر الشعب الأميركي»، وهو اليوم يعتبر شاعر «الزنوجة الخضراء»، أي أن شعره لا يزال نضراً لدى مترجميه ومحبيه وعشاق قصائده، وهو إذ يحضر ضمن الكتب التي يقرأها الرئيس باراك أوباما كما كان يحضر في خطب مارتن لوثر كينغ، وهذا يدلّ على أن شاعريته فرضت نفسها بقوة.