علماء تحت راية الإسلام: الجاحظ... أمير البيان
إذا بحثت في تاريخ الأدب العربي عن معلم بارز وشخصية تحتل المكانة الأبرز فيه لن تجد إلا الجاحظ، فهو بحق أمير البيان العربي وأحد أساطيره الكبار، أجمع على علمه وتفرده علماء الشرق والغرب، أكثر أهل عصره علما وأعظمهم أثرا في تطور الأدب العربي، فمعارفه الموسوعية جعلته أشبه بدائرة معارف متحركة، ورغم معارفه الأدبية إلا أن الجاحظ يعد أحد أهم من طبق المنهج النقدي والتجريبي في التاريخ الإسلامي وواحد من قلائل هاجموا أرسطو في العصور الوسطى وأثبت خطأه في الكثير من القضايا، كما يرجع الفضل إليه في مزج الثقافات العربية واليونانية والفارسية في كيان واحد تحت مظلة الثقافة الإسلامية عربية اللسان، كما أنه صاحب الأسلوب السهل الممتنع الذي أكسب العربية نضارتها وسار على خطاه أئمة البيان من بعده فكانت دقة المعنى مقدمة عنده على زخرفة اللفظ، فكانت الكتابة العربية الحديثة امتداداً لأسلوبه. ولد أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ بمدينة البصر في عام 159هـ / 776م، وتوفي في بغداد سنة 255 هـ/ 868 م، بعد أن عمر قرابة القرن شاهد فيه تقلبات السياسة وتغير التيارات الفكرية على الساحة الإسلامية فكان مشاركا في كليهما. نشأ الجاحظ في أسرة فقيرة ما دفعه إلى امتهان مهنة بيع السمك في صباه إلا أن هذا لم يمنعه من طلب العلم فقد عرف عنه شغفه بالكتب وسرعة حفظه للكتب، فيروى عنه أنه لم تقع في يده ورقة إلا وقرأها، وكان يؤجر دكاكين الكتب من أصحابها ويغلقونها عليه ليمضي ليلته كلها في القراءة وحفظ ما في الكتب حتى الصباح. للجاحظ العديد من الكتب في مختلف فروع العلوم المعروفة في وقته، فهو لم يترك شأنا حياتيا أو سياسيا إلا وكتب فيه، فألف في علم الكلام باعتباره من شيوخ المعتزلة والسياسة والتاريخ والحيوان والنبات ونصائح الملوك والسياسة والقيان والغلمان، وذوي العاهات وأصحاب العادات المذمومة، والأخلاق المستحبة عند العرب والمستذمة وغيرها كثير. لكن تظل أشهر كتبه بلا جدال كتاب «الحيوان»، وكتاب «البيان والتبيين»، وكتاب «البخلاء»، وكتاب «المحاسن والأضداد»، وكتاب «البرصان والعرجان والعميان والحولان»، وهي الكتب التي تحتوي على خلاصة الجاحظ الفكرية وتظهر مدى إحاطته بمعارف عصره.
أهم جوانب مشروع الجاحظ الفكري هو منهجه التجريبي الذي لم يقابله الباحثون بمزيد من العناية فقد أعلى الجاحظ من قيمة العقل فكانت للتجربة والمشاهدة القول الفصل لديه لذلك رفض الكثير من آراء أرسطو لأنها تتعارض مع التجارب التي أجراها ومشاهداته للحيوانات من الديوك والكلاب والحيات، فلم يقف أمام أرسطو موقف التلميذ الخائف بل وقف أمامه موقف العالم والمعلم المصحح، فاهتم في كتابه «الحيوان» بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته فكان بذلك مؤسس علم طبائع الحيوان.
أعظم مشهد في قصة حياة الجاحظ هو مشهد وفاته فالرجل الذي قارب على المئة عام والمصاب بالفالج (الشلل النصفي) لم يعرف الهمود والراحة بل ظل يبحث ويدرس وينهل من نبع العلم الذي لا ينقطع، فنراه رغم تقادم العمر وتكالب المرض على الجسد يخطو خطوات مرتعشة صوب مكتبته يبحث عن معلومة في كتاب، لتسقط عليه المكتبة بما فيها من مجلدات الكتب، فتصرعه تحتها فيكون قبره من ورق كما كانت حياته بين الأوراق.