بريطانيا... موطن رسملة العالم المترهل

نشر في 14-01-2012 | 00:01
آخر تحديث 14-01-2012 | 00:01
No Image Caption
يجب القول إن سوق المال في لندن يستطيع المنافسة بصورة ناجحة مع المراكز المالية الأخرى فقط إذا تمكنت بريطانيا من رسم سياسات صحيحة وملائمة في ما يتعلق بالأنظمة والضرائب والهجرة.

الحملات التي قام بها محتجون ضمن حركات "احتلوا وول ستريت" و"احتلوا لندن" واحتلوا أي مدينة يمكن للممولين فيها أن يحولوا النقود إلى مكاسب، وكانت تستهدف المصرفيين بشكل جلي، ألهبت الأخبار الاقتصادية الكئيبة والمؤسفة التي ميزت السنة الماضية.

ولكن على الرغم من ذلك فإن العدائية ليست مقتصرة على التيار اليساري، فقد شارك فيها حتى جماعات يفترض أن بها حلفاء للمصرفيين خصوصاً في بريطانيا بشكل أوضح من أي مكان آخر، وقد وعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بالعمل على "إنهاء التجاوزات" في سوق المال في لندن، كما يفاخر أعضاء حكومته بالجهود التي بذلوها من أجل "إعادة توازن" الاقتصاد بعيداً عن صورة المال المراوغ وانتقالاً إلى التصنيع النزيه والصادق.

وحرص حاكم بنك إنكلترا (المركزي البريطاني) السير ميرفن كينغ على توبيخ وشجب ثقافة الأجل القصير "الميل المربع" التي تكرس اهتمامها فقط على جني مباشر وسريع للأرباح واصفاً إياها بثقافة "حصد الأرباح في الأسبوع المقبل".

وعلى مستوى القارة الأوروبية، ينظر إلى سوق المال في العاصمة البريطانية بمزيج من الاشمئزاز (على أساس أنه المتسبب الوحيد في أزمة اليورو) والطمع (على خلفية أن كل أولئك الممولين الفرنسيين والإيطاليين البارعين يجب أن يعملوا في باريس وروما وليس في لندن).

حماقة مؤكدة

إن حملات زعماء أوروبا يجب أن يكون لها جانبها الجيد على الأقل: حيث يجب أن تسهم هرطقتهم ومصالحهم الشخصية في تذكير البريطانيين بمواطن الخطر والمجازفة، ومعروف أن لندن وفق كثير من المعايير هي أكبر مركز مالي في العالم كله، وإضعاف ذلك المركز ليس في مصلحة أحد، خصوصاً بريطانيا.

صحيح أن ثمة حاجة مؤكدة إلى تحقيق تنظيم أفضل لعمل البنوك لا سيما من أجل حماية دافعي الضرائب البريطانيين، وقد ظل تقريع سوق المال في لندن حتى الآن وبشكل رئيسي مجرد جدل كلامي، غير أن القضاء على واحد من أكثر مراكز العالم التجارية نجاحاً ينطوي على حماقة أكيدة، وهي ليست الإرث الذي يود كاميرون تركه لخليفته من دون شك.

ويعتبر توجيه الوفورات النقدية نحو الاستخدام الأفضل لها صناعة حيوية برعت فيها بريطانيا تماماً، حيث تمكنت من تحقيق ريادة عالمية على مستوى العديد من أسواق المال العالمية، بما فيها أسواق صرف النقد الأجنبي والمشتقات، كما أن تنافسية سوق المال في لندن وما يتمتع به من تقدم واضح يظهر أثره جلياً في الميزان التجاري البريطاني.

وقد شكل فائض الصادرات في الخدمات المالية والتأمين 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، وإذا أضفنا الصادرات ذات الصلة بالخدمات، مثل مسائل الخدمات القانونية والمحاسبية والاستشارات، فسنجد أن الفائض التجاري لها قد وصل إلى أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي.

العمولات الدسمة

وتعتبر الكتلة الصناعية التي تستطيع توليد مثل هذه الأرباح الأجنبية بهذا المستوى موضع حسد من جانب الدول الأخرى، وما من دولة أخرى- حتى الولايات المتحدة- تمتلك القدرة على مضاهاة بريطانيا ولو بشكل قريب في الميزان التجاري لقطاع التمويل، ومع تعثر وضعها الاقتصادي داخلياً، فإن بريطانيا في حاجة إلى كل طاقتها التصديرية التي تستطيع الوصول إليها.

وعلى الرغم من ذلك فإن سوق المال في العاصمة البريطانية يتعرض لنوعين من الأخطار: الأول، هو الجانب الذي لا يمكننا عمل شيء بشأنه، والثاني، هو ما تستطيع التصرف حياله. وحتى مع وجود سياسيين حكماء، فإن من المحتمل أن يتعرض سوق المال في لندن إلى انكماش خلال السنوات القليلة المقبلة.

فالرهونات العقارية الجديدة تم الموافقة عليها عند معدلات تصل إلى نصف ما كانت عليه في الفترة التي سبقت اندلاع الأزمة، وهذا يعني مستوى أقل من الأعمال بالنسبة إلى البنوك، ومن جهة أخرى تراجع عدد الموظفين العاملين في مجال التمويل في شتى أنحاء بريطانيا إلى أقل بـ 7% من المستوى الذي كان عليه قبل ثلاث سنوات.

وأسواق العالم الثري الاقتصادية والأصول التي تفتقر إلى الحيوية تعني أن وضع التبادل التجاري والصفقات التي تحقق أرباحا دسمة ومجزية هي في الوقت الراهن في أسوأ حالاتها منذ سنين عديدة، وربما منذ عقود من الزمن أيضاً. كما أن تشديد الإجراءات التنظيمية يعني كذلك نسبة أقل من الأرباح إضافة إلى احتمال حدوث نوع من التوجه نحو صفقات في الأسواق الناشئة، حيث تحاول الحكومات تطوير مراكزها المالية الخاصة بها.

ولكن على الرغم من ذلك يتعين القول إن قارة آسيا تشكل فرصة جيدة، وتوجد في الصين والهند مجموعة من الأسواق المالية الناقصة النمو بينما تملك بريطانيا الخبرة الواسعة، وإذا كانت لندن قد تحولت إلى مركز عالمي لتبادل الدولار الأميركي فلمَ لا ينسحب ذلك على اليوان في عقد صفقات تجارية أيضاً؟ ويتعين بالتالي أن يتحول سوق أوروبا للتمويل الشخصي الناقص النمو إلى هدف آخر.

«الفيتو» البريطاني

لكن يتعين القول إن سوق المال في لندن يستطيع المنافسة بصورة ناجحة مع المراكز المالية الأخرى فقط إذا تمكنت بريطانيا من رسم سياسات صحيحة وملائمة في ما يتعلق بالأنظمة والضرائب والهجرة، وبالنسبة إلى التنظيم يوجد خوف يمكن تفهم أسبابه من حيث كون ضخامة صناعة الخدمات المالية تعني زيادة في حجم المخاطر بالنسبة إلى دافعي الضرائب، ولهذا السبب تمضي مقترحات لجنة فايكر البريطانية بعيداً في بشأن معالجة هذه المسألة وتقسيم النظام المصرفي المحلي المنظم بصورة دقيقة- والذي يعرض للخطر مصالح دافعي الضرائب- بعيداً عن الأسواق الدولية الأكثر حرية بالنسبة الى الرسملة العالمية.

وعلى العكس من ذلك يبدو أن العديد من المقترحات التي صدرت عن العاصمة البلجيكية بروكسل مؤذية وضارة.

والبعض منها- مثل ضريبة الصفقات المالية- يمكن أن تتعرض للعرقلة من خلال "الفيتو" البريطاني، أما البقية فهي خاضعة لتصويت الأكثرية وكانت المواجهة بين رئيس الوزراء البريطاني كاميرون وشركائه الأوروبيين في الشهر الماضي- التي كان يفترض أن تسهم في حماية سوق المال في لندن ولكنها في حقيقة الأمر كانت تهدف إلى تجنب بيع المزيد من أوروبا المتكاملة إلى المحافظين المشككين في أوروبا- قد أعطت في الوقت الراهن منافسي لندن العذر من أجل تجريد سوق المال في لندن من الفعالية والأداء.

سياسات الضرائب والهجرة

إلى ذلك يتعين القول إن سياسات الحكومة البريطانية في ما يتعلق بالضرائب والهجرة ألحقت أيضاً الكثير من الضرر، فعلى سبيل المثال يحقق معدل الضريبة الصارخ 50% الذي فرضته حكومة حزب العمال السابقة في سنة 2010 القليل من المال، وقد جعل من العاصمة البريطانية المدينة الأعلى ضريبياً بين 10 مراكز مالية بالنسبة إلى الأفراد ذوي الدخل الصافي المرتفع. والجيل الحالي من المديرين الماليين الذين يعيشون في لندن ويحبونها قد يحتملونها لبعض الوقت غير أن المديرين الأصغر سناً يشعرون بانجذاب نحو سويسرا وهونغ كونغ أو دبي.

أما في ما يتعلق بسياسة الهجرة، فإن أفضل وسيلة من أجل كسب المشاريع التجارية الآسيوية تتمثل بإغراء الممولين الشبان في آسيا وجذبهم للمجيء إلى لندن، ثم إن التضييق على المهاجرين الموهوبين يلحق الضرر بصورة سوق المال في لندن وإمكاناته، وفي حقيقة الأمر في كل الأعمال التجارية البريطانية.

سماسرة الأسهم هم الفائزون

لدى رجال السياسة وجهات التنظيم أنواع لا حصر لها من الأعذار لتبرير تصرفاتهم، فقرار إلغاء معدل الـ50% الذي سيحظى بشعبية كبيرة ينظرون إليه على أنه مجازفة سياسية خطيرة، أما قضية الهجرة فهي لا تتمتع بأي شعبية من الجمهور السياسي البريطاني، لذا فالسياسيون يبدون حرصهم على تقليص فرص تعريض مدينة لندن للخطر وجعلها في أقل مستوى، في مقابل تعظيم مميزاتها التي لا تقارن ويصعب محاكاتها.

فالوسطية التي يتمتع بها يوم العمل الطويل في العاصمة البريطانية بين إغلاق أسواق المال الآسيوية وافتتاح سوق نيويورك، يجعل من لندن موقعاً ملائماً ومريحاً بالنسبة إلى مديري الأصول العالميين وللمتداولين على حد سواء، وعملية التداول في لندن تستقطب السيولة والمهارات التمويلية اللازمة من دوائر عديدة، لكن الأقوياء في العادة يتعرضون للمنافسة، وأي قرار يتعلق باختيار موقع جديد في مكان آخر ينطوي، مع مرور الوقت، على خسارة بالغة الأهمية في الكتلة الحرجة التي جعلت من سوق المال في العاصمة البريطانية مركزاً مالياً رائداً.

ويعمل الاقتصاد في أفضل صوره وأشكاله عندما يعكس دوره المزايا التنافسية الفطرية للدولة، ومن هذا المنطلق يتعين على بريطانيا أن تشتمل على قطاع مالي واسع بصورة نسبية، كما يتعين على صناع السياسة تشجيع ذلك وليس السخرية منه، وإذا استمروا في تجاهلهم المقيت فإن بريطانيا ستستيقظ ذات يوم لتكتشف أنها فقدت واحدة من أكثر باقات العمل التجاري

نجاحاً في العالم، وخسرت أيضاً أفضل أمل بالنسبة إلى الجيل التالي في التمتع بعيش لائق

back to top