يرويها أحمد فؤاد نجم: عرفت النور في زنازين عبدالناصر

نشر في 03-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 03-08-2011 | 22:01
حياة الشاعر دائماً أقل بريقاً من قصيدته، لكنها تبقى أكثر صراحة على الأقل، تبقى كتاباً مفتوحاً على كل الاحتمالات، الفضيلة والرذيلة اللتان تمشيان جنباً إلى جنب في حيوات الشعراء تجعلاننا نقرأ هذه التجربة الفريدة بما تستحق من الدهشة، فقد كان لدى الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم حظ وفير من الحياة.

هنا، في الحلقة الثالثة من حكايات الفاجومي، تفاصيل علاقته برموز النظام في عهد الرئيس عبد الناصر، وظروف الغناء في هذا الزمن عندما اختار مع صديقه الشيخ إمام أن يكونا صوت الهامش، وكان عقابهما دائماً الحياة في الظلام، ومن هناك تحديداً خرجا إلى النور.

شعرتُ بأوَّل فرحة في حياتي عندما كتبتُ قصيدتي «كلب الست»، كانت القصيدة البكرية... المفترض أن تكون أول فرحة... لكن من أين لأمثالنا الفرحة؟! كان أصحابي أول من اندهشوا حين سمعوها، «فالمعروف عن الشاعر أنه من دراويش الست، ثم من الذي يتجرأ وينتقد أم كلثوم، سيدة الغناء العربي وهرم مصر الرابع، كما أطلق عليها معجبوها في وقت كانت هامة أم كلثوم تطاول هامات الزعماء، بل ربما يختلف الناس على الزعماء، فعلى رغم شعبية الزعيم جمال عبد الناصر الكبيرة آنذاك إلا أن ذلك لم يمنع وجود معارضة ضده، أما أم كلثوم فهي الزعيم الذي لا يختلف عليه اثنان من المصريين، وقتها ذلك كله لم يمنع من كتابة هذه القصيدة التي اعتبرها كثر تطاولاً غير مسموح به على قامة لها مكانتها في مصر وخارجها.

بدأت قصة قصيدة «كلب الست» حين نشرت الصحف اليومية كلها خبراً عن تعرض شاب مصري فقير كان يسير بالقرب من فيللا السيدة أم كلثوم بحي الزمالك للعض من كلب كانت تربيه، وبعد أن تعرض الشاب لإصابات كثيرة تم تحرير محضر بالواقعة، وإذا بالصحف بعد ذلك تنشر أن التحقيق قد حُفظ.

لعلمك أنا أحد عشاق أم كلثوم، أم كلثوم بالنسبة إلي هي قمة المغنى... لكن أم كلثوم كانت سلطة رهيبة... كانت تأمر فتطاع... كانت الشخصية الثانية في مصر بعد عبد الناصر... وفي واقعة الكلب كان لا بد من أن أنحاز إلى المعتدى عليه، وقد غضبت غضباً شديداً، وهددت وتوعَّدت لكن كان السهم قد نفذ، وإعلام عبد الناصر بدأ يدلس ويدجل على لسان الولد، ويقول أنا سعيد أن عضّني كلب أم كلثوم... وبعد ذلك يأتون بوكيل نيابة يحفظ التحقيق بحيثيات «حيث إن الخدمات التي أدتها السيدة أم كلثوم للدولة كفيلة بأن تعفيها وكلبها من المسؤولية... أمرنا بحفظ التحقيق.

قلتُ:

«في الزمالك من سنين

وفي حمى النيل القديم

قصر من عصر اليمين،

ملك واحدة من الحريم،

صيتها أكتر م الأدان

يسمعوه المسلمين والتتر والتركمان والهنود والمنبوذين

ست فاقت ع الرجال في المقام والاحترام

صيت وشهرة وتل مال

يعني في غاية التمام

قُصره يعني

هي ليها كلمة في الحكومة بس ربك لجل حكمة قام حرمها م الأمومة».

في ذلك الوقت، كان «حوش قدم» يزخر بالتيارات اليسارية والنخبة المثقفة التي كانت تأتي وتستمع إلى الأغاني، خصوصاً بعد الهزيمة. كانوا يريدون أن يحصلوا على دفعة للتفاؤل وللرغبة في المقاومة، ومن هنا بدأت جموع المثقفين تستمع وبدأت الصحف تكتب ولكن قبل النكسة تحديداً في عام 1964، حدث أن تعرفت على شباب من حزب «مصر الفتاة» ـ وأنا كنت آنذاك مبهوراً بشخصية رئيس حزب «مصر الفتاة» أحمد حسين، لكن الحقيقة غضبتُ منه ونزل من نظري حين دافع عن نفسه أمام القاضي في المحكمة قائلاً: «أنا أحمد حسين جورنالجي»، ولم يقل أنا الزعيم السياسي، المهم الشباب دول كانوا يتقابلوا في شقة امرأة تدعى ليلى قالت إنها قريبة أحمد حسين. كانت امرأة حلوة وارستقراطية، ذات مرة وبينما كنا نتكلم في السياسة دخل علينا البوليس، وأخذت ثلاث سنين سجناً، خرجت سنة 1967 قبل النكسة وسافرت إلى بيروت ووجدت هناك عبد الناصر أسطورة في الجنوب اللبناني وفي المخيمات الفلسطينية، فاستقبلوني بشكل يليق بتقديرهم لمصر ولعبد الناصر.

النكسة الرهيبة

«يا هلا بأزلام أبو خالد}، ودي تحيتهم للمصريين كلهم، وكنت آنذاك كاتب قصيدة الخواجة الإميركاني:

«الخواجه الأميركاني/ والسماسرة اللي وراه/ تخنَّوا بالكدب ودنه/ وعرضوا له مقاس قفاه/ فهموه من غير ما يفهم/ أن سوق الشرق مغنم / والخوجه بطبعه مغشم/ والمصاري معفرتاه.

حب يعمل فيها تاجر/ وانطلق يسلب وينهب/ ف الزباين بالنهار/ يحدف الدولار يلمه.

تلتميت مليون دولار/ بالقزايز والبنات باللبان والبمبونات/ بالمدافع والدانات/ أو بأفلام الرعاة/ قول بقى تاجر وفاجر/ وانفلت لص المواشي/ رعب ماشي في البلاد/ يشفط البترول ويطرش/ كل ألوان الفساد/ عزرائيل من غير فرامل/ يقلب العرسان أرامل.

حتى في بطون الحوامل/ كان بيدبح الحياة/ بالسناكي والخناجر/ والنهاية يا خواجة

مش ف يوم كانت بداية؟/ البدايه برضه لازم/ ييجي يوم توصل نهاية/ مهما زاد الراسمال/ الهلاك هو المآل/ والتاريخ هو اللي قال/ لعبة الموت في الحياة/ تسحب الروح م الحناجر».

ومفيش شهر وحطت على مصر والمنطقة العربية النكسة الرهيبة المهينة، فسببت صدمة مروعة وزلزالاً مدمراً، فقدنا التوازن والتفكير، وثاني يوم النكسة أطلقت رصاصتي الأولى على عبد الناصر ونظامه.

«الحمد لله

الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا

يا محلا رجعة ظباطنا

من خط النار

يا أهل مصر المحمية بالحرامية

الفول كتير والطعمية

والبر عمار

والعيشة معدن واهي ماشة

آخر اشيا

مادام جنابه والحاشية بكروش وكتار

ح تقول لي سينا وما سينا شي

ما تدوشناشي

ما ستميت أوتوبيس ماشي

شاحنين أنفار

إيه يعني لما يموت مليون

أو كل الكون

العمر أصلا مش مضمون

والناس أعمار».

بصراحة أنا كنت أحب عبد الناصر جداً، مثل المصريين كلهم ولما حدثت هزيمة يونيو كان الغضب بقدر المحبة لأن «العتاب على قد العَشم».

في هذا الوقت نلتُ أنا والشيخ إمام شهرة كبيرة، فبعد عام 1962 التفت حولنا مجموعة من الشعراء والفنانين ذوي الميول اليسارية، معظمهم كان من كتاب مجلة «روزاليوسف» ومحرريها ورساميها، وفي تلك الفترة قبل عام 1967 كتبت عدداً من قصائد لحَّنها الشيخ إمام، كان من بينها «على حسب وداد، و{عصفور وصياد» و{أبوك السقا مات» و{الحمام الأمري»، ومع أن تلك القصائد بعيدة عن تناول القضايا السياسية بشكل مباشر، إلا أنها كانت تتميز ببصيرة اجتماعية نافذة، من خلال رصدها لبعض مظاهر التناقضات الاجتماعية التي كانت لافتة في تلك السنوات، سنوات التحول الاشتراكي، الذي كان الشيوعيون المصريون غير راضين عنه، ويعتبرونه غير كافٍ، بينما يعتقد كثيرون منهم بأن هذه التحولات أفرزت، طبقة جديدة، وكان الحديث عن هذه الطبقة مادة خصبة وكانت قصيدتي السياسية الأولى «يعيش أهل بلدي» التي كتبتها عام 1967.

خسارة يا عبد الناصر

في هذه الفترة، لم أكن وحدي أستشعر وجود طبقة جديدة مُخيفة ومُتوحِّشة آنذاك، وإنما التحذير مما يجري جاء أولاً على لسان فرسان الصحافة، وكانوا يتحدثون أيامها عن إفراز مرضي طالع من عباءة الثورة، جراد أصفر انتشر فجأة فوق المزارع والمصانع، يبلع الأخضر واليابس ويكرش ويسمن وتحمر خدوده من دم «الشقيانين». قالوا عنهم أوصافاً كثيرة، مثل «القطط السمان». فنان الكاريكاتور حجازي كان يرسمهم بكروش وبدلات سوداء، ونظارات سوداء، يركبون سيارات آخر موديل، ويشربون السيجار الهافانا، احتدت المناقشات بسبب تلك الكائنات، وهل هم شريحة من المجتمع، أم طبقة جديدة؟!، وإذا كانت شريحة يصبح قيام حركة تطهير ضرورة لتخلصنا منها، وإذا كانوا طبقة جديدة أصبح المسألة بحاجة إلى ثورة آخرى، يعني ثورة على الثورة. وانتهز عبد الناصر الفرصة وخطب في الناس الذين كانوا ينتظرون خطابه بفارغ الصبر، متأكدين من أن الريس قادر بخطبة واحدة على أن يقضي على الطبقة الجديدة ويخلصنا منهم في غمضة عين، وبدأ الخطاب وبعد الديباجة فوجئنا بالقائد يقول بعلو صوته: «ما فيش طبقة جديدة»... قلت إنه لا يرى ما نراه، فقال: «فيه إطار للعمل الوطني اللي هو تحالف قوى الشعب العاملة»... وحين قال بلهجة تهديد واضحة: بتوع الكاريكاتور زودوها قوي... قلت: «يا نهار زي النيلة يا وقعة زي الطين... ليه كده يا ريس؟»!

عن نفسي كنت أحبه وأحسد نفسي لأني عشت في عصره، كنت فخوراً أنه رئيس مصر وقائد ثورتها! يا خسارة يا ريس بقى المعاناة والقرف اللي شايلينه وكاتمين الدم على القيح وطوابير الجمعية وبهدلة بناتنا في الأتوبيس وشبابنا اللي راح في كل بلد شهيد وأولادنا وأخوتنا في المعتقلات من دون تهمة وغيره وغيره... بقى كل ده بفعل رسامين الكاريكاتور أولاد ستين في سبعين؟ أما صحيح اللي اختشوا ماتوا.

وجدتني مطالباً بحركة جدعنة مع رسامي الكاريكاتور الذين نحبُّهم على قد ما يمتعوني بخفة دمهم ويضحكونني على نفسي، إنهم أولاد مصر وضميرها الحي ولسانها الحراق، يكفي أن بينهم حجازي ـ الفنان الشعبي العظيم الذي يصوب على عين الدمل من دعية أو إعلان عن نفسه، من دون الظهور على شاشة التليفزيون، أو يرشح نفسه في انتخابات أو يصاحب مسؤولاً كبيراً، هذا الفنان يضع كل طاقته في كف يده الأخضر، ولوَّن فن الكاريكاتير بالمصري، ووضع عليه كل البهارات المصرية الحراقة.

كان السؤال وقتها كيف فعلت ذلك يا عم جمال في أولادك وتنتصر للحرامية واللصوص؟! يا ترى يا هل ترى أنت عارف الحرامية وتدافع عنهم وتلك مصيبة، أم أنك لا تعرف بوجودهم من الأصل، وتلك مصيبة أعظم؟، ساعتها استعنت على الشقا بالله فكتبت دفاعاً عن رسامين الكاريكاتير وأولهم عمي وأستاذي أحمد إبراهيم حجازي.. «يعيش أهل بلدي}:

«يعيش المثقف على مقهى ريش

يعيش يعيش يعيش

محفلط مزفلط كتير كلام

عديم الممارسة

عدو الزحام

بكام كلمة فاضية

وكام اصطلاح

يفبرك حلول المشاكل قوام

يعيش المثقف

يعيش يعيش يعيش

يعيش أهل بلدي

يعيش التنابلة

في حي الزمالك

وحي الزمالك .. مسالك مسالك

تحاول تفكر تهوِّب هنالك

تودَّر حياتك بلاش المهالك

لذلك إذا عُزت توصف حياتهم

تقول الحياة عندنا

مش كذلك».

في هذه القصيدة، كنت أتكلم عن ترزية النظام وظهر فيها بداية تشكل الوعي السياسي عندي والذي غذته الصداقات الجديدة مع رسامين وصحافيين وطلبة الجامعة، بالإضافة إلى فطرتي التي أرى بها الواقع. وكان التحالف عبارة عن وهم من الدعاية المفرطة لصالح طبقة بعينها وليس تحالفاً للشعب العامل، كما أطلقت عليه وسائل الإعلام الرسمية التي باتت تتغنى بتحالف قوى الشعب من العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفين التي تجتمع في تنظيم واحد هو {الاتحاد الاشتراكي العربي».

مات الزعيم

حين يئس عبد الناصر من حصارنا وعرف أننا انتشرنا أنا وإمام أمر بدخولنا التلفزيون سنة 1968 وإمام رفض في البداية، لأنه كان تقدم إلى الإذاعة من قبل كمطرب ورفضوه بطريقة سيئة، وقلت له وأقنعته أن الناس لا بد أن تعرفنا وتسمعنا كي لا نموت في الظلام، فأرسل لنا الأستاذ رجاء النقاش وقال عدلي رزق الله إن الاستاذ رجاء عايزك ضروري، وحين التقينا به سمع أغنية من الشيخ إمام قال رجاء «لازم نعمل حزب يكون إمام رئيسه وإمام يقول لازم يكون رجاء رئيسه» قعدت أضحك وقال رجاء النقاش لا بد نعمل برنامج في رمضان اسمه «مع ألحان الشيخ إمام» قلت بشرط أن النص لا يتم عليه أي حذف يعني تاخذه كله أو ترده دون تغيير وافق رجاء لكن اكتشفت بعد ذلك إن الحلقة أذيعت من المنتصف وليس من الأول.

ولكن قبل ما أنسى أذكر فضل رجاء النقاش أنه أتاح لي فرصة لقاء الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل الذي طلب ذلك من النقاش، وكان لقاء ممتعاً ورائعاً وأثناء وداعنا بعد اللقاء أمسك بيدي وقال للنقاش ناشدتك الله ثلاث مرات هذا شاعر يا أستاذ رجاء فأخذت يده وقبلتها ولكن للأسف لم نكن صديقين.

ومات عبد الناصر وتولى السادات وأفرج عن كل المعتقلين ما عدا أنا والشيخ إمام ومحمد قطب والماركيز سامي توفيق ولطفي الخولي، والأخير كان عبقرياً وكنت أتابع أخبار أحداث أيلول الأسود سنة 1970 من راديو صغير مُهرب في المعتقل بفضل علاقاتي الجيدة مع الحراس، كنت أتابع بغضب وغيظ أن الفلسطينيين يهربون من جحيم المعارك مع الأردن إلى أراضي إسرائيل، فكنت أصرخ يا ولاد الكلب يا خونة وأشتم عبد الناصر، لأنني كنت أحمله المسؤولية عن كل تداعيات النكسة، لأنه المسؤول الأول عن النكسة وكان العبقري لطفي الخولي بصوته المميز وبطريقته المتعالية يقول «لا يا نجم عبد الناصر زعيم وطني» لأنه كان معنا ثلاثة مخبرين ، ثم مات عبد الناصر فبكيت وسألت عطية البنداري هو عبد الناصر عمره كام سنة قال 52 سنة قلت له «صغير قوي» فصرخ لطفي الخولي «يا أخي غُمة وانزاحت»!! ... فانكشف على حقيقته.

قصيدة «أنا رحت القلعه»

أنا رحت القلعه وشفت ياسين

حواليه العسكر

والزنازين

والشوم والبوم

وكلاب الروم

يا خساره يا أزهار البساتين

عيطي يا بهيه

على القوانين

***

أنا شفت شباب الجامعه

الزين

أحمد وبهاء

والكردي وزين

حارمينهم حتى الشوف بالعين

وف عز الضهر مغميين

عيطي يا بهيه على القوانين

***

وقابلت سهام

في كلام إنسان

منقوش ومأثر

في الجدران

عن مصر

وعن عمال حلوان

مظاليم العهد المعتقلين

عيطي يا بهيه

على القوانين

***

وقابلت هناك

منذر وزياد

وقابلت كمان

عزت وجود

أربعة أبطال

شنقوا الجلاد

التل يهوذا الفدائيين

زغرطي يا بلدنا

لدول مساجين

واسمعي يا بلدنا خلاصة القول

وباقولك أهُه

وأنا قد القول

مش ممكن كده

حيحول الحول

على كده والناس يفضلوا ساكتين

خليكوا فاكرين

خليكوا شاهدين

أنا رحت القلعه

وشفت ياسين

معتقل القلعة 1972

back to top