الابن الضال... وعودة الفيلم النبوءة

نشر في 12-08-2011
آخر تحديث 12-08-2011 | 22:02
 محمد بدر الدين في الذكرى الثالثة لرحيله، اختار محبو فنان السينما الرائد يوسف شاهين فيلمه «عودة الإبن الضال» للعرض في الاحتفالية التي أقاموها في دار الأوبرا المصرية وشهدت  نقاشاً معمقاً حول المخرج وفنّه وفيلمه.

حسناً فعلوا باختيار هذا الفيلم، ليس لأن «عودة الإبن الضال» أحد نماذج فن شاهين الرفيع وأحد أحسن أفلامه درامياً وحرفياً وجمالياً فحسب، إنما لأنه يثير قضايا فكرية وسياسية تمسّ واقعنا وتلامس ما يعنينا ـ ونعانيه ـ في الوقت الراهن، إلى درجة تكاد تقترب من النبوءة، بعد مرور 35 عاماً على عرضه (1976)، ثم يعاد عرضه في منتصف عام، ليس ككل الأعوام في تاريخ مصر وأمّتها، إنه الـ2011 الذي شهد في 25  يناير ثورة الشعب المصري العارمة في مصر، وقبلها بأيام ثورة الشعب الملهمة في تونس، وبعدها تفجّر زمن الثورات العربية أو ما يُعرف بـ «الربيع العربي}.

شمل الإحساس الراقي في «عودة الإبن الضال» والحدس، أو «روح النبوءة»، إذا جاز التعبير، الواقع العربي وليس المصري فحسب، ففي أعقاب عرضه تفجّرت الانتفاضة الشعبية المصرية في 18 و19 يناير 1977، تلتها بعد أيام انتفاضة شعبية مماثلة في تونس (ويبدو أنهما،  تونس ومصر، تتبادلان التوقيت والإلهام)،  لكن الحدث المروِّع الذي زلزل الوطن العربي آنذاك هو الحرب الأهلية الملعونة في لبنان، ولم تكن نهاية «عودة الإبن الضال» غير حرب الأهل والعائلة على أوسع نطاق وأعنف صورة وأبشعها، فقد دمّر أفراد أسرة «المدبولي» بعضهم البعض ولم يُنقذ سوى جيل جديد يشقّ طريقه بصعوبة وسط القسوة والدم، جسّدته فتاة (ماجدة الرومي في أول ظهور وميلاد فني حقيقي وقوي لهذه الرائعة المبدعة اللبنانية) وفتى (هشام سليم في بدايته الحقيقية المميزة هو الآخر).

استند شاهين في فيلمه إلى دراما متماسكة كتبها (سيناريو وحواراً وأغنيات) المبدع العبقري صلاح جاهين، وحقّق شاهين في الفيلم، كما لم يحقق في فيلم آخر، حلمه في إخراج دراما أو ملحمة موسيقية غنائية، وهذه نوعية شغف بها منذ انجذب إلى فن السينما، وسافر  إلى الولايات المتحدة لتعلّم حرفيّته، وربما اختار أميركا ووقع في هوى السينما فيها بسبب أفلامها الموسيقية الاستعراضية قبل أي أمر آخر، وقد شاهدنا ذلك الشغف في إرهاصات قبل «عودة الابن الضال»، وفي مشاهد أخاذة لا تُنسى في أفلام أعقبته كما في «اليوم السادس»، و{إسكندرية كمان وكمان» ورأينا في الأخير شاهين بنفسه كهلاً يرقص ويملأ الشاشة حيوية وعنفواناً وسطوعاً.

وضمن التنبؤ في «عودة الابن الضال»، الذي نلحظه أيضاً، تقديمه ماجدة الرومي  على الشاشة في عناوين يستهل بها الفيلم (مطربة القرن الحادي والعشرين)، فقد كان شاهين معجباً بصوتها وتوقّع أنها ستظل تصدح وتؤثر بل ستصبح مطربة القرن المقبل أي إلى ما بعد أكثر من ربع قرن، وكم كان شاهين محقاً وأثبتت الأعوام دقة إحساسه وتوقّعه.

وإذا كان دور ماجدة الرومي في الفيلم هو أول أدوارها وآخرها لغاية اليوم، للأسف الشديد، فقد شهد «عودة الإبن الضال» أيضاً أحد أعظم الأدوار على الإطلاق لكل من: محمود المليجي، هدى سلطان، شكري سرحان، سهير المرشدي، رجاء حسين، علي الشريف، ودور العمر للممثل الراحل أحمد محرز «علي المدبولي»، أو «الإبن الضال» الذي يعود بعد غياب طويل، ينتظره الجميع كمخلّص لوضع حدّ لمظالم أخيه طلبة المدبولي (شكري سرحان).

لكن الفيلم يشير أو يثير قضيّة: «لا تنتظروا مخلصاً فرداً، وها هو مخلّصكم يعود مرتبكاً مهيض الجناح، لأنه شارك في تجربة ثورية كبرى (ثورة يوليو)، لكن تم كسرها»  (خصوصاً بعد رحيل قائدها جمال عبد الناصر الذي يقدم الفيلم مشهداً من  جنازته المهيبة)، ويؤكد الفيلم: عليكم مواجهة الانقلاب الرأسمالي الشرس الذي جسّده طلبة، هذا الذي أصبح يملك الأرض والمصنع وحتى دار السينما الوحيدة في البلدة الصغيرة، يملك كل شيء ويريدكم أن ترضخوا، ويحاول الشباب أن يثوروا... منشدين في طرقات البلدة: «إنما الشارع لمين؟ الشارع لنا... الناس التانيين مش مننا».

ويظلّ الأمل على عاتق هذا الجيل، خصوصاً بعد اندحار أو انتحار عائلة المدبولي: الطيب (المليجي) وزوجته الأم الخبيثة (هدى سلطان) ونجلهما طلبة مصاص الدماء إلى حد اغتصاب ومص دم قريبته (سهير المرشدي)، الرجل الذي جسّد الانقلاب الرأسمالي الطفيلي على زمن الثورة الناصرية، بكل ما لها وما عليها، أدق تجسيد!.. وهو الانقلاب الشرس الذي ظلّ يحكم مصر بعد عرض الفيلم ولمدة 35 عاماً كاملة، إلى أن تفجّرت ضدّه ثورة 2011 الشعبية التي أطلق شرارتها فتية 2011، فنتذكر اليوم أنشودة فتية «عودة الإبن الضال» في نهاية الفيلم، وهم يشقّون طريقهم وسط الضباب والأرض الخراب والدم المراق وأصداء المذبحة، على لسان ماجدة وبشعر جاهين ولحن كمال الطويل، في إحدى أعظم أغنيات السينما المصرية والعربية على الإطلاق:

«إيه العمل في الوقت ده يا صديق/ غير أننا عند افتراق الطريق/ نبصّ قدامنا/ على شمس أحلامنا/ نلقاها بتشق السحاب... الغميق».

back to top