ليبيا بعد القذافي: حرية تشوبها الفوضى

نشر في 09-01-2012 | 00:01
آخر تحديث 09-01-2012 | 00:01
أصبحت الاشتباكات في العاصمة الليبية خلال الشهرين الأخيرين شائعة جداً، إذ تعمد الميليشيات المتخاصمة إلى فرض سيطرتها على مختلف المناطق في ظل فراغ السلطة غداة انهيار نظام القذافي. صحيح أن قادة الفريقين المتخاصمين نجحوا في نهاية المطاف في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، إلا أن الانقسامات العميقة بين مختلف الجماعات المسلحة والمتخاصمة لاتزال قائمة.

غداة الاشتباك العنيف الذي وقع يوم الثلاثاء بين مختلف فصائل الميليشيات المتناحرة التي تستعمل الأسلحة الثقيلة في وضح النهار في طرابلس، صرّح أحد قادة الثوار الليبيين في مصراتة لوكالة "أسوشيتد برس": "أخشى أن الوضع يبدو أشبه بالحرب الأهلية". أشارت التقارير إلى مقتل أربعة مقاتلين وجرح خمسة آخرين خلال الاشتباكات التي وقعت نتيجة محاولات إحدى الميليشيات المتمركزة في مصراتة تحرير رفيق للثوار كان قد اعتُقل على يد المجلس العسكري في طرابلس بتهمة السرقة.

لكن أصبحت هذه الاشتباكات شائعة جداً في العاصمة الليبية خلال الشهرين الأخيرين، إذ تعمد الميليشيات المتخاصمة إلى فرض سيطرتها على مختلف المناطق في ظل فراغ السلطة غداة انهيار نظام القذافي. صحيح أن القادة المنتمين إلى الفريقين اللذين شاركا في اشتباكات يوم الثلاثاء نجحوا في نهاية المطاف في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، إلا أن الانقسامات العميقة بين مختلف الجماعات المسلحة والمتخاصمة لا تزال قائمة، وذلك على المستويات القبلية والمناطقية والإيديولوجية، وحتى بين مختلف الأحياء، فلا شيء يدل حتى الآن على نشوء سلطة سياسية مركزية تسمح للجيش بإحكام قبضته على البلد.

كان سكان طرابلس والميليشيات المتمركزة فيها يحاولون طوال أشهر إقناع المقاتلين في مصراتة والزنتان بالعودة إلى بلداتهم بعد أن اقتحموا العاصمة لإسقاط النظام، لكن يحافظ هؤلاء المقاتلون على مواقعهم وباتوا يُتّهمون بمضايقة السكان المحليين، فهم يعتبرون أنفسهم الأبطال الذين تحملوا أكبر الأعباء والمسؤوليات خلال المعركة التي أسقطت القذافي، كما أنهم يشككون بمراسيم المجلس الوطني الانتقالي على اعتبار أن عناصره هم مجرد دخلاء من بنغازي (مع أن الحكومات الغربية والعربية اعترفت بالمجلس الوطني الانتقالي باعتباره الحكومة الليبية الشرعية).

يبدو أن المقاتلين في الزنتان ومصراتة لا ينوون الانضمام قريباً إلى جيش وطني يقوده المنفيون بعد عودتهم إلى ليبيا ولا ينوون إظهار ولائهم لحكومة مشبوهة بنظرهم، كما أنهم ليسوا مستعدين على ما يبدو لقبول سلطة المجلس العسكري في طرابلس برئاسة الإسلامي عبد الحكيم بلحاج، على الرغم من الدعم الذي يحظى به من المجلس الوطني الانتقالي.

تدرك الميليشيات في تلك المناطق حجم القوة السياسية التي يمكن أن تحصل عليها الجماعات المسلحة والمنظمة، وهي مصممة على كسب حصة أكبر من السلطات والموارد في المناطق والبلدات التي تدّعي تمثيلها، لذا يبدو أن هذه الميليشيات لن تتنازل سريعاً عن سيطرتها على العقارات السياسية الثمينة.

فقد تجاهلت المهلة الزمنية التي كان يُفترض أن تنتهي في 20 ديسمبر لمغادرة طرابلس، وعندما تشتبك تلك الميليشيات مع الجماعات المسلحة والمدعومة من المجلس الوطني الانتقالي، كما حصل عشية رأس السنة الجديدة حين اعتُقل عدد من عناصرها، يكون هؤلاء المسلحون مستعدين للقتال بكل قواهم.

شرح وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الوضع الفوضوي الذي طبع بغداد في الأسابيع التي تلت سقوط صدام حسين قائلاً: "الحرية ظاهرة فوضوية"، لكن يكمن الفرق في واقع أن الجيش الأميركي كان يحتكر القوة في العراق (كان رامسفيلد يتمسك بأمل ألا يضطر الأميركيون إلى استعمال تلك القوة لإرساء الاستقرار في العراق بعد عهد صدام حسين وأن تعود تلك القوات العسكرية إلى ديارها سريعاً). لكن كانت حرب ليبيا عملية مختلفة، فهي عبارة عن مقاربة اعتبرها المسؤولون في الولايات المتحدة وفي حلف الأطلسي نموذجاً جديداً لحملات التدخل، حيث تستطيع القوى الغربية والدول العربية الحليفة مساعدة السكان المحليين على إسقاط الحكام الدكتاتوريين الفاسدين بأقل كلفة بشرية ومالية ممكنة.

بعد أن ثبت أنّ شن العمليات الجوية وانتشار بعض القوات الخاصة القطرية ميدانياً طوال أشهر كانت تدابير كافية لإسقاط نظام القذافي، لم تستطع تلك الجهات (ولم تكن تنوي) سد الفراغ الأمني في المرحلة اللاحقة، فاكتفى حلف الأطلسي وشركاؤه بالاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي في بنغازي وبالتشكيلات المسلحة المتحالفة معه باعتبارها السلطة الشرعية في ليبيا، وقد قدّم لهم الغربيون المساعدات والموارد وتمنّوا حصول الأفضل.

لكن تكمن المشكلة الفعلية في واقع أن الثوار الليبيين لم يكونوا يوماً جزءاً من جيش نظامي، بل كانوا خليطاً من الوحدات الميليشياوية المحلية التي تشمل منشقين عن الجيش وبعض المنفيين السابقين الذين يتمتعون بخبرة عسكرية. فضلاً عن ذلك، كان اعتراف القوى الخارجية بالمجلس الوطني الانتقالي واسع النطاق بما يفوق ما كان الليبيون مستعدين لقبوله (وينطبق ذلك على الليبيين الذين كانوا في طليعة المشاركين في معركة الإطاحة بالقذافي).

وكان امتناع قيادة الثوار عن إنشاء مركز سلطة بديل يعني أن سقوط القذافي يساوي انهيار سلطة الدولة أيضاً، فيتعلق التحدي الأساسي الذي يواجهه الثوار اليوم ببناء دولة جديدة على أنقاض الدولة القديمة، وقد قضى أول أمر لبناء الدولة بفرض احتكار على القوة العسكرية داخل حدود البلد، فيواجه المجلس الوطني الانتقالي صعوبة كبرى في تجاوز هذه التحديات.

يتذمر سكان العاصمة من التهديدات التي يتلقونها من عناصر الميليشيات من خارج البلدة، وكذلك، يبدو الوضع قاتماً بالنسبة إلى سكان البلدات والأحياء التي كانت تدعم القذافي، إذ تتعرض تلك المناطق لمضايقات دائمة من المقاتلين، فقد يتحدث المجلس الوطني الانتقالي عن "المصالحة الوطنية" ولكنه لا يستطيع السيطرة على المقاتلين الذين يرتكبون أفعالاً تعيق مسار المصالحة المنشودة، ويبدو أن المجلس الوطني الانتقالي مُجبَر على التكيّف مع هؤلاء المقاتلين.

بينما تؤدي الانقسامات القبلية والمناطقية إلى تعزيز المواجهة العنيفة أحياناً بين تشكيلات مختلف الميليشيات، يرتفع احتمال نشوء حركة تمرد جديدة بسبب تهميش الجماعات التي كانت تدعم نظام القذافي. كذلك، برز عدد كبير من الشبّان الذين حاربوا النظام القديم (وهم مسلحون في معظمهم).

في بعض أحياء طرابلس، تظهر بعض رسومات القذافي التي تُرسم على الجدران ليلاً، وقد حذر المسؤولون البريطانيون في أواخر الشهر الماضي من أنّ عدداً من كبار قادة "القاعدة" غادروا باكستان وتوجهوا إلى ليبيا بهدف الاستفادة من الفراغ الأمني وإنشاء مقر لهم هناك.

ستكون معالجة التحديات الأمنية ممكنة في حال وجود إجماع سياسي حول شروط بناء دولة ديمقراطية جديدة في ليبيا، لكن لايزال هذا الاحتمال مبهماً. فقد واجه المجلس الوطني الانتقالي تحديات عدة بسبب تركيبته الغامضة وعملية انتقاء أعضائه، في شهر ديسمبر، واجه المجلس أيضاً اعتصاماً خارج مقره، حيث طالب المحتجون بالكشف عن هوية أعضائه واتخاذ قراراته علناً.

من المعروف أن الميليشيات في مصراتة والزنتان لا تثق بقيادة الثوار في بنغازي، وهي تستعمل قوتها العسكرية للمطالبة بحصة أكبر من السلطة السياسية. على سبيل المثال، رفضت تلك الميليشيات تسليم معتقلين رفيعي المستوى، مثل ابن القذافي سيف الإسلام، حتى تلبية مطالبها السياسية، ففي الشهر الماضي، طالبت جماعة تدّعي أنها تمثّل 70% من مقاتلي الميليشيات بأن يمنحها المجلس الوطني الانتقالي 40% من مقاعده.

من الواضح أن الصراع القائم بين الميليشيات له طابع سياسي: إنه شكل الصراع الذي ترتكز عليه الجماعات القبلية والمناطقية المتنافِسة للمطالبة بالسلطة والموارد في حقبة ما بعد القذافي. لم يتضح بعد كيف سينجح النظام السياسي الرسمي الذي فُرض لتنظيم هذا التنافس في تخفيف حدة التوتر، كما أن المعايير التي اعتمدها المجلس الوطني الانتقالي لانتقاء أعضائه لم تُعلن بعد.

وتشير مسودة القانون، التي أصدرها المجلس للتداول بها يوم الاثنين الماضي والتي تحدد قوانين الانتخابات التي ستحصل في شهر يونيو، إلى أن التعهد بإجراء الانتخابات قد لا يحل الانقسامات القائمة، فلا تذكر المسودة شيئاً عن مسألة تقسيم الدوائر الانتخابية، ما يعني أن أحداً لا يعرف عدد المقاعد التي ستُمنح إلى كل بلدة أو منطقة وفق التشريع الجديد، ومن المؤكد أن هذا القرار سيحدد كيفية توزيع الثروات النفطية في النظام الجديد.

تخطط مسودة القانون أيضاً لإقصاء المرشحين الذين يتولون مناصب في الحكومة الانتقالية الراهنة وفي مجالسها المحلية والعسكرية، فضلاً عن المسؤولين في النظام السابق والأشخاص الذين تأخروا في تأييد قضية الثوار.

لكن إليكم سلبيات حملات التدخل: تبقى عملية إسقاط أي نظام أسهل بكثير من إرساء نظام جديد (وهذا ما تعلمته الولايات المتحدة في العراق). لكن في ليبيا، من الواضح أن القوات التي تحاول بناء نظام جديد هي أضعف بكثير، على المستوى الأمني، من القوات التي نشرتها الولايات المتحدة في العراق، حتى لو كان بعض القادة الليبيين (تحديداً رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبدالجليل) يتمتعون بالشرعية التي لم تحصل عليها الولايات المتحدة يوماً في العراق.

لكن نظراً إلى تنامي التهديد بانتشار الفوضى، فقد لا تكون سلطة عبدالجليل كافية، ومثلما اصطدم المسؤولون في إدارة بوش بالواقع المرير بعد أن كانوا يصرون على أن معظم القوات الأميركية التي أُرسلت إلى العراق ستعود إلى ديارها خلال فترة قصيرة، فقد يحصل الأمر نفسه مع المدافعين عن عمليات التدخل الشبيهة بعملية ليبيا لأنهم قد يُجبَرون على إعادة النظر بمقارباتهم في الأشهر المقبلة.

back to top