السمنة... من فلوريدا

نشر في 23-06-2011 | 00:01
آخر تحديث 23-06-2011 | 00:01
No Image Caption
أعتذر لغيابي عن المدوّنة الأسبوع المنصرم، لوجودي في الخارج وانشغالي بالتحضير لمؤتمر طبي عن جراحة السمنة، وقد كنت متابعاً لمناقشات هذا العام ويحدوني أمل في أن أحضر على منصة الخطابة في العام المقبل لتقديم أوراقنا عن نتائجنا، وأعتقد أن العالم سيهتمّ بالعموميات التي يتشابه فيها مرضانا مع أقرانهم من مرضى السمنة، وفي الوقت ذاته ثمة خصوصيات نلحظها على مرضانا يجب توضيحها، في رأيي، إذ ليس كل مزروع على الجانب الآخر سيخضرّ لدينا لو زرعناه.

وقد شجّعتني أكثر على التفكير الاختلافات التي لاحظتها بين المرضى الآسيويين ومرضى العالم الغربي، سأسرد بعض ما لاحظت من عموميات قبل الخوض في الخصوصيات.

كلنا يعلم أن مقياس أو مؤشر الكتلة هو الوسيلة المعتمدة اليوم في تصنيف السمنة إلى درجات، والواقع أن هذا المؤشر ليس إلا ناتج قسمة الوزن على الطول مربعاً، فهو إذاً طريقة للمقارنة بين من كان وزنهم واحداً لكنهم اختلفوا في الطول.

الواقع أن استعمال هذا المؤشر لم يأتِ إلا من إصرار شركات التأمين في العالم على طريقة حسابية لتحديد السمين من غيره، مع علمهم بسلبية هذه الطريقة لأنها تقيس الوزن الإجمالي ولا تقيس وزن الدهن أو الشحم في الجسم مثلاً، لذلك أي بطل لكمال الأجسام سيستوفي الشروط لعمليات السمنة على رغم أن زيادة وزنه تتكوّن من اللحم فحسب. كذلك، سيستوفي مريض مصاب بمرض الاستسقاء الناشئ عن فشل عمل الكبد الشروط أيضاً ولو أجريت الجراحة لمن لديه فشل لكانت مصيبة. الشاهد من حديثي أن القياسات هي إرشادية وليست بديلا للطبيب المؤهل ويلغي اتباعها حرفياً دور الطبيب في تحديد المريض من غيره.

أحد زملائي من «المتأمركين» على وزن «المستعربين» قدّم أطروحته عن خطورة هذا الاتجاه وبيّن أن ثمة مرضى لم يستوفوا شرط مقياس الكتلة كانوا في أمسّ الحاجة إلى الجراحة، في الوقت ذاته كانت مجموعة أخرى ممن استوفوا الشروط لكنهم لم يكونوا بحاجة إلى الجراحة أبداً، ليدلل على ذلك قاسَ هذا الطبيب الذكي كميّة الدهن الفعلية في الجسم لدى كثير من المرضى باستخدام جهاز أشعةّ متخصص ليصل إلى نتيجة مذهلة لم تكن يوماً غائبة عن الأذهان بل كانت متجاهلة، فبيّن كيف أن نسبة الدهون لدى الرجال تكون أقلّ من النساء عند أي مقياس كتلة وأن توزيع الدهن في جسم الرجل أخطر من النساء.

في دراسته بيّن أن الشحم أنواع وأقلّها ضرراً ما كان في الأطراف وأشدّها ما كان في الكبد يليه ما كان في الأحشاء، لذلك الرجل ذو الكرش وإن لم يجتز وزنه مقياس الكتلة للعملية الجراحية فهو بحاجة إليها أبكر من النساء.

لم يتوقف هذا الطبيب عند هذا الحدّ، بل تابع مرضاه بعد إجراء الجراحات لهم، وبعضهم أجرى جراحات عند مقياس كتلة منخفض جداً، وكانت المفاجأة أن مرضى السكّري الآسيويين استفادوا من العملية عند أقلّ وزن، وهذا أمر عرفناه نحن منذ زمن بعيد لكننا لم نجمع حالات كافية لننشره، لذا شعرت بواجب أن ننشر سريعاً ما يؤكد هذه الفرضيات ويعزز استنتاجها، وأملي في أن يعزز هذا من قدرتنا على شفاء المرضى من السكري أولاً.

الموضوع الأخير هو ظاهرة رأيتها كثيراً وهي اتجاه كثير من المرضى إلى عملية التكميم على حساب غيرها من العمليات، لن أخوض في التفاصيل كثيراً حول الجوانب الفنية لكني رأيت في الاجتماع ما سأنبّه الكثير من مرضانا عليه، وهو احتمال رجوع الوزن لدى من يحبون النشويات والحلويات خصوصاً، وقد زادت نسبة إعادة الجراحات على هؤلاء بدرجة عالية، ولا بأس بالمريض في أن يختار هذه الجراحة إن شاء، لكن يجب أن يتمّ ذلك عن بيّنة وليس عن توجيه للجراحة من الجرّاح من دون إعطاء المريض الحقائق كاملة، فإقناع المريض أن التكميم جراحة لا تحتاج إلى فيتامينات ليس خاطئاً فحسب بل هو إخفاء للحقيقة عن المريض أيضاً، كذلك النتائج الدامغة في أن الشفاء من السكّري يتضاعف بعد جراحة تحويل المسار في حين لا يتجاوز الشفاء 50 في المئة بعد جراحة التكميم، وهذا الأمر بُرهن في دراسات عدة، وقد رأينا عزوفاً من كثير من الجراحين عن توجيه المرضى إلى التكميم لتكون نسبة من خضع لها هذا العام 10 في المئة من المرضى فحسب ولا أتوقّع أن يتغيّر هذا الرقم كثيراً.

بعيداً عن الجراحات، كانت لي فرصة لقاء طبيب شاب ذكّرني ببداية عودتي من دراستي في الخارج، وقد تأثرت لحاله بعد عودته، فالحال في المستشفيات الحكومية في خليجنا العربي لم تتغيّر وما زلنا لا نقدّر هذا الطبيب الحديث التخرّج في دراساته العليا، وما زلنا لا نكرّم الضيف ولا نسأله عن حاله ولا نقدّم له الدعم، وبدلاً من ذلك ينشغل الرئيس في تحجيمه ومنعه من تطبيق علم قد أحضره معه.

لا أفهم كيف يغيب عن أذهان ولاة الأمر أن الأمر أصبح تنافساً مقيتاً بين الحوت الكبير الذي لم ولن يشبع، وقد بلغ من العمر عتياً وقلّ عطاؤه فما عاد يعرف أن العالم تغيّر، وكيف نتطوّر لو لم ننقل التقنية والمهارة إلى بلداننا.

نكافئهم بالبعثة لأنهم كانوا الأوائل في التحصيل ثم إذا عادوا وجدوا من بقي في البلد، ولم ينل علماً يُذكر في غالبية الأحيان، قد استولى على رئاسة القسم واستلم مقاليد الحكم الطبي، إن كان هذا ما يمكن أن نسميه تصرفاً مجازاً. وبدلاً من أن يقف مع زميله العائد فيتبادلان الخبرات والمعارف ويبنيان سوياً، ينشغل الإثنان في صراع محسوم سلفاً للرئيس، فلا يلبث أن ييأس هذا القادم ويقرر أن ينصرف إلى حال سبيله، فيطلّق العمل الحكومي بالثلاثة أو يمارس عمله على مضض، يذهب يومياً ساعة فلا يجد مرضى يطبّبهم فينصرف وقد يجد ضالته في العمل الخاص الذي سيثري جيبه، من دون شكّ، لكنه سيمنعه من تقديم خدمة البحث والتعليم للأجيال المقبلة، فنفقده معلّماً وناقلاً للعلم.

هذا الطبيب المسكين كان يبحث عن عمل في أميركا لا حباً بها لكن خشية أن ينسى علمه، ولا أعفي المسؤولين عن التقصير وأعرف جميع الأعذار، ولو استدعيت يوماً للتحدث في الأمر لكان لساني لاذعاً بحقّ كل من تحجّج بحجج واهية ومن وقف إلى جانب غير الحق، فقدّم صالح الخاصة من أصحابه على صالح البلد.

مسكينة بلداننا الخليجية ومسكينة شعوبنا التي ما زالت تسعى وراء من يرسلها للعلاج في الخارج ولا أنكر عليها ذلك فأصحاب الاختصاص هجروا مواقعهم، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.

back to top