فاتسلاف هافيل المخملي .. نموذج المثالية في السياسة والأدب والنضال

نشر في 22-12-2011 | 00:02
آخر تحديث 22-12-2011 | 00:02
رحل قبل أيام الرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافيل تاركاً وراءه سيرة مثقف ومعارض لم يغير فيه منصب الرئاسة والسلطة شيئاً.

فاتسلاف هافيل الكاتب المسرحي والشاعر والسينمائي ورئيس الدولة برز بعد الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وسحق ما عُرف بـ{ربيع براغ» الذي قاده ألكسندر داوبتشيك وشيوعيون ليبراليون. أولى مسرحياته التي عرضت على الخشبة كانت بعنوان «حفلة في الحديقة» في عام 1963، وفيها سخر من النظام الشمولي وهي تنتمي إلى مسرح العبث، وقد أدت ومقالاته وكتاباته به إلى السجن أربع سنوات في ظل انتقاده الدائم للشيوعية ورغبته في تحرير بلاده من ذلك الإرث الثقيل. كذلك حظر النظام الشيوعي مسرحياته العبثية، سعياً إلى وأد أي نفحة تمرد، لكن هافيل واصل الكتابة مصدراً مسرحيات اعتُبرت، مع التي كتبها المنشق السوفياتي أندريه ساخاروف، الأبرز في تشريح ما أنزلته الشيوعية بالمجتمع والفرد.

أدى فاتسلاف هافيل دوراً سامياً في تحرير بلاده من قبضة الحكم الشمولي تجلى في ثقافته وإبداعاته التي حركت مشاعر الناس وأججت فيهم رفضهم الحكم الشيوعي. بعد أربعة عقود من الحكم الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، قاد هافيل «الثورة المخملية» عام 1989، تزامناً مع ثورات في دول أخرى من منظومة «حلف وارسو»، أدت الى انهيار الأنظمة الموالية للاتحاد السوفياتي، وانتهاء حقبة الحرب الباردة بين الجبارين. فكان هافيل أول رئيس منتخب لتشيكوسلوفاكيا، وقاد عام 1993 الانفصال الودي بين جزئيها، تشيكيا وسلوفاكيا، لكن شعبيته تراجعت، إذ اكتشف شعبه صعوبات التحوّل الديمقراطي بعد عقود من الحكم الشمولي.

الرمز

أصبح هافيل رمزاً لمناهضة الاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان حين كانت الشيوعية تهيمن على بلده تشيكوسلوفاكيا وعلى جزء كبير من العالم، وصار مثالاً عن الثورات الشعبية السلمية والأديب الذي يمتهن السياسة. باختصار، كان هافيل محور نقاش حاد طوال السنوات الماضية، خصوصاً بعد رواج ظاهرة الطغاة الذين يكتبون الرواية أو الشعر مثل صدام حسين ومعمر القذافي، وبروز ظاهرة شعراء البعث ومثقفي الأنظمة المتهالكة، فما إن يصل «المثقف» الى الكرسي حتى يتحول طاغية أو منظراً للطغيان والقتل.

هافيل نموذج المثالية في السياسة والأدب والنضال من دون الوقوع في فخوخ السلطة والنرجسية الثقافية. يسأل أحد الكتاب، إذا اقتحم الأديب عالم السياسة فعلاً، هل ينجح في نقل تصوراته إلى أرض الواقع من طريق الديبلوماسية المملة والاهتمام بالقضايا العملية اليومية التي تتكدس على طاولته كرجل سلطة بيروقراطي؟ نعم، يقول هافيل. لا، يقول البيروفي ماريو فارغاس يوسا. هنا، نجح هافيل حيث فشل يوسا بحسب الكاتب نزار أغري.

ترشح يوسا للانتخابات الرئاسية في البيرو عام 1990، لكنه خسر أمام غريمه البرتو فوجيموري، الذي أطيح به قبل عامين بتهمة الفساد وهرب الى اليابان، موطنه الأصلي. كان سارترياً الى حد ما، والسارترية توحد بين الدورين الثقافي والسياسي، والأرجح أنها تدفع بالمثقف إلى أن ينزع عن جسمه «الرداء الثقافي» حين تلوح الهزيمة في أفق السياسة.

تزامن خوض يوسا الانتخابات مع وصول هافيل إلى رئاسة الجمهورية في تشيكوسلوفاكيا (تشيكيا حالياً). الحق، أنه من خلال تجربتي يوسا وهافيل يتبين لنا مدى الفسخ بين السياسة والثقافة. فالسياسة هي إلى حد كبير لوثة أدب يوسا، وقد جعلته في لائحة أهل الوقاحة ليصل في النهاية الى خلاصة تقول «إن السياسة والأدب لا يلتقيان، فالسياسة أشد امتصاصاً من الأدب».

السباق الرئاسي

انزعج يوسا من بلاده بعد خسارته في السباق الرئاسي، فقصد إسبانيا التي قبل جنسيتها، وتنقَّل بين أوروبا والبيرو كـ{سمكة في الماء»، واتهم بالموافقة على كل ما تفعله الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. هو نفسه اعترف بأنه يشارك الغزاة الأوروبيين التفكير، ويدعو الى التضحية بحضارة أميركا اللاتينية الأصلية لتحديث مجتمعاتها. في روايته «موت في الأنديز»، نلاحظ نفاد الصبر من الإيمان بالغيب واللاعقلانية، ورأى البعض في ذلك عملاً عنصرياً ضد هنود الأنديز الذين صورهم يوسا غير صالحين للحياة لأنهم عاجزون عن احتضان الحضارة. لكن بعد مرحلة الغيفارية والسارترية، استفاق يوسا من الأوهام وتحرر من عقدة الارتماء في حضن السذاجة القاتلة، أي الركض وراء الثوريين المزعومين والتحق بموجة النيوليبرالية.

فاتسلاف هافيل لم يكن مثل يوسا ولم يتهوَّر في مشاريعه. كان صاحب أثر كبير، لكنه مثل النسمة خفيفاً وعابراً. لم يكن غيفارياً، بل أقرب إلى الغاندي (نسبة الى الزعيم الهندي)، وهو إذ انتصر في تفكيك النظام الشيوعي، لكنه لم يكن مناصراً للرأسمالية بنسختها الغربية القائمة على جشع السوق. سئل ذات مرة عن الشيوعية، فقال: «هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري. فلم يعد الناس يحترمون ما يدعى القيم المتافيزيقية العليا، والتي تمثل أمراً أعلى مرتبة منهم، مفعماً بالأسرار. فحينما أعلنت الإنسانية أنها حاكم العالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بعده الإنساني». عن سؤال «هل أنت اشتراكي؟»، أجاب: «اعتبرت نفسي، باستمرار، اشتراكياً. لكن فقدان هذه الكلمة لمعناها والاستخدامات التي تعرّضت لها تجعل أفكاري تضطرب». أضاف: «الاشتراكية، بالنسبة إليَّ، هي موقف إنساني، أخلاقي، عاطفي». نعم، يعتبر هافيل نفسه اشتراكياً ويؤسس لذلك على نقد جذري لكل من النظامين الشيوعي والرأسمالي الليبرالي. فالغرب، في رأيه، «يجتاز، مثل بلدان الشرق، أزمة متشابهة، لا بل متماثلة تماماً». أكثر من ذلك رأى هافيل في بعض جوانب الأزمة الاشتراكية تطويراً للجانب المأزوم في الرأسمالية، والمثال الذي قدمه على ذلك هو «التأميم الاشتراكي».

التأميم والملكية الخاصة

لم يقف هافيل ضد التأميم الشامل دفاعاً عن الملكية الخاصة والمبادرة الفردية ودور رأس المال في الإنتاج، بل لأنه اعتبره استكمالاً لفصل المنتج عن إنتاجه. هذا الفصل الموجود أصلاً في النظام الرأسمالي والذي يصل في «الاشتراكية الواقعية»، إلى ذروة غير مسبوقة. والاستلاب في رأي هافيل، «كان رأسمالياً في البداية. كذلك لا يمكن لعودة الرأسمالية أن تكون الحل، فأخطر ما نواجهه هو أن كل ما نقوم به يضيع معناه».

لا ينكر هافيل أن تكون الرأسمالية أكثر ربحية فهذا، في رأيه، أمر ثانوي جداً. لكنه استدرك قائلاً إن الوضع في الشركات الرأسمالية العملاقة، بالنسبة إلى العامل، أسوأ منه في المؤسسات الاشتراكية. صحيح أن ألوان الرأسمالية الخارجية زاهية وأن الاشتراكية تنويعات على الرمادي، «لكن الحياة، في أي منهما، هي صحراء وفقدت معناها».

تحوّل قول هافيل «يجب أن تنتصر الحقيقة والحب على الأكاذيب والحقد» شعاراً ثورياً له، على رغم إقراره بأن «القدر والتاريخ جعلا حياته مغامرة، إذ لم أسعَ الى ذلك»، وهو انحاز إلى هذا «الموقف الإنساني، الأخلاقي، العاطفي» الذي يسميه، مع بعض التردّد، الاشتراكية.

المسرح في رأي هافيل «بيئة حية وحيّز يتحقّق فيه الوعي الاجتماعي»، والفكرة العامة في كتاباته، التي تتكرر أكثر من غيرها، هي إسناد السياسة إلى الأخلاق. لا بل إن السياسة هي، في عرفه، «الأخلاق قيد التطبيق والممارسة»، وهو اعتبر «أن أزمة المجتمع، في جوهرها، أخلاقية»، لذلك «فإن المخرج المنطقي الوحيد أمام المواطنين يجب أن يكون أخلاقياً».

في عام 1978، كتب هافيل مقالته الشهيرة «السلطة والذين لا سلطة لهم»، تناول فيها طابع الشيوعية الشمولي الاستبدادي ووصف الميكانيزمات التي تلجأ إليها السلطة الشيوعية لتشكيل مجتمع من المحرومين الذين لا سلطة لهم وحيث ينتعش فحسب المتملقون المنافقون وأسياد الفساد. كذلك أشار إلى قوة المقاومة المدنية الأخلاقية والعيش بعيداً من الأكاذيب. كان لمقالته صدى كبير في الخارج وهي أثرت في الحركات المعارضة في البلدان الاشتراكية.

في مقالة بعنوان «العيش مع الحقيقة»، رأى هافيل أن على المرء أن يتشبث بالحقيقة ويعرف كيف يدافع عنها في الظروف كافة. لأجل هذا ينبغي التحلي بالصبر واتباع سلوك تفاوضي هادئ من شأنه أن يشكل جواً من المودة والصداقة ويشجع على الحوار والتناقش من دون تبجح أو ادعاء، «فمن المهم أن يكون السياسي حاصلاً على شهادات دراسية. لكن الأهم في السياسة الكياسة والتواضع والقدرة على التفاهم وامتلاك حس الاعتدال».

هافيل الذي وصل الى الرئاسة ديمقراطياً، أقرّ بفشله في الداخل التشيكي رغم شعبيته خارج بلاده، إذ أمضى غالبية فترة رئاسته في صراع حول الإصلاحات الديمقراطية ضد الخبير الاقتصادي فاتسلاف كلاوس الذي خلفه في الرئاسة عام 2003. اشتهرت كلمة هافيل التي ألقاها في نيويورك في سبتمبر (أيلول) 2002 بمناسبة آخر زيارة له إلى الولايات المتحدة الأميركية بصفته رئيساً لجمهورية تشيكيا في المحافل الآدبية والسياسية ونُشرت في مجلة «نيويورك لمراجعة الكتب» في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 2002 بعنوان و»داعاً أيتها السياسة» وكانت بمثابة نقد للذات قبل عودته الى جذوره الثقافية.

في كلمته، طرح هافيل الأسئلة السياسية أمام المستمعين مغلفة في قوالب أدبية جميلة المعني، فقال، «عندما تحين لحظة الحقيقة وأجد نفسي سواء كنت موجوداً في هذا العالم أم غير موجود محاطاً بأسئلة مثل، ماذا فعل هذا الرجل، وماذا حقق، وما هي النتائج، وما هو الميراث السياسي الذي تركه، وما هي طبيعة الدولة التي تركها خلفه؟ هكذا أشعر باضطرابي الروحي والفكري وتتملكني روح الثورة التي أجبرتني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخولي السجن، وهو ما يتسبب في أن تكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي».

انتقام المسرحي

بعد سنوات قليلة على مغادرته السلطة كرئيس لجمهورية تشيكيا ما بعد الشيوعية، عاد هافيل الى عالم المسرح بنص عنوانه «الرحيل»، هو الأول له خلال عقدين. تحكي المسرحية وقائع الأيام الثلاثة الأخيرة المواكبة لمغادرة رئيس البلاد مكتبه، هذا الخروج الذي تم تحت ضغط «جشع» نائبه في الرئاسة وتبنيه لنظام الانفتاح على اقتصاد السوق وبيع القطاع العام الى رجال الأعمال. لم تتوقف الإزعاجات عند هذه الحدود، فبطل المسرحية كما حصل لهافيل في الواقع، أرغم على التخلي عن الفيلا التي يسكنها إن لم يؤيد النائب المقبل علانية. هل يمكن القول إذاً، إن المسرحية هي نوع من تصفية الحساب مع الماضي القريب وعالم السياسة، إذا اعتبرنا أن المسرحية سيرة ذاتية، على رغم تجاهل الإشارة الى البلد الذي تجري فيه؟ أم أنها رؤية الكاتب المسرحي في عالم السياسة وانتقاد أجواء النفاق التي تدفع بالبشر المحيطين بالرئاسة الى تغيير مواقفهم بتغير الظروف المحيطة؟

في سياق متصل، قبل رحيله بأشهر، قرر هافيل دخول عالم الإخراج السينمائي، وكان يعمل على تحويل مسرحيته نفسها إلى فيلم يحمل اسم «الخروج»، ويروي فيه حالة الانهيار الأخلاقي التي صاحبت التغيرات التي شهدتها دول وسط أوروبا وشرقها على مدى العشرين عاماً الماضية. أما البطولة فعهد بها إلى زوجته الممثلة التشيكية داغمارا هافلوفا، إضافة إلى ممثلين بارزين مثل يوزيف أبراهام وياروسلاف دوشيك وإيفا هولوبوفا.

كتب هافيل مسرحية «الرحيل» عام 1989 مستوحياً موضوعها من حركة ربيع براغ، ولم ينشرها حتى عام 2003 بعد خروجه من سدة الرئاسة، ما أتاح له إضافة تعديلات عليها، بقليل من السخرية، شملت فترة حكمه التي حدث فيها الانتقال إلى اقتصاد السوق وما رافقه من فساد واختلاسات وتراجع أخلاقي فظيع حسب قوله في المسرحية التي ستتحول إلى فيلم سينمائي. لا نعرف إن كان فيلم «الخروج» سيتحقق، خصوصاً أن هافيل أصبح «خارج الحياة»، لكنه بالطبع داخل الثقافة.

هافيل في سطور

وُلد هافيل في براغ في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 1936 لدى عائلة ثرية فقدت أموالها بسبب التأميم، بعد تسلّم الشيوعيين السلطة عام 1948. عندما تحدث عن بيته البورجوازي استدرك أن هذه الولادة لم تقده «إلى التماهي مع الروحية البورجوازية والنظام الرأسمالي: كان «لديهم» في البيت: طباخة، وخادمة، وجنائني، وسائق، ومربية خاصة. لكن هذه الامتيازات سببت له «خجلاً شديداً» فلم يعد يطلب سوى «إزالتها طامحاً إلى المساواة مع الجميع».

التمرّد الأول كان، بالطبع، التمرّد ضد العائلة وذلك في وقت كان فيه الحزب الشيوعي جماهيرياً بكل معنى الكلمة. مع ذلك لم يعتنق هافيل، ولا مرة في حياته، الأفكار الشيوعية. قاده انتماؤه، فضلاً عن تمرّده، إلى تعزيز الحساسية الاجتماعية، وهذه مفارقة يعترف بها، ويلاحظ أنها ترجمت نفسها على شكل «ردود فعل حيال الامتيازات غير المستحقة والحواجز الاجتماعية».

لكن عندما حان موعد ارتياد الجامعة وأراد هافيل أن يكون في إحدى كليات الدراسات الإنسانية، رفضت السلطة الشيوعية طلبه عقاباً له على منشئه، وفرضت عليه الدخول إلى كلية الاقتصاد وإلى فرع المواصلات تحديداً!

بدأ هافيل نشاطه السياسي مطلع عام 1977، حين شارك في صوغ «ميثاق 77» الذي يتحدى الشيوعيين، وسُجن أربع سنوات، كتب خلالها رسائل إلى زوجته الأولى أولغا، تحوّلت إلى أحد أبرز أعماله بعنوان «رسائل إلى  أولغا».

في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1989، انتُخب هافيل رئيساً لتشيكوسلوفاكيا، لكنه استقال عام 1992 بعد انشطار البلاد الى جزئين: تشيكيا وسلوفاكيا. رأس الأولى بين 1993 و2003، متنحياً قبل شهرين من انضمامها الى الاتحاد الأوروبي، بعد دخولها حلف شمال الأطلسي عام 1999.

back to top