إفشاء السر المصرفي... هل يعتبر جريمة مخلة بالشرف والأمانة؟

نشر في 16-01-2012 | 00:01
آخر تحديث 16-01-2012 | 00:01
خلص المستشار شفيق إمام، في دراسة أعدها حول إفشاء السر المصرفي في قاعة عبدالله السالم، إلى أنه لا يعتبر مخلاً بالشرف والأمانة.

وتأتي تلك الدراسة على خلفية الحكم الصادر ضد النائب السابق د. فيصل المسلم.

... وهو سؤال ينبغي أن يسبقه سؤال آخر هو: متى يخلع وصف الإخلال بالشرف والأمانة على جريمة من الجرائم، وما هو المعيار في تحديد الجرائم المخلة بالشرف والأمانة؟

فإذا خلصنا إلى إجابة عن هذا السؤال، وإلى معيار منضبط في تحديد هذه الجرائم، تصبح الإجابة عن السؤال الذي احتل عنوان هذا المقال أكثر سهولة وأكثر يسرا، لا سيما أن جميع القوانين التي استخدمت هذا الوصف ورتبت عليه آثارا خطيرة هي منع تقليد الوظائف العامة وإنهاء خدمة من عين فيها إذا أدين في إحدى هذه الجرائم، والحرمان من حق الانتخاب في ما نصت عليه المادة (2) من قانون الانتخاب رقم 35 لسنة 1962، من أنه «يحرم من الانتخاب المحكوم عليه بعقوبة جناية، أو في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة إلى أن يرد إليه اعتباره».

وقد عرض هذا الموضوع على الجمعية العمومية للقسم الاستشاري بمجلس الدولة المصري التي رأت أن الجرائم المخلة بالشرف أو الأمانة هي التي ترجع إلى ضعف في الخلق، وانحراف في الطبع، يدفعان بالشخص إلى اجتناب الفضائل، واقتراف الكبائر التي توجب احتقاره، وتستوجب ازدراءه، ولا يؤتمن معها على المصلحة العامة، خشية أن يضحي بها في سبيل المصلحة الشخصية، أو أن يستغل سلطانه لتحقيق مآربه الخاصة تأثرا بشهواته ونزواته وسوء سيره.

إلا أنها عادت وسلمت بصعوبة وضع معيار جامع مانع في تحديد الجرائم المخلة بالشرف والأمانة، وانتهت إلى ضرورة بحث كل حالة على حدة ودراستها منفردة لبيان ما إذا كانت الجريمة تعتبر مخلة بالشرف أو الأمانة، أو لا تعتبر كذلك (جلسة الجمعية المعقودة بتاريخ 15 أبريل 1964 ـ الفتوى رقم 359 في 20 أبريل 1964)، وهو الرأي الذي أيدناه في مؤلف لنا عام 1964 الذي قلنا فيه بالحرف: «إن تحديد ما يعتبر من الجرائم مخلا بالشرف ـ في رأينا ـ ينبغي أن يترك لكل حالة على حدة، والاعتبارات تختلف بحسب طبيعة الوظيفة ودرجة تأهيل العامل وسنه ونوع الجريمة والباعث على ارتكابها، فهي مسألة موضوعية تترخص الإدارة في تقديرها بحسب هذه العناصر، مستوحية في ذلك القيم الأخلاقية للمجتمع التي تتقزز من بعض الجرائم وتنبذ مرتكبيها، وتجعلهم محط ازدراء المجتمع» (نظام العاملين قضاء وفتوى، مكتبة القاهرة الحديثة، ط 1964).

وهو ما أكدته الجمعية العمومية للقسمين الاستشاري والتشريعي بمجلس الدولة في مصر في فتواها الصادرة في 2/2/1976، التي قررت فيها أن قرار وزير الحربية بتعريف الجريمة المخلة بالشرف في المحيط العسكري لا ينطبق على العلاقة الوظيفية المدنية للمجندين، ولا تنتهي خدمتهم بسببها، في وظائفهم الأصلية، التي يجري تجنيدهم أثناء شغلهم لها.

ومن تطبيقات هذا الرأي الذي يعتمد في تحديد الجريمة المخلة بالشرف والأمانة على بحث كل حالة على حدة بحسب عناصر مختلفة تقوم بالجريمة أو بمرتكبها منها نبل الدافع أو سوء المقصد، الأمثلة التالية:

1. إن الرأي قد انتهى في مجلس الدولة المصري إلى أن تغيير سن أحد الزوجين في عقد الزواج، وهي الجريمة المنصوص عليها في المادة 227 من قانون العقوبات، لا تعتبر من الجرائم المخلة بالشرف والأمانة (شعبة الشؤون الداخلية والسياسية فتوى رقم 7679 في 16/12/1954)، بالرغم من أنه تزوير في أوراق رسمية، يعزل فيها الموظف وجوبا، وتعتبر كأصل عام من الجرائم المخلة بالشرف والأمانة.

2. رفضت الجمعية العمومية للقسم الاستشاري للفتوى والتشريع بمجلس الدولة في مصر اعتبار جريمة مخلة بالشرف والأمانة، جريمة تبديد منقولات الزوجة تأسيسا على انها جريمة تتردد أفعالها في محيط الأسرة وجوها العائلي الذي يخلو من الصدامات والمنازعات التي تقع بين الزوجين، دون أن يكون وصفها بأنها جريمة تبديد كافيا بذاته لاعتبارها مخلة بالشرف (جلسة 15/4/1964).

3. وعلى الرغم من اتفاق الرأي على اعتبار جريمة تبديد الأموال المحجوز عليها الذي يقع من الحارس القضائي على هذه الأموال أو من غيره، جريمة مخلة بالشرف والأمانة، فإن مجلس الدولة المصري رفض اعتبارها كذلك إذا وقع التبديد من مالك الأموال المحجوز عليها، لأنه لا يتعدى على مال غيره، وانما يتصرف في ماله الخاص، وأن هذا المال لا تتغير صفته بتوقيع الحجز وإن تعلق به حق الدائن (الفتوى رقم 11 في 2/1/1955 الصادرة عن شعبة الشؤون السياسية والداخلية) كما أن هذه الجريمة لا ترتكب بسبب ضعف في الخلق أو انحراف في الطبع، وإنما تنطوي فحسب على الرغبة في تعطيل التنفيذ (فتوى اللجنة الثالثة بالقسم الاستشاري بمجلس الدولة بجلستها المعقودة بتاريخ 14/3/1960).

إفشاء السر المصرفي والحصانة البرلمانية

وقد تناولت موضوع رفع الحصانة القضائية عن النائب د. فيصل المسلم في مقال لي نشر على صفحات «الجريدة» تحت عنوان «ويظل د. مسلم محتفظا بحصانته البرلمانية» في عدد «الجريدة» الصادر في 26 ديسمبر 2010، وقلت إنه لم يكن هناك انتهاك للدستور، في طلب رفع الحصانة القضائية أو الإجرائية عن د. فيصل المسلم أو في رفعها عنه ضمنا، بل كان كل ذلك صونا لأحكام الدستور، وترسيخا لحماية العدالة، وكفالة حق التقاضي، واحتراما لمبدأ الفصل بين السلطات.

وما كان أغناه الدفاع عن د. فيصل المسلم في الجدل العقيم الذي أثاره في القضية التي أقامتها النيابة العامة ضده بناء على شكوى من بنك برقان، لاتهامه بإفشاء السر المصرفي، عندما دفع ببطلان دفع الحصانة القضائية عن النائب السابق والمنصوص عليها في المادة 111 من الدستور وأنه لا يزال محتفظا بها، لو اكتفى بالتمسك بالحصانة البرلمانية المنصوص عليها في المادة 110 من الدستور، وهو الدفع الذي تمسك به الحاضر عن رئيس مجلس الأمة الذي انضم بصفته للدفاع عن المتهم.

وكنت قد قلت في مقالي السابق وبالحرف الواحد إن الإعمال الصحيح لأحكام المادة 110 من الدستور يكون أمام المحاكم، عندما ترفع الحصانة القضائية أو الإجرائية عن العضو، فهي مانع من موانع المسؤولية، وينتهي إلى عدم مسؤولية النائب جزائيا، وعدم عقابه، سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا، ولكن هذا المانع يرتبط بشخص النائب ولا أثر له على الفعل المؤثم جزائيا ذاته، فلا يرفع مانع عدم مسؤولية النائب عن الفعل عدم مشروعيته، ويظل بقية مرتكبي الفعل مسؤولين جزائيا ومستحقين للعقاب.

والقرار في هذه الحالة لا ينعقد لمجلس الأمة بل للقضاء وحده، احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، ومن ثم فإن من حق النائب د. فيصل المسلم لدى مثوله أمام القضاء، بعد رفع الحصانة القضائية عنه، أن يدفع التهمة عن نفسه، بالاستناد إلى المادة 110 من الدستور، التي تمنع مؤاخذته جزائيا عند استخدام حقوقه الدستورية والبرلمانية في المجلس أو في لجانه.

وقد ترى المحكمة التي سيمثل أمامها النائب أن إفشاء السر المصرفي كان لغرض مشروع هو استخدام النائب إحدى وسائل الرقابة البرلمانية، وتعتبر ذلك عنصرا مخففا للعقوبة عند عقاب بقية مرتكبي فعل الإفشاء.

لكن المحكمة، على سند من قرار صادر من المحكمة الدستورية في طلب التفسير رقم 3 لسنة 1986، انحازت إلى حماية الحق في الخصوصية الذي تحميه الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، وهي الحماية التي كانت المحكمة الدستورية قد انحازت إليها في قرار التفسير سالف الذكر.

ومن المقرر أن القاضي الجنائي حر في تكوين عقيدته في البراءة أو الإدانة من الأدلة المطروحة عليه.

إفشاء موظف البنك للسر المصرفي

إخلال بالشرف والأمانة

لكن تكوين المحكمة لعقيدتها في إدانة النائب السابق بجريمة إفشاء السر المصرفي، لا يخلع على هذه الجريمة وصف الإخلال بالشرف والأمانة، ولا يقيد المحكمة الإدارية التي سيطعن أمامها في قرار شطب د. فيصل المسلم من كشوف أسماء المرشحين لعضوية مجلس الأمة وحرمانه من حق الترشح.

ويكون قرار الشطب إداريا، يظل محمولا على الصحة إلى أن تقضي الدائرة الإدارية بالمحكمة الكلية بإلغائه، فهو قرار قد تحوط للأمر تاركا للقضاء القول الفصل في ما إذا كانت جريمة إفشاء السر المصرفي جريمة مخلة بالشرف والأمانة أم لا، خاصة أنها تعتبر كذلك إذا كان مرتكب الفعل أحد موظفي البنوك، الذين خاطبهم المشرع بحظر إفشاء السر المصرفي، فخطاب الحظر موجه أصلا إلى موظفي البنوك باعتبار أن هذا السر قد ائتمنوا عليه بحكم واجبات وظائفهم، فإفشاء هذا السر خيانة للأمانة التي ائتمنوا عليها.

لذلك فإن جريمة إفشاء السر المصرفي تعتبر جريمة مخلة بالشرف والأمانة بالنسبة إلى العاملين في البنوك.

ويكون القضاء هو ملاذ المرشح من الشطب، وقد سبق للدائرة الإدارية بالمحكمة الكلية أن أوقفت تنفيذ قرار وزير الداخلية بشطب المرشح خالد الشليمي، وإعادة قيده في كشوف المرشحين في الانتخابات السابقة.

تقييم استخدام السر المصرفي

في قاعة عبدالله السالم

وسيكون مطروحا على الدائرة الإدارية بالمحكمة الكلية التي ستنظر الطعن المقدم من النائب السابق على القرار الصادر بحرمانه من الترشح لانتخابات مجلس الأمة للفصل التشريعي الرابع عشر، وشطبه من كشوف المرشحين، لتقرر وفقا للظروف والملابسات التي ارتكبت فيها الجريمة، عندما كان النائب السابق يكشف هذا السر في قاعة المغفور له بإذن الله الشيخ عبدالله السالم، وفي جلسة سرية عقدت لهذا الغرض، سيكون مطروحا نبل الدافع أو سوء المقصد، في ضوء المعطيات التالية:

المعطى الأول

الدستور أعلى وأسمى من القانون

وإذا كانت محكمة الاستئناف، في حكمها الصادر بإدانة النائب السابق، قد استندت إلى قرار التفسير رقم 1 لسنة 1986 الصادر في 14/6/1986 للحكم على النائب السابق بالإدانة وتغريمه مئتي دينار، وتعويض البنك المدعي بالحق المدني تعويضا مؤقتا، وهو استناد يتمتع فيه القاضي بحرية تكوين عقيدته في البراءة أو الإدانة، فإن قرار التفسير ذاته سيكون سندا للمحكمة الإدارية في نفي وصف الجريمة المخلة بالشرف والأمانة عن الجرم الذي اقترفه النائب السابق، طبقا لقاعدة معروفة في الشريعة الإسلامية، وهي «الضرورات تبيح المحظورات».

وقد انتهى قرار التفسير الصادر من المحكمة الدستورية سالف الذكر إلى ما يلي: «ان حماية السر المصرفي بالمادة 28 من قانون البنك المركزي، وهي مفروضة بنص قانوني، لا يمكن التحدي بها في هذا الخصوص في مواجهة الحق الرقابي لمجلس الأمة، إذ إنه إعمالاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية فإنه ينبغي عدم الاحتجاج بقاعدة قانونية أدنى في مواجهة قاعدة أعلى مقررة بنص الدستور، وهو أسمى وأقوى من النص القانوني العادي، بما يصبح معه النص الدستوري هو الأولى بالرعاية والإعمال، مما يخلص القول معه بأنه لا يجوز الاحتجاج بما ورد في المادة المذكورة من حظر، في مواجهة سلطات الدولة العامة، ومنها التشريعية، التي يدخل البنك في دائرة سلطانها الرقابي والتشريعي، وكذلك الأمر بالنسبة للالتزام المتعلق بسر المهنة المصرفية فهو ليس التزاماً مطلقاً، بل هناك حالات تبرر الخروج عليه لاعتبارات تفوق أهميتها مصلحة صاحب الأسرار، حينما يتطلب الأمر تغليب المصلحة العامة، وهي الأولى بالرعاية من حفظ السر».

لذلك فإن ما اقترفه النائب السابق من ذنب أو جرم إنما كان يحتمي في اقترافه بحصانته البرلمانية والشفافية التي أصبحت سمة من سمات النظم الديمقراطية الحالية، كما كان يحتمي بالدستور الذي هو أقوى من القانون الذي يحمي السر المصرفي، سواء في المادة 28 من قانون النقد وبنك الكويت المركزي رقم 32 لسنة 1968 أو المادة 85 مكرر من هذا القانون التي أضيفت إليه بالقانون رقم 28 لسنة 2004، حيث لم تعتبر كلتا المادتين حظر إفشاء السر المصرفي مطلقا، وقد استثنت كلتاهما «الأحوال التي يصرح فيها القانون بذلك»، ومن ثم تستثني الأحوال التي يصرح فيها الدستور بذلك من باب أولى، باعتباره قانوناً من قوانين الدولة أو هو قانون القوانين.

بل إن الحماية التي أسبغها قانون النقد وبنك الكويت المركزي والمهنة المصرفية رقم 32 لسنة 68 على السر المصرفي، إنما جعلها رهناً بقرار يصدر من وزير المالية بعد أخذ رأي مجلس إدارة البنك المركزي في تحديد المعلومات المحظور إفشاؤها.

المعطى الثاني

مجلس الأمة لا يملك النزول عن سلطاته الدستورية

كما أنه لا يجوز أن يتعارض السر المصرفي مع النظام الديمقراطي الذي اتخذه الدستور نظاماً للحكم في الكويت في المادة السادسة، كما فصل أحكامه والسلطات الدستورية المنبثقة عنه والصلاحيات التي تملكها، وحظر على هذه السلطات النزول عن كل أو بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في الدستور (المادة 50 من الدستور)، في حين ترك تنظيم المصارف للسلطة التشريعية بقانون تقره، فأصبح مستمداً من رحم هذه السلطة، فلا يجوز لها بموجب هذا التنظيم الذي أقرته النزول عن سلطاتها الدستورية الأخرى في الرقابة البرلمانية، بما ينفي تماماً بسط السرية المصرفية التي أوردها هذا التنظيم على وسائل الرقابة البرلمانية، والقول بغير ذلك يعتبر مناقضاً لقصد المشرع، لأنه لا يمكن أن تكون السلطة التشريعية قد قصدت من هذه السرية المصرفية- التي قررتها- النزول عن سلطاتها.

المعطى الثالث

حماية السر المصرفي تتعرض لهجوم عنيف

كما أن حماية السر المصرفي لم تعد في العالم كله من قبيل الحتميات الاقتصادية والتقنية المصرفية الشبيهة بالأحداث الطبيعية التي لا يمكن الوقوف في وجهها، بعد أن خلعت سويسرا رداء السر المصرفي عن كثير من عورات النظام الاقتصادي، وعن كثير من عورات أنظمة الحكم الفاسد في العالم، والتي هرّب رؤساؤها أموالاً طائلة إلى حساباتهم المرقمة، أو الحسابات الائتمانية أو بأسماء مستعارة في الوقت الذي تتضور فيه شعوبهم جوعاً، مما اضطرت معه سويسرا إلى إلغاء الحسابات السرية المعروفة باسم الحساب «B» منذ عام 1991، ومن قبل ذلك بعد أن تعرض السر المصرفي لنكسة خطيرة في سويسرا عام 1977 إثر فضيحة بنك الكريدي السويس الذي تمكنت المسؤولة في فرعه بمدينة كياسو القريبة من الحدود الإيطالية من التلاعب في أموال الإيطاليين المودعة في البنك، في ظل حماية السر المصرفي مما ألحق بالبنك المذكور خسائر زادت على المليار فرنك سويسري، فضلاً عن إفلاس العديد من المصارف والمؤسسات وانتحار بعض المسؤولين عنها، مما اضطرت معه مصارف سويسرا تحت ضغط من البنك المركزي فيها إلى إبرام اتفاقية «الحذر والحيطة» فيما بينها ومع جمعيتها، وتلزم هذه الاتفاقية المصارف بعدم التمسك بالسر المصرفي إذا ثبت عدم سلامة مصادر الأموال المودعة، وبعد أن أوصى المجلس الأوروبي في 27/6/80 بمكافحة تهريب الأموال الملوثة عبر المصارف من بلد إلى آخر لإعادة إدخالها في السوق المالي، كما أوصى فريق العمل المالي المنبثق عن قمة الدول الصناعية المنعقدة في يوليو 1989 بتعديل نصوص قوانين السرية المصرفية على وجه يسهل ملاحقة جريمة غسل الأموال الملوثة، وصدر تباعاً القانون الفرنسي رقم 614 لسنة 1990 بإلزام المصارف بإعلام جهاز خاص تابع لوزارة الاقتصاد والمالية بالحسابات والتحويلات المالية المشبوهة، وهو ما حذا حذوه القانون الياباني الصادر في 4/10/91 وغيره من التشريعات، والتطور الجديد في هذه التشريعات هو أن المصارف أصبحت تتخذ المبادرة في كشف السر المصرفي.

وقد بدأ اتجاه حديث في الدول ذات العراقة في النظام المصرفي وفي الأخذ بسرية العمل المصرفي، ينادي ويقرر الحد منها، لمصلحة الشفافية في العمل المصرفي ولحماية العدالة ولرعاية المصلحة العامة، فقد جرى في إنكلترا توسيع دائرة الأشخاص الذين يرفع السر المصرفي لمصلحتهم، لتشمل موظفي الإدارة العليا للضرائب وموظفي الجمارك ومراقبي الخزينة وموظفي الـ Fair-Trading.

ومن هذه التشريعات في الكويت القانون رقم 15 لسنة 2002 بشأن مكافحة عمليات غسل الأموال، الذي أوجب في المادة الثالثة منه على البنوك وشركات الاستثمار وغيرها من المؤسسات المالية الالتزام بالإبلاغ عن أي معاملة مالية مشبوهة.

المعطى الرابع

حماية السر المصرفي وهاجس حماية المال العام

كما أن حماية السر المصرفي، لا يجوز أن تخل بحماية الأموال العامة، ذلك أن الحماية الأولى إنما تستمد من القانون وحده، أما الحماية الثانية، فإنها تستمد من نص الدستور ذاته، فيما قررته المادة 17 من أن للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن، ولا ريب في أن أموال الجهات الحكومية والهيئات والمؤسسات العامة، المودعة في بنك الكويت المركزي، هي من الأموال العامة، ومن ثم لا يتفق حجب المعلومات المتعلقة بها، تذرعاً بالسر المصرفي مع واجب هو أوجب الواجبات وغاية هي أسمى الغايات وهي حماية الأموال العامة.

وهو ما فطن إليه مجلس الوزراء اللبناني في عام 1990 عندما اعتبر بعض الحسابات الخاصة، التي فتحت في البنوك بعد 23/9/1988 أموالاً عامة، ليخرجها من نطاق أحكام السرية المصرفية، بقراره الذي اعتبر هذه الحسابات المفتوحة بأسماء رئيس وأعضاء الحكومة العسكرية في لبنان ومن يعملون تحت سلطتهم، وزوجاتهم وأصولهم وفروعهم، أموالاً عامة.

ومن هنا، وفي ظل المستجدات العالمية التي يتراجع فيها السر المصرفي ليس على مستوى التيارات السياسية والفكرية المختلفة فحسب، بل على مستوى الفكر المصرفي ذاته، فإن استخدام السر المصرفي في قاعة عبدالله السالم، التي يحتمي فيها النائب بحصانته البرلمانية، ويمارس فيها رقابته البرلمانية، لا يعتبر مخلا بالشرف والأمانة بالنسبة له ولو أخطأ مجاوزا حدود هذه الرقابة وفقا للحكم الذي أدانته فيه المحكمة بإفشاء السر المصرفي، فللمجتهد أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب.

back to top