المثالية الجديدة... هل تحمل جديداً ؟

نشر في 17-11-2011
آخر تحديث 17-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري مشكلة الفكر البشري، بعامة، أن جميع من تعاطوه ومن يتعاطونه أنهم يضعون أمامهم "حلاً مثالياً نهائياً" ويرون في النهج الفكري الذي يطرحونه سبيلاً موصلاً إلى ذلك "الحل"!

الأديان، وحدها، خرجت على ذلك. صحيح أن كل دين يرى أن مضمونه هو المضمون الأصح ولكن "الحل النهائي"... حل العدل المطلق... سيتحقق لكل إنسان "يوم القيامة" على يد الله سبحانه وقبل "يوم القيامة"، فإن ما نراه في عالمنا ليس نهائياً، وأن ثمة "حكمة" إلهية لحدوثه، ولكن علينا الانتظار إلى يوم الحساب، "فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"... "سورة البقرة الآية 113".

هذا على الصعيد الديني، أما على مستوى الفكر البشري فمنذ أفلاطون إلى كارل ماركس، فالحل المثالي النهائي "اليوتوبي" ممكن في واقع العالم، سواء قامت "جمهورية أفلاطون" أو تحققت سيطرة "البروليتاريا" على الدولة. ومنذ سنوات قليلة، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وتخلي روسيا عن النهج الماركسي، خرج علينا فوكوياما الياباني الأصل، الأميركي الجنسية، بمقولة " نهاية التاريخ " زاعماً انتصار النهج الليبرالي- الرأسمالي نظراً لغياب النقيض الماركسي متمثلاً بالديمقراطية واقتصاد السوق. لكن الثورات الحالية في العالم، المطالبة بالعدل، ومن بينها من رفع شعار "احتلوا وول ستريت" في الولايات المتحدة، ومن تجمهر عند كاتدرائية سان بول بلندن، والتي اضطرت إلى إغلاق أبوابها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وقال أحد كهنتها- الذي قدّم استقالته منها- تضامناً مع المحتجين: "لو عاد السيد المسيح إلى عالمنا، لانضم إليهم- يقصد المحتجين". وذلك قول لا يخلو من وجاهة، فالسيد المسيح عليه السلام كان داعية عدل مثاليا، ولكن كما قال المرحوم عبدالوهاب البياتي- وكان شيوعياً في شبابه: "عدالة المسيح في التاريخ لن تقوم".

أي أن تلك العدالة المثالية لا يمكن أن تقوم في خضم الصراع بين المصالح البشرية في تاريخ العالم وتلك هي المأساة، مأساة الفكر البشري والبشر الباحثين عن الحلول المثالية العادلة والنهائية في واقع عالمنا هذا... إنه واقع قائم على تحكم القوي في الضعيف، وكما قيل، إنه منطق "الناب والمخلب" في الغاب حيث الحيوانات المفترسة تأكل الحيوانات الضعيفة، والسمك الكبير، في البحر، يأكل السمك الصغير... وهلم جرا.

إن المحتجين في عالمنا اليوم يقولون بحق إن خيرات الأرض يتحكم بها 1% من البشر، وإنهم يمثلون 99% منهم، ولابد من العدل في التوزيع، فالديمقراطية المنضبطة لم تفرض انضباطها، مثلاً، على المصارف التي تتحكم باقتصاد العالم، كما قال جوزيف ستيغليتز Joseph E. Stiglitz، الأستاذ في جامعة كولومبيا والحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، ومؤلف كتاب: الأسواق الحرة وسقوط الاقتصاد المعولم Free markets and the Sinking of the Global Economy. وقد تابع البروفيسور ستيغليتز هذه الحركة الاحتجاجية العالمية منذ بدأت في تونس، ثم مصر، ثم إسبانيا إلى أن امتدت إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا... ووصل صداها إلى نيوزيلندا! ولكن متى كان هذا "الظلم" في توزيع الثروة غير ذلك؟! ولو تأملنا في "فكر" هذه الحركة الاحتجاجية، خصوصاً في جانبها الغربي، لوجدنا أنها حركة "تحتج" على سوء التطبيق الرأسمالي في بلدانها ولا تحمل فكراً اشتراكياً. فعندما تأزمت المصارف الكبرى مالياً في الغرب، سارعت الحكومات إلى نجدتها بمليارات الدولارات. لكنها تحسب حساباً عسيراً إذا كانت المسألة مسألة إنفاق على الخدمات العامة لمصلحة الأغلبية من الناس الذين هم ليسوا في ثراء مديري أو مالكي المصارف الكبرى! فلماذا هذا التمييز؟ وما يؤجج مثل هذه الحركة عاملان: التقنيات الحديثة في التواصل، كـ"التويتر" و"الفيس بوك"، حيث تنتشر التحريضات، وفي الغالب ليست قائمة على أساس صحيح. ووجود "ثوريون محترفون" في العالم كمنظمات "حقوق الإنسان" وأمثالها، وهؤلاء ليست لديهم إيديولوجية غير إيديولوجية إسقاط المؤسسات القائمة... "ولكن" ماذا بعد؟

هذا سؤال لم يطرحه أولئك على أنفسهم! وما يهمهم هو "النجاح" في إحداث الإسقاط... "ومن بعدي الطوفان"! ويبدو أن ما يحدث في العالم الغربي هو محاولة لتصحيح الرأسمالية وليس لإسقاطها... فالمحتجون كانوا "أجراء" لدى المؤسسات الرأسمالية، والآن بسبب الأزمة الاقتصادية التي مستهم بضائقة معيشية وغدوا دون أعمال يحتجون ويتظاهرون، وعندما يعود الازدهار الاقتصادي سيعودون إلى وظائفهم... وكأن شيئاً لم يكن! وهم في الوضع نفسه الذي كان فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما انتزع من المؤسسة التشريعية الأميركية موافقتها على مشروع التأمين الصحي العام الذي كانت تفتقر إليه الرأسمالية الأميركية.

ويلاحظ أنه على الرغم من "مواعظ" الحكومة البريطانية بشأن حركات الاحتجاج في الدول الأخرى، فإنها لا تتسامح إطلاقاً مع حركة الاحتجاج في بريطانيا، ومن يتابع ما تفعله أخيراً مع تجدد احتجاجات الطلاب بشأن رفع المصروفات الجامعية يستطيع أن يدرك ذلك.

إن الاحتجاج الغربي، باختصار، ما هو إلا محاولة لتحويل الرأسمالية التي تبدو للمحتجين "متوحشة" إلى رأسمالية ذات بعد اجتماعي إنساني كالرأسماليات في إسكندنافيا!

فهل ينجحون؟

عندما يتأمل المرء في واقع العالم يجد أن التدرج في الإصلاح هو السبيل الوحيد لإصلاح الأوضاع في عالمنا هذا... It is evolution not revolution! وفي مرحلة سابقة كانت الحماسة للثورة... وكان الفكر التطوري يوصم بالرجعية والتخاذل... إلخ. أما اليوم، فإن مدارس الفكر المختلفة ترى في التطور المتدرج هو "الثورة" الحقيقية الصحيحة... وتغيير العالم ممكن فقط عن طريقه... لكنه التطور غير المؤجل وغير المتعثر! وهذه المسألة، أي استكشاف الخطوة التطورية المنشودة هي "التحدي" الذي يواجه الفكر البشري في البلدان المختلفة.

* مفكر من البحرين

back to top