الثورة الفلسطينية 1936(2/3): ثوار فلسطين ينجحون في خوض معركة أطول إضراب في التاريخ

نشر في 18-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 18-08-2011 | 22:02
نستكمل في الحلقة الثانية أحداث الثورة الفلسطينية 1936، التي لم يشهد التاريخ الفلسطيني المكتظ بالهبَّات والثورات شبيهاً لها، فقد جاءت طلائع النجدة العربية من العراق بقيادة الضابط اللبناني فوزي القاوقجي وكان قوامها 190 مقاتلاً، انضموا في الثاني والعشرين من أغسطس سنة 1936 إلى خمسة آلاف مقاتل فلسطيني موزعين على كل أنحاء فلسطين.

باستشهاد الشيخ عز الدين القسام تلقى تنظيمه ضربة قوية وهو لا يزال يتحسس أول طريق الثورة، ضربة أثرت كثيراً في نفسية أعضاء التنظيم وأفقدتهم التوازن لفترة محدودة ولكنهم عادوا ووحدوا صفوفهم وقرروا المضي في الطريق الذي سبقهم إليه قائدهم الشهيد.

قام تنظيم القسام باختيار قائد جديد هو الشيخ فرحان السعدي وكان شيخاً هرماً تجاوز الخامسة والسبعين لكنه وبحكمة الشيوخ استطاع أن يقود التنظيم خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخه.

الشرارة الأولى

قرر التنظيم القيام بثورته بعد ستة أشهر من استشهاد القائد، وتفجَّرت الشرارة الأولى في الخامس عشر من أبريل 1936، عندما ربضت مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي لقافلة سيارات تقل مستوطنين يهود في منطقة المثلث جنين - نابلس- طولكرم، وقتل في هذه العملية اثنان من المستوطنين وجرح عدد آخر، وردت العصابات الصهيونية باغتيال أسرة عربية بكاملها في مدينة يافا في اليوم التالي، وهو ما فجر صدامات واسعة بين العرب واليهود في مدينة يافا، وما حولها، نتج عنها مصرع تسعة يهود وجرح 45 آخرين، وقتل من العرب اثنان وجرح 28. وعلى إثر هذه الأحداث أعلنت سلطات الانتداب حظر التجوال في يافا وتل أبيب، كما أعلنت حالة الطوارئ في كل فلسطين.

لم يستطع تنظيم القسام أن يقود الثورة سياسياً لأسباب عديدة أهمها دوره في الكفاح المسلح وسرية أعضائه، وتولت دفة القيادة مجموعة من المثقفين الشبان من غير القيادة التاريخية المعتادة في فلسطين، وهي قيادة كبار الملاك والأعيان من رموز ووجهاء العائلات الفلسطينية. وأعلن في العشرين من أبريل تشكيل لجنة قومية مستقلة عن الأحزاب الستة المعروفة في فلسطين آنذاك. ودعت اللجنة إلى الإضراب العام في فلسطين، على أن يستمر إلى أن تعلن الحكومة البريطانية استجابتها للمطالب الوطنية، وهي وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنع انتقال الأراضي إلى اليهود، وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب.

بعد تبلور القيادة الجديدة من المثقفين الشبان، والتفاف الشعب الفلسطيني حولها وتأييده مطالبها، لم تجد القيادة التقليدية مفراً من السير في ذات الطريق خاصة بعد أن دعت القيادة الجديدة إلى مواصلة الإضراب واستجاب الشعب الفلسطيني للدعوة، وشمل الإضراب كل فلسطين في الحادي والعشرين من أبريل وتشكلت لجان قومية في أنحاء فلسطين لتأمين الإضراب وإنجاحه، واضطرت الأحزاب العربية الفلسطينية الستة إلى الإعلان عن تأييدها للإضراب. ثم ما لبثت في الخامس والعشرين من أبريل أن شكلت هذه الأحزاب «اللجنة العربية العليا» بقيادة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني.

أطول إضراب في التاريخ

وهكذا، بدأ الشعب الفلسطيني أطول إضراب عام عرفه التاريخ، واستمر الإضراب ستة أشهر، وأصيبت بالشلل التام جميع مظاهر العمل والنشاط التجاري والصناعي والتعليمي والزراعي والمواصلات في جميع المدن والقرى. بعد أقل من شهر من بداية الإضراب قررت اللجنة العربية العليا العصيان المدني وطالبت الشعب الفلسطيني بالامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من 15 مايو.

عسكرياً تصاعدت العمليات المسلحة ضد العصابات الصهيونية وقوات الانتداب البريطاني وشملت هذه العمليات كل مناطق فلسطين، وبدأ الثوار يحكمون السيطرة على بعض المناطق ليلاً ثم يتراجعون إلى مواقعهم في الأحراش والجبال والقرى ليلاً وبلغ معدل عمليات الثوار خمسين عملية يومياً، وهو معدل كبير للغاية لم تستطع قوات الانتداب تحمله لدرجة أنها – وللمرة الأولى- قامت باستخدام الطائرات في قصف مواقع للثوار في مناطق جبلية شمال وشرق فلسطين.

نجح الثوار في إشعال الأرض من تحت أقدام قوات الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، ورغم الفارق الكبير في الإمكانيات في العدد والعدة إلا أن الثوار تفوقوا على أعدائهم باستغلال عامل الأرض، ومعرفتهم الوثيقة بها وانحياز الفلاحين في القرى لصالح الثوار ومنحهم الغطاء اللازم وإمدادهم بالطعام والتمويه على تحركاتهم، الأمر الذي جعل سيطرة قوات الانتداب على مناطق كبيرة في فلسطينن تتراجع إلى الاكتفاء بالسيطرة على المدن والطرق الرئيسية فقط.

واجه الثوار أزمة كبيرة هي نقص الذخيرة وقلة الأسلحة ولكنهم تغلبوا على تلك المشكلة بنهب بعض المعسكرات البريطانية والإغارة على مخازن أسلحتها وذخيرتها. كما استنجد الثوار بأهالي سورية لنجدتهم بما في إيديهم من بنادق قاتلوا بها الاستعمار الفرنسي خلال ثورة صالح العلي، وأمدهم ثوار سورية بكمية من الأسلحة والذخيرة.

ولم يستخدم الثوار الرشاشات إلا بعد أن نجحوا في الإغارة على معسكرات الجيش البريطاني. كما كان الثوار يقومون بصنع القنابل والعبوات التفجيرية بما في أيديهم من إمكانيات بسيطة، ولم يتطور أسلوبهم القتالي إلا بعد انضمام مقاتلين عرب لصفوفهم وبعضهم كانت له خلفية عسكرية، وجاءت هذه النجدات من سورية ولبنان والعراق والأردن.

القاوقجي في فلسطين

بعد عدة أشهر من اندلاع الثورة واشتعال المواجهات المسلحة بين الثوار والقوات البريطانية أدرك الثوار أهمية طلب النجدة من الدول العربية المجاورة، وبالفعل طلبت رئيس اللجنة العربية العليا ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني النجدة من الأردن وسورية ولبنان والعراق.

وجاءت طلائع النجدة العربية من العراق بقيادة الضابط اللبناني فوزي القاوقجي وكان قوامها 190 مقاتلاً، مئة عراقي وستون سورياً بقيادة الشيخ محمد الأشمر، وثلاثون درزياً بقيادة حمد صعب، انضموا في الثاني والعشرين من أغسطس سنة 1936 لخمسة آلاف مقاتل فلسطيني موزعين كل أنحاء فلسطين. ووصل المتطوعون العراقيون إلى شرق الأردن بالسيارات، وبصورة علنية تقريباً، ولجأوا إلى السرية فقط عند عبورهم نهر الأردن، بمساعدة بدو بيسان. ومن سورية جاء العقيد سعيد العاص على رأس قوة من المتطوعين السوريين. وأرسلت «الكتلة الوطنية» في دمشق كمية من السلاح، اشتملت على عدة مدافع مضادة للطائرات. وفي ختام المرحلة الأولى للثورة كان عدد المتطوعين العرب قد بلغ أكثر من خمسمئة مقاتل.

مثلت النجدة العربية انقلاباً في موازين القوى في فلسطين، فبعد أشهر من عمليات الثوار غير المنظمة، تمكن الثوار من إحداث نقلة نوعية خطيرة في نوعية هذه العمليات، واتخذت المعارك بين الثوار والجيش البريطاني شكلاً حربياً منظماً، فصارت هناك خطط للهجوم والاستدراج والانسحاب، كما أصبح لدى الثوار مدافع رشاشة وبنادق من قاذفات القنابل وغيرها لإسقاط الطائرات، وتحسن أداء الثوار من حيث التخطيط والتنفيذ، والكر والفر وهو ما اعترفت به القوات البريطانية مرجعة السبب لانضمام ضباط مدربين ومؤهلين الى صفوف الثوار.

تولى القاوقجي القيادة العامة للثورة، وأصدر بياناتها موقعة بوصفه قائد القيادة العامة للثورة في فلسطين الجنوبية، وهي إشارة لم يرضَ بها عدد من أعضاء اللجنة العربية العليا والذين كانوا يطمحون إلى استقلال فلسطين عن بريطانيا والقضاء على المشروع الصهيوني وكذلك الفصل بين فلسطين وسورية، كما أن هذه البيانات لم تُشر إلى اللجنة العربية العليا ولا إلى المفتي ولا إلى الزعامة الفلسطينية، وتسبب هذا الموقف في توتر العلاقات بين القاوقجي وهؤلاء الزعماء في مرحلة لاحقة. كان الموقف الشعبي العربي داعماً وبقوة للثورة الفلسطينية وخرجت المظاهرات المؤيدة لها في القاهرة وبغداد ودمشق، وتم جمع التبرعات لها في هذه العواصم وحالت صحراء سيناء والقوات البريطانية الموجودة على قناة السويس بين وصول متطوعين من مصر للمشاركة في الثورة.

حرب عصابات شعبية

عسكرياً قام القاوقجي بتقسيم قواته إلى أربع سرايا رئيسية هي:

السرية السورية بقيادة الشيخ محمد الأشمر، السرية العراقية بقيادة جاسم علي، السرية الدرزية بقيادة حمد صعب، السرية الفلسطينية بقيادة فخري عبدالهادي. واتخذ القاوقجي مقراً لقيادة هذه القوات في قرية «ضهرة الجمعة» بالقرب من بلعا، ولكنه كان ينقل مقر قيادته من مكان إلى آخر خوفاً من رصد القوات البريطانية له.

كما اتخذ القاوقجي عدة مواقع لتمركز قواته وهي:

ضهرة الجمعة، وهي تلة عالية شمالي قرية بلعا المطلة على منطقة الساحل، وتحيط بها أودية عميقة، وكانت التلة مكسوة بأشجار الزيتون، التي شكلت ساتراً لرجاله من طائرات الاستطلاع البريطانية، جبل حريش وهو جبل عال في قضاء جنين محاط بقرى كثيرة، قرى صيدا وكفر صور وياصيد الواقعة على قمم مرتفعات طبيعية تطلّ على ما جاورها.

تلقت سلطات الانتداب الضربة تلو الأخرى على يد الثوار، وفقدت سيطرتها على أجزاء كبيرة من فلسطين ووصل الأمر إلى قيام الثوار بمهاجمة المؤسسات الحكومية الرسمية في كثير من مدن فلسطين والاستيلاء على ما بها من أموال لتمويل الثورة، كما تعرضت المعسكرات البريطانية لهجمات متتالية من الثوار، وبلغت خسائر بريطانيا المادية جراء العمليات العسكرية والإضراب العام نحو 3.5 مليون جنيه استرليني وهو رقم ضخم بمعايير ذلك الوقت.

أما الخسائر البشرية فإن هناك تبايناً ملحوظاً في الأرقام التي ذكرتها الوثائق البريطانية وبين شهادات شهود العيان والوراق الرسمية الصادرة عن المؤسسات الحكومية الفلسطينية. وتقول المصادر البريطانية إنه عدد قتلى المستوطنين اليهود كان نحو ثمانين قتيلاً، وبلغ عدد جرحاهم 288 جريحاً. وقتل من قوات الانتداب البريطانية نحو 35، بينما جرح 164 آخرون، فيما قتل من الجانب العربي 193 وجرح 803.

لكن البيانات الحقيقية الصادرة عن مصادر فلسطينية كانت تقول إن عدد الشهداء العرب زاد على 750 وعدد الجرحى زاد على 1500، بينما تشرد أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني من بينهم أربعون ألفاً في مدينة يافا وحدها. واستدل مكتب الإحصاء الفلسطيني على كذب البيانات الرسمية البريطانية بأنه بعد أقل من شهرين من بدء الإضراب بلغ عدد قتلى الجنود الذين دفنتهم إدارة الصحة في نابلس وحدها 162 جندياً.

جرَّبت قوات الانتداب البريطاني كل ما في جعبتِها من مساع سياسية وعسكرية لكسر شوكة الثورة، ولم تجد بداً من القيام بإجراء اعتادت أن تأخذه في مثل هذه الحالات وهو إرسال لجنة تحقيق ملكية، برئاسة اللورد روبرت بيل، للتحقيق في أسباب الثورة، ولكن وصول لجنة بيل لم يوقف الثورة ولجأت بريطانيا إلى أصدقائها من الحكام العربية للوساطة لدى اللجنة العربية العليا لوقف الإضراب ووقف العمليات المسلحة وذلك بناءً على نصيحة من بعض أعضاء هذه اللجنة للمندوب السامي البريطاني في القدس، مؤكدين له أن أي وقف للثورة لن يكون أبداً إلا بمباركة عربية رسمية وهو ما كان بالفعل. وجاءت مباركة بعض أعضاء اللجنة العربية العليا لوقف الإضراب العام خوفاً على مصالحهم الشخصية، فكل أعضاء اللجنة كانوا من كبار ملاك الأراضي الزراعية، وقد اقترب موسم قطف البرتقال وتصديره، وهو ما لن يحدث في حالة استمرار الإضراب العام، مما يعني خسارتهم لمبالغ طائلة.

في الثاني عشر من أكتوبر 1936، أعلن الملوك والأمراء العرب بياناً مطالبين فيه الشعب الفلسطيني بـ»الإخلاد إلى السكينة حقنا للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم». من جانبه رفض رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس أن يوقع على هذا البيان مشدداً على إيمانه بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ورافضاً خديعة الشعب الفلسطيني بهذا البيان، الذي يساعد العصابات الصهيونية على السير في مخططها لإقامة دولة يهودية في فلسطين. وهو ما رفضه النحاس مؤكداً للسفير البريطاني في مصر «أنه لن يقبل بدولة يهودية على كتفه» في إشارة إلى حدود مصر الشرقية.

في الحادي عشر من أكتوبر أعلنت اللجنة العربية العليا استجابتها لنداء الملوك والأمراء العرب وبالفعل توقف أطول إضراب عرفه التاريخ بعد أن استمر ستة أشهر.

back to top