فنّان العرب محمد عبده... (1-4): قصة الفتى اليتيم متربعاً على عرش الغناء

نشر في 01-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 01-08-2011 | 22:02
استطاع الفنان محمد عبده تحقيق المعادلة الأصعب في تاريخ الغناء، فهو مطرب متجدد حافظ على ألَقه الفني فتربّع على عرش القمة لسنوات طويلة. يرتبط تاريخه الفني باسمين لهما حضورهما وتألقهما، سواء في الأغنية السعودية أو العربية، وهما طارق عبدالحكيم وطلال مداح.

كان للشهرة الكبيرة التي حظي بها عبده دور في رواج الأغنية السعودية والخليجية، التي تجاوزت واقعها المحلي لتمتدّ إلى أقطار الوطن العربي، بل إن عبده أحد القلائل الذين ساهموا في نشر الأغنية العربية في بلدان أوروبية عدة حيث أحيا حفلات كثيرة ناجحة.

تقدّم «الجريدة» سلسلة حلقات متتابعة، ترصد من خلالها تاريخ هذا الفنان القدير وأهم خطوات حياته ومراحله الفنية متطرِّقة إلى الكثير من الجوانب الشخصية والعائلية، وعلاقاته مع أصدقائه، إلى جانب صور توثيقية قديمة ونادرة.

اسمه الكامل محمد عبده آل دهل العسيري، وُلد في قرية الدرب جنوب المملكة العربية السعودية في عام 1948، برجه «العقرب» الذي يتميّز مواليده بانفعالات شديدة غالبيتها لا تظهر للناس فيشبّهونهم بـ «النار تحت الرماد» والويل من غضبهم إذا اشتدّ بهم الغضب.

 قبل أن ترى عيناه النور توفي والده فعاش في كنف والدته التي أحسنت تربيته. يقول عبده عن طفولته:

«الحديث عن الطفولة موجع... وعلى رغم أنه موجع ومكرر أيضاً، أحب أن أتحدث فيه، الطفولة شيء استثنائي في حياتي... صقلتني وقدّمتني إلى الحياة كما يجب.

لا شك أن فيها الكثير من الشجن والحزن واليتم والفقر ولكنّها تحفل بذكريات رائعة لأم رائعة وأخوة طيبين».

متزوِّج ولديه شابان وأربع بنات: عبدالرحمن، بدر، نوره، ود، ريم، وهيفاء.

كان أبوه بحاراً وعازفاً مجيداً على آلة كانت منتشرة آنذاك ألا وهي السمسمية، لكنه كما يقول محمد عبده: «لم يكن صوت والدي جميلاً». كان عمّه يعزف على السمسمية أيضاً وكان صوته جميلاً فبدأ عبده يقلّده فأثنى على صوته.

بدأ الغناء منذ صغره، إذ شارك في برامج الأطفال بالإذاعة السعودية وهو في الثامنة من عمره.

علاقته بأمه

علاقة محمد عبده بأمه مفتاحٌ رئيس من مفاتيح شخصيّته، إنها قصة حب وحنان ووفاء. ذاق عبده اليتم والفقر والعوز منذ سنينه الأولى وكان شقيقه أحمد لم يتجاوز السبعة أشهر بعد. لم يترك الأب، الذي كان يعمل في بناء السفن، لزوجته الكثير لتنفقه على ولديها فباعت بعض ما ورثته من والدها وخرجت للعمل من أجلهما. حين وصل عبده إلى الصف الرابع الابتدائي، تقدّمت والدته بطلب الى جلالة الملك فيصل، رحمه الله، لإيداعهما في مؤسسة لرعاية الأيتام فوافق. كانت الأم تذهب يومياً للسؤال عن ولديها، ولشدّة خوف ابنها عبده عليها طلب من مدرّسه أن يسمح له بالذهاب إليها يوماً بعد يوم، وكان يختزن الفاكهة التي يعطونها إياه ليذهب ويأكلها مع والدته كل يوم خميس.

في سن الثانية عشرة، كان عبده أحد الطلبة المتميّزين في دار الأيتام حيث قضى فترة تعليمه الابتدائي ليلتحق بعدها بالمعهد الصناعي الثانوي لتحقيق حلمه القديم بأن يصبح بحاراً مثل والده، لكنه لم يكمل دراسته بسبب ظروفه العائلية.

كان مولعاً بالفن والغناء الذي أخذه إلى بحر النغم فأخلص له منهجاً حقيقياً وبدلاً من أن يتخرّج مؤهلاً لإصلاح السفن أو ورش التصليح قرّر احتراف الغناء من خلال إعادة تقديم الأغاني الشائعة في السعودية.

حين لاحظت أمّه ميله الى الفن لم تمنعه لكنها طلبت منه ألا يسهر خارج البيت وقالت له: «أحضر أصدقاءك إلى البيت وسأقوم أنا بخدمتكم»...

درب الغناء

سار عبده في طريقه الفني وفي عالم الغناء الواسع. فبدأ يحفظ الأدوار القديمة ويقلّد كل من يستمع إليه... إلى أن أجيز صوته في البرنامج العام لإذاعة السعودية عام 1960 مطرباً درجة ثالثة، ومن كلمات أولى أغنياته التي سجّلها:

سـكـبــت دمــوع عــــيـنــي  عـلى خــل نسـانــي

مـن عـــذابـــي 

مـــــا درا بـــي

في عام 1961، جرّب عبده حظّه في مسرح الإذاعة ففشل في أول حفلة له فشلاً ذريعاً بسبب عدم حفظ الكورس والموسيقيين للأغنية. فكان لا بدّ من التمرّس والتمرين فتبناه أستاذ الموسيقى السعودي عمر كدرس وعلّمه الأدوار الحجازية وكيفية العزف على العود وغناء المواويل والمقامات التي كانت سبباً في شهرته. من كلمات أحد المواويل:

مـر بــدوي صـغيـر السن تيهـان بخـدي

نــاعـس الــطـرف حــيـران

وله موال آخر يقول فيـه:

يــا مــورّد الخــد تـفاح الوجــن منـــكـــم

لــي مـــهــة مــن لـمـاك قــصـدي أداويـهــا

بعد هذه الفترة التي اعتبرها عبده مرحلة تكوين وبناء، عاد ثانيةً إلى مسرح الإذاعة وشارك في حفلة غنائية أحيتها مجموعة من المطربين السعوديين آنذاك من بينهم: عبدالله محمد وطارق عبدالحليم وطلال مداح، وقدّم عبده أغنية من تأليف طاهر دمخشري وتلحين محمد حسن فشكّلت منعطفاً كبيراً في حياته الفنية لأنها كانت وراء بزوغ نجمه محلياً وانفتاحه على المستمعين. يقول مطلع الأغنية:

خاصــمــت عـــيــنــي من سنـين

 ارحـم قــلبـي فــيـــن

في عام 1962، أوفدته الإذاعة السعودية إلى لبنان برفقة عباس فائق الغزاوي والشاعر طاهر زمخشري وكانت هذه أول رحلة فنية يقوم فيها خارج المملكة العربية السعودية حيث سجّل أغنيات عدة، من بينها أغنية بعنوان «سكة التايهين» والتي كانت منعطفاً ثانياً في طريقه الفني وهي من تأليف ناصر بن جريد وتلحين الموسيقار الكبير طارق عبدالحكيم. يقول مطلعها:

كــنـا سـوى الاثــنيــن  درب الــهـوى مـــاشــيـــن

وفــي لــمـحـة شـفـت الــزيــن  كـلـه أســى وحسره

في لبنان، تعرّف عبده الى الملحّن السوري محمد محسن الذي لحّن له أول أغنية خاصة به بعنوان «خاصمت عيني من سنين»  من كلمات الشاعر طاهر زمخشري، بعدما غنـى الكثير من أغاني مَن سبقوه ومنها أغنية:

قـالـوهــــا فـي الــحارة   الــدنـيــا غـداره 

عاد عبده الى أرض الوطن واقتحم مجال الغناء بقوة وتعرف إلى شعراء كثر كان لهم تأثير واضح على حياته الفنية، من بينهم ابراهيم خفاجي الذي التقى به بمحض الصدفة ليكونا معاً أفضل ثنائي شاعر وفنان. ولا شك في أن  خفاجي أحدث نقلة نوعية متميزة في مسيرة عبده فقدّما معاً الكثير من الأعمال الغنائية الناجحة، منها: «يا سما شوف بعدك»، «هوا دا حكم المقدر فيك يا أسمر»، «عيونك ردها عني»، «مثل صبيا في الغواني» و{ما في داعي من حنانك».

يقول فنان العرب في أحد حواراته الصحفية:

«عندما بدأت حياتي الفنية تتملذت على يد الأستاذ إبراهيم خفاجي، ثم على يد مبدع الكلمة الأمير خالد الفيصل، وفي العود على يد الأستاذ سراج عمر، وهؤلاء أساتذة كبار استفدت منهم «خبرتي» والذوق الفني في أبعاده. بطبعي، أميل الى ما يحرّك إحساسي وأشعر بأنه يحرّك إحساس الناس. ثمة أمور مشتركة في داخل الناس. مشاعر واحدة تحركها أوتار واحدة. هذه الأوتار هي التي أبحث عنها دائماً.

درست في المدرسة العربية الشرقية التي تعطي الإحساس بالنغم والكلمة والأداء أهمية كبرى، وعلى هذا الأساس عملت».

بعد لبنان كانت لعبده جولات فنية في أقطار خليجية عدة منها: الكويت وقطر ومملكة البحرين، فكانت حصيلته الفنية فيها كبيرة وفرصته أكبر ليتعرّف الجمهور إليه..

بعدها انفتح عبده على التعاون مع جميع المبدعين في مجال الكلمة واللحن في شتى أنحاء الوطن العربي، وكانت نقطة الانطلاق من دولة الكويت التي زارها عام 1965 للمرة الأولى فاكتشف أنها تضمّ مواهب عدة توافدت إليها من كل أرجاء الوطن العربي، البحرين وعدن وزنجبار والبصرة. آنذاك شجّعه الراحل عبدالعزيز جعفر الذي كان مديراً للإذاعة الكويتية حيث سجّل أغنيتين هما «مادام النظر مسموح» من كلمات إبراهيم الخفاجي، و{يابو شعر ثاير» من ألحان عبده وكلمات سمو الأمير عبدالله الفيصل وقد نجحت هذه الأغنية نجاحاً كبيراً وكانت نقطة تحوّل في الأغنية الخليجية الخفيفة الثقيلة أو السهل الممتنع.

عاد عبده من الكويت سعيداً بهذا النجاح وسجّل أغنية «ماكو فكه» من كلمات سلطان عبدالله السلطان وألحان يوسف المهنا، وعلى رغم بساطة كلماتها لكنها نجحت نجاحاً كبيراً... بعد ذلك، توالت زيارات عبده الى الكويت وصار له فيها إخوان وأصدقاء وزملاء ربطته بهم علاقات تخطّت حدود الصداقة الفنية.

من أبرز الأغاني التي تعاون فيها مع فنانين في الكويت:

- «اللي يبينا» كلمات عبدالله الدويش وألحان يوسف المهنا.

- «أنت معاي» كلمات يوسف ناصر وألحان د. عبدالرب إدريس.

- «أبعاد» كلمات فايق عبدالجليل وألحان يوسف المهنا.

- «حبيتك حبيبي» كلمات يوسف ناصر وألحان د. عبدالرب إدريس.

- «صمت الشفايف» كلمات عبد الأمير عيسى وألحان أحمد عبدالكريم.

- «في الجو غيم» كلمات فايق عبدالجليل وألحان يوسف المهنا.

- «محتاج لها» كلمات بدر بورسلي وألحان د عبدالرب إدريس.

- «ينسيني» كلمات فايق عبدالجليل وألحان يوسف المهنا الذي يقول عنه عبده:

«يوسف المهنا فنان ممتاز وأحب التعاون معه. وهو متحرّك وهذا هو المطلوب في الفنان المبدع».

بعد الكويت، زار عبده أكثر من دولة عربية وأولى المحطات كانت في مصر لينطلق من هناك إلى شتى أنحاء الوطن العربي، وقد ساعده آنذاك وزير الإعلام عبدالقادر حاتم والمايسترو أحمد فؤاد حسن، قائد الفرقة الموسيقية، والموسيقار محمد الموجي وآخرون.

مرحلة الاحتراف

في منتصف الستينيات، قرر عبده احتراف الغناء من خلال إعادة تقديم الأغاني الشائعة في السعودية، وقد ساعدته في ذلك علاقته بالملحن الفنان عمر كدرس الذي كان له دور كبير في بداياته والذي قدّم له مجموعة من ألحانه... فلأغاني المرحلة الأولى علاقة وثيقة بالفولكور، إذ ركّز عبده في البداية على الحصيلة الشعبية باعتبارها مدرسة تقوّم موهبة الأداء الصوتية فبدأ بالدانات والأغاني اليمنية والحجازية والسامري، ومعظم الألوان الشعبية التي ساهمت في شهرته وأعطته إشارة البداية للانطلاقة في اختيار أغاني عاطفية متميزة. وقد ساعدت عبده على تقديم هذه الألوان الغنائية إجادته معظم اللهجات الشائعة في الجزيرة العربية، أبرزها اللهجة الحجازية والنجدية، فكان يختار الأغاني من اللهجات كافة على أن تكون مفهومة وواضحة لبقية القبائل. فسابقاً كان الناس يتمتّعون باللحن ولا يعرفون الكلمة، لكن في السنوات الأخيرة بدأ التركيز على الكلمة أيضاً بقصد تقريب اللهجات إلى بعضها.

جمهور الفنان القدير من المسنين والشباب، فهو خليط من المعجبين لأن أعماله الأولى التي قدّمها هي الأغاني والمواويل القديمة (الفولكلورية) وما زال كثر يستمتعون بها، أما أغنياته الحديثة والمطوّرة فتتلاءم مع جيل الشباب وثمة من يعشقها.

بداياته مع التلحين

على رغم ألحان الموسيقار طارق عبدالحكيم وعمر كدرس التي صقلت موهبته، وجد عبده أنه بحاجة إلى أن يلحِّن لنفسه، فخاض أول تجربة له في هذا المجال ولم يكن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره حين لحّن أغنية «خلاص ضاعت أمانينا مدام الحلو ناسينا»، التي قدّمها عبده على العود والإيقاع من دون أي توزيع موسيقى، وكان نجاح هذا اللحن تشجيعاً له على خوض التلحين الذاتي في ما بعد أكثر وأكثر...

في عام 1965، لحّن عبده أغنية أخرى بعنوان «هلا» فنجحت بشكل مبهر، ثم لحّن من كلمات الشاعر الغريب أغنية «الرمش الطويل» عام 1967، آنذاك وُزِّع من هذه الأسطوانات ثلاثون ألف نسخة، وهذا دليل على نجاح عبده وانتشاره فنياً في جميع أرجاء السعودية كلّها بمناطقها المختلفة، وفي دول الخليج المجاورة، ووصل صدى هذه الأغنية إلى لبنان، حتى أن مسارح بيروت والمناطق السياحية فيها أصبحت تقدّم هذه الأغنية بمختلف الأصوات صيف عامَي 1968 و1969.

بعد «الرمش الطويل»، جاءت رائعة الفنان الملحّن القدير طارق عبدالحكيم «لنا الله» من كلمات الشاعر الكبير إبراهيم خفاجي عام 1967، بعدها قدّم عبده نفسه كملحّن للجمهور في أكثر من أغنية، من بينها: «ما في داعي»، «اوحشتنا»، «صبية في الغواني»، وغيرها.

ظهور تلفزيوني

أول ظهور تلفزيوني لمحمد عبده كان عام 1965 في تلفزيون شركة أرامكو الذي كان يبثّ برامجه في دائرة محدودة في المنطقة الشرقية، فغنّى حينها أغنيتي «يا سما شوف بعدك» و{حكم المقدر». أما أول ظهور له في التلفزيون السعودي فكان في عام 1966 عبر أغنية «سكة التايهين» من كلمات ناصر بن جريد وألحان طارق عبدالحكيم. بعدها غنى أغنية «ماكو فكه» من ألحان يوسف المهنا وقد أكسبته شعبية كبيرة وقاعدة جماهيرية عريضة في منطقة الخليج والجزيرة العربية.

في مجال الدراما التلفزيونية، شارك عبده في مسلسل بعنوان «أغاني في بحر الأماني»، فكان التجربة الوحيدة له مع التلفزيون في مجال التمثيل.

طلال مداح

يكنّ محمد عبده احتراماً كبيراً لصديقه الراحل الفنان طلال مداح، وقد ساهم الإثنان عبر تنافسهما الإيجابي في إثراء الأغنية في السعودية والمنطقة العربية، وأصبحا قطبين هامّين فيها.

 يقول عبده عن صديقه طلال مداح:

«طلال مداح أستاذنا الذي صحونا على صوته أنا وغيري من المطربين... ووعينا على غنائه وهو قمة في كل أغانيه وجديد في كل معانيه. كلنا من الجيل الذي استمع واستمتع بصوت طلال مداح».

فنان العرب

حمل الفنان محمد عبده على عاتقه رسالة إيصال الأغنية السعودية إلى كل بقعة في الوطن العربي، فردّدت الجماهير العربية أغانيه وحقّق لنفسه مساحة مرموقة على ساحة الغناء في عصر العمالقة في مشوار عامر بالإبداعات والإنجازات الفنية الكبيرة. في رصيده أكثر من 300 أغنية تغطّي مراحل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة.

بعد حفلة غنائية له في الجمهورية التونسية، أطلق الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة على محمد عبده لقب «فنان العرب» أثناء لقائهما في الثمانينيات.

شارك خلال مشواره الفني الطويل في الكثير من المهرجانات والملتقيات ونال شهادات وأوسمة فنية وجوائز عدة لتميّزه واقتداره الفني.

back to top