شعراء حمص... من ديك الجن إلى فرج بيرقدار
حمص الحاضرة راهناً بقوة في وسائل الإعلام وسط الأحداث في سورية والتظاهرات ضد نظام البعث، لها وجهها الاجتماعي والثقافي والديني الخاص. فهي مدينة الصحابي خالد بن الوليد والمترجم سامي الدروبي والفنان وعازف البيانو مالك الجندلي والباحث فراس السواح، ومسقط رأس المبتكر العالمي ستيف جوبز، وفي مناخها الخاص برزت شخصيات شعرية كثيرة تعتبر اليوم نماذج ثقافية.
أبرز شعراء حمص، مدينة الشعر والشعراء كما يسميها البعض، باسم عبد السلام بن رغبان أو «ديك الجن» الحمصي المولود عام 161 هجرية، والذي صنع من حياته أسطورة شعرية، وتجاوزت شهرة أخباره حمص إلى معظم بلاد المشرق مع أنه لم يكن «شاعر بلاط».كان بيت ديك الجن مقصداً لكبار شعراء عصره. بعدما زاره الشاعر دعبل الخزاعي، قال عنه: «إنه أشعر الجن والإنس». كذلك كان أبو تمام أحد تلامذته، وجاءه البحتري ليتتلمذ على يديه، كما ورد في «وفيات الأعيان» للمؤرخ ابن خلكان.ربما تأتي شهرة ديك الجن أيضاً من مأساته مع حبيبته «ورد» التي قضت على يديه مقتولة بسيف غيرته... ذلك على إثر مكيدةٍ دبرها ابن عمه أبو الطيب، ويقال إنه أحرق جسدها وجمع رماده، وخلط به شيئاً من التراب، ووضعه في زجاجة.توفي ديك الجنِّ بعد سنواتٍ مليئةٍ بالحزنِ والهم والندم سنة 235 أو 236 هجرية، فرثاه أبو تمام بقصيدة تعتبر من أمهات المراثي... ومنها قوله:مات حبيبٌ فمات ليـثٌوغاض بحرٌ وباخ نجـمُسمتْ عيون الردى اليـهوهي الى المكرمات تسموما أمك اجتاحت المنايـاكـلّ فـؤاد عليـك أمّ.في المهجرمع أن قصة ديك الجن تحولت أسطورة شعرية من ضمن أساطير عنوانها «من الحب ما قتل»، لكن شعره ما زال مغموراً وقل ما نجد في المكتبات ديواناً له. الواقع نفسه ينطبق على الشاعر نسيب عريضة الذي اشتهر بأنه أحد «شعراء المهجر» أيام جبران خليل جبران و{الرابطة القلمية»، إلا أننا لا نعرف كثيراً عن شعره. فهذا الشاعر الذي تعرّف في الناصرة إلى الأديب ميخائيل نعيمة (أيام كان تلميذاً) فتصادقا وتحابّا، وبعد نيله الشهادة عام 1905 في دار المعلّمين هاجر إلى نيويورك. وفي عام 1912، أسّس مطبعة «الأتلنتيك» وأصدر مجلة «الفنون». لكنّ الحرب العالمية الأولى أوقفت مشروعه، وأعاد عريضة الكرّة فجددّ حياة «الفنون» بمساعدة بعض الأصدقاء عام 1916 وتوقّفت نهائياً عن الصدور ولمّا تكمّل العامين من عمرها الثاني.عمل عريضة محرراً في عدد من المطبوعات، وتوفي في مدينة بروكلين عام 1946 وهو يضع اللمسات الأخيرة على ديوان «الأرواح الحائرة». أما آثاره النثريّة فأبرزها «ديك الجن الحمصي» و{حديث الصماصمة» و{أسرار البلاط الروسي»، وهي رواية ترجمها عن الروسية. ولعلّ من أجمل قصائده الوطنيّة «الحنين» و{إلى فلسطين»، ويقول فيها:فلسطين من غربةٍ موثقةْ نُراعيك في الكُربةِ المُطبِقةْ فتعلو وتهبُطُ منّا الصّدورُ ونهفُو وأبصارُنا مُطرِقةْومن خلفِ هذا الخضمّ البعيدِ نُحييّكِ بالدَّمعةِ المُحرقةْجهادُكِ أورى زِنادَ النفوسِ فطارت شرارتُها مُبرقةْجهادٌ ملأتِ به الخافِقَينِ فضاقت به القوّةُ المُرهِقةْوسَطّرتِ آياته في الخلودِ بأرواحِ أبنائكِ المُزهََقَةََعبد الباسط الصوفي المنتحرفي تاريخ حمص الثقافي، ثمة شاعر آخر لا يقل أسطورية ومأسوية عن ديك الجن وهو عبد الباسط الصوفي الذي ولد سنة 1931، وعين معلماً في مدرسة قرية «عز الدين» ثم مدرساً للغة العربية في متوسطة قرية فيروزة. في سنة 1952، انتسب إلى المعهد العالي للمعلمين ونال شهادة الليسانس في الآداب سنة 1956، ثم واصل مهنته التدريسية في مختلف الثانويات السورية حتى شهر فبراير 1960 حين أوفدته وزارة التربية والتعليم في بعثة إلى «غينيا» لتدريس العربية وهناك مات منتحراً (في 20 تموز سنة 1960) في المستشفى الذي نقل إليها أثر إصابته بانهيار عصبي شديد، ونقل جثمانه بحراً ودفن في مسقط رأسه حمص بعد شهرين من وفاته. وبعد مرور سنة صدر له ديوان «أبيات ريفية 1961» عن دار «الآداب» في بيروت.عاش الصوفي انطوائياً وانعزالياً، يألف الوحدة ويأنس إلى الصمت، تميل نفسه إلى العزلة ضمن حدود ذاته المتعبة، بالإضافة إلى أنه كان شديد الحساسية، حاد الطباع، يتأثر بأصغر الأمور، وينفعل لأتفه الأسباب. بعد موته ازادادت التأويلات والتحليلات عن أسباب انتحاره، فهو من قلة أسماء شعرية في العالم العربي اختارت الموت طوعاً وانضمت إلى ما يسمى «الموت النبيل».زمن السجنمن شعراء حمص أيضاً ممدوح السكاف ووصفي قرنفل الملقب بـ{شاعر حمص»، وعمر الفرا الملقب بـ{شاعر البداوة الحمصي» ويقال إن محافظة «حمص» تكاد تنطبع شعرياً باسمه، وهو الذي تميز بقصائده البدوية وبإلقاء مملوء بالشغف والإتقان، وخير مثال على ذلك قصيدة «قصة حمدة» التي جعلت له جمهوراً عربياً كبيراً بدأت علاقته به بعد هذه القصيدة الشعبية، باللهجة البدوية الأصيلة التي تتحدث عن معاناة فتاة بدوية أرادت عائلتها إجبارها على الزواج من ابن عمها فتقول له:ما أريدك/ ما أريدك حتى لو/ تذبحني بيدك/ ما أريدك/ ابن عمي../ ومثل اخويَ/ ودم وريدي/ من وريدك/ أما خطبة/ لا يا عيني/ لاني نعجه/ تشتريها ولاني عبده/ من عبيدك/ ما أريدك.لعل أبرز الشخصيات الشعرية في زمن السجون البعثية الشاعر فرج بيرقدار الذي قضى نحو 13 عاماً في السجن بتهمة الولاء لتنظيم يساري، وأحيل بعد ست سنوات من اعتقاله إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق (وهي محكمة استثنائية) فأصدرت حكماً ضده بالسجن 15 عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية.قامت حملة دولية واسعة للمطالبة بالإفراج عن بيرقدار، شارك فيها مئات الكتاب والفنانين العالميين، وشخصيات حقوقية وسياسية عدة، بالإضافة إلى المنظمات المعنية مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، صحافيون بلا حدود، نادي القلم العالمي، منظمة العفو الدولية..الخ، إلا أن السلطات السورية لم ترضخ لضغوط الحملة إلا بعد مضي قرابة 14 عاماً من الاعتقال، أمضاها الشاعر بين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري.بعد الافراج عنه لجأ بيرقدار الى البلاد الاسكندنافية وأصدر كتابه «خيانات اللغة والصمت» عن تجربته في السجن، وقبل مدة أصدر مجموعته الشعرية «أنقاض» وتضمنت قصائد كتبت في مرحلة السجن أيضاً وتعبّر عن الواقع المرير الذي عاشه الشاعر... ويعتبر بيرقدار نموذحاً صارخاً لواقع ما يقترفه نظام البعث في سجونه، إذ بقي في ظلمه حتى انفجر الشعب في وجهه.يبقى أن حمص الشعراء والثورات وبطلة الأخبار العاجلة هي أيضاً مدينة الطرائف وخفّة الدّم، والضحك الذي يشير إلى انتصار الإنسان على رغم كل ما يحيق به، ويضحك كثيراً من يضحك أخيراً.