أستاذ الفلسفة الإسلاميّة في جامعة القاهرة د. عبد الحميد مدكور: أرفض التظاهر المسلّح... والخروج السلميّ على الحاكم الجائر واجب

نشر في 06-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 06-08-2011 | 22:02
د. عبد الحميد مدكور أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم- جامعة القاهرة وعضو مجمع اللغة العربية، إحدى الشخصيات البارزة في العالم العربي في الحقل الفلسفي وأحد أبرز المهتمين بعملية التنظير السياسي والتأصيل لنظريات السياسة والحكم ودور الشريعة الإسلامية في إقرارها. له آراء هامة حول الثورات العربية الحالية والرؤية الإسلامية لها. «الجريدة} التقت د. مدكور ورصدت آراءه من خلال الحوار التالي.

ماذا نعني بالثورة، وهل كان الإسلام في حدّ ذاته ثورة على الظلم والانحرافات الاجتماعية وإقامة دولة العدل؟

تعني الثورة التغيير الكامل للمجتمع، وقد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية... وقد تأتي للتصحيح أو للانقلاب. أما الإسلام ففعلاً كان تغييراً شاملاً وتصحيحاً للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية كافة في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان ثورةً شاملة لتصحيح أوضاع الإنسانية وإقامة دولة العدل في العالم.

حتى لو لم يُستخدم مصطلح الثورة في صدر الإسلام، طبّق الأخير المفاهيم الثورية كافة في التغيير إلى الأصلح لما كان عليه شكل الأمم والأفكار والديانات في هذا الوقت، فقد كانت الأمم السابقة مثل الفرس والهنود والمصريين القدماء تنظر إلى الناس على أنهم فئات وطبقات، وكان العبيد في روما القديمة يتصارعون بالسلاح ويقتل بعضهم بعضاً لمجرد إرضاء أسيادهم، فجاء الإسلام للقضاء على ذلك الظلم السياسي والاجتماعي وإقامة ميزان العدل وإقرار مبدأ المساواة والعدالة والحرية بين الناس.

حق التظاهر

هل كفل الإسلام حق التظاهر ومتى يتظاهر المسلم وضد من؟

حق التظاهر مكفول شرعاً للمسلمين فهو إحدى وسائل إبداء الرأي والإصلاح والحصول على الحقوق، ويعد تطبيقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذا قصّرت فيه الأمة فهي آثمة. فالإسلام كفل التظاهر السلمي وأعطاه للمسلمين كاملاً للتعبير عن الرأي والشعور بالحرية والحصول على الحقوق بالوسائل السلمية، والتي هي كثيرة اليوم، سواء التقليدية منها كالخطابة والكلمة والدعوة والكتابة في الصحف، أو عبر استغلال وسائل التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي كما حدث ويحدث في الثورات العربية الحالية.

ولعلّ التظاهر السياسي هو الأكثر وجوداً على الساحة في العصور كافة، خصوصاً اليوم، ويعطي الإسلام للمسلم حق التظاهر السلمي في وجه الحاكم الظالم المستبد.

هل يجوز الخروج على الحاكم ومتى، وهل ثمة ضوابط لذلك؟

لا يجوز ترك الحاكم الظالم يستبد بحكم المسلمين، بل يجب الخروج عليه بالتظاهر السلمي إذا سُدّت أمام المجتمع الطرق كافة للتوصّل معه إلى حلول إصلاحية لخدمة مجتمعه وحكمه بشرع الله عز وجل ومبادئ الإسلام. كذلك يجب قبل الخروج على الحاكم وإعلان العصيان المدني أن يوجّه العلماء والمفكرون وأصحاب الرأي النصح والإرشاد للحاكم علّه يرتدع ويعود إلى الطريق الصحيح في حكم بلاده ويسمح بالحريات وإقامة العدل وتداول السلطة... إلخ، وإن لم يأتِ هذا النصح بنتائج تخدم المجتمع كان الخروج على هذا الحاكم الظالم واجباً لمواجهة ظلمه ومنعه من الاستئساد على شعبه.

لكن تجب الإشارة إلى أن الثورة لا بد من أن تكون آخر الدواء الذي لا يُعطى للمجتمع إلا بعد استنفاد الأدوية الأخرى كافة، ونفاد الصبر وظهور فساد الحاكم في كل مكان، ولم يسمع لأصوات العقلاء في الأمة، عندها فلتبدأ الثورة على هذا الحاكم مع الحرص على أن تكون سلمية.

تظاهر مسلح

معنى ذلك أنك ترفض الخروج على الحاكم بقوة السلاح والتغيير بالسيف.

أرفض بشدة التظاهر المسلّح، وهذا هو منهج أهل السنة، لأنه قد يؤدي إلى أخطار على المجتمع أشدّ من الخطر القائم، فلا يصحّ أن أغيّر منكراً بمنكر أشدّ منه، يؤدي إلى فتن ومضار شديدة تلحق أضراراً سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية بالمجتمع وهو التظاهر المسلح في الخروج على الحاكم الظالم. أما التظاهر السلمي فلا يصحّ لأحد أن يتوقّف فيه وإنما يجب أن تفتح أبوابه وأن تفتح الأبواب السابقة عليه كي نتمكّن من مواجهة الأخطاء والقصور في أي موقع من مواقع الحياة الاجتماعية ليصحّح المجتمع مسيرته ويصوب أخطاءه ويصل إلى حد الكمال في الحياة التي يسعى إليها.

لكن إذا بادر الحاكم شعبه بالاعتداء وواجه ثورته السلمية بالعنف كما حدث في ليبيا وسورية، فما الرأي الشرعي في ذلك؟

الحاكم الذي يقتل شعبه آثم ومجرم في نظر الشريعة والإنسانية، والشعب المقهور بقوة السلاح والذي يواجه حاكمه ثورته السلمية بالعنف والقتل والترويع كما يحدث في الثورة الليبية والسورية واليمنية، من حقه الدفاع عن نفسه ومواجهة عنف الحاكم بعنف مضاد. لكن يجب أن يكون التظاهر المسلح ضد هذا الحاكم الجائر هو الخيار الأخير، وأن تتقدّم عليه الخيارات السلمية للتغيير كافة، فإذا انعدم المجال لمقاومة فساد هذا الحاكم واستخدامه القوة المفرطة ضد شعبه ولم يتوافر إلا اللجوء لمبادلته العنف بعنف فليكن، لكن في أضيق الحدود، وإذا رُدع الحاكم الظالم ولو جزئياً نعود سريعاً إلى التعبير السلمي حتى نحقّق الهدف من الثورة في النهاية.

نظريّة سياسيّة

يرى البعض أنه لا تتوافر في الإسلام نظرية سياسية كاملة، فما تعليقك على ذلك؟

ادعاءات باطلة، فالإسلام لم يضع نظرية سياسية تفصيلية كي تكون خاضعة لزمن دون آخر، وإنما وضع قواعد عامة للمعاملات والنظريات السياسية صالحة لكل زمان ومكان، ذلك عبر تأسيس إطار عام للعدالة والحرية والمساواة وإعطاء الحقوق ونصرة المظلوم والتنظيم السياسي في الحكم، وهذه كلّها أهداف إسلامية في السياسة الشرعية الإسلامية، ومع تغيّر العصور تتغيّر الوسائل ولا تتغيّر الأهداف، فلا فارق في أن يكون لدينا حكم بالشورى أو الديمقراطية بمعناها ومفاهيمها الصحيحة فهماً ينطلق من رحم واحد هو رحم العدل السياسي في المجتمع، أو أن يكون برلمان واحد للأمة أو برلمانان أو مجلس شورى واحد أو مجلسان أو مجالس تشريعية صفتها كذا وكذا أو نظام حكم بعينه... إلخ، وإنما الإسلام يطالب الأمة باتباع مبادئه العامة في الحياة السياسية لتحقيق العدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة ومواجهة الفقر... ذلك كلّه يصبّ في إطار النظرية الإسلامية للحكم وما خالف لا يكون حكماً إسلامياً، فالمهم هو تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية بغض النظر عن نوعية الوسائل.

ما هي واجبات الحاكم في الإسلام؟

سلطة الحاكم في الإسلام مشروطة وليست مطلقة، وليس من حق الحاكم أن يعبث بمقدرات شعبه ويظلمه ويحتكر ثرواته فهذا أمر محرم شرعاً، أضف إلى ذلك أن سلطة الحاكم المسلم على شعبه مشروطة بإقامة العدل وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية بين الجميع، وإقامة الدولة على الشورى والديمقراطية وتحقيق المبادئ الإسلامية في إقرار الحقوق والمواطنة الكاملة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتكريس الإصلاح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع. فإذا قام الحاكم بذلك كله في الدولة كان حاكماً إسلامياً وكانت الدولة إسلامية بالمقاييس كافة، وإذا حاد الحاكم بحكمه عن ذلك كما يحدث اليوم في معظم البلدان العربية فقد ابتعد بالحكم عن النظام الإسلامي ويجب تقويمه ونصحه ومواجهته بالطرق التي تردع هذا الظلم والفساد وتساعد على تطهير البلاد من ظلمه وإقرار العدل والحرية.

هذا هو الأساس الإسلامي للحكم وهذا هو ما علّمنا إياه ديننا وظهر جلياً في أول خطبة لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبي بكر الصديق، فعندما بويع بالخلافة بعد بيعة السقيفة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»، وفي هذه الكلمات الموجزة تتضح سلطة الحاكم وشروطها وأنها مقيدة بقيام الحاكم بهذه الواجبات وإلا كان الخروج عليه هو الواجب.

هل تعطيل فريضة الشورى بمعناها الصحيح كان السبب المباشر في اشتعال فتيل الثورات العربية؟

بالتأكيد، فمبادئ الإسلام التي وضعتها الشريعة الإسلامية للحكم في الدولة الإسلامية وفي اختيار الحاكم غيبت عمداً وجُمدت بفعل فاعل في العالم العربي خلال العقود الأخيرة، لأن النظم السياسية العربية همشت الشورى والديمقراطية الصحيحة وتعاملت مع شعوبها بديمقراطيات خاصة صنعوها هم لأنفسهم، وتحوّلت الساحة العربية إلى مجتمع ديكتاتوري غابت فيه الحريات وحقوق الإنسان وتعرّضت الشعوب للقمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتكريس الثروة والسلطة في يد بعض الأفراد.

هكذا أدّت هذه الأمور كافة المتنافية مع مبادئ الشريعة إلى اشتعال فتيل الثورات العربية التي لن تهدأ إلا بعموم التحرر في العالم العربي، وحصول الشعوب العربية على حرياتها كاملة، وبناء الدولة العربية الجديدة على أساس من العدالة والكرامة والبناء للمستقبل العربي بشكل صحيح.

يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل عن نظام الحكم في الإسلام وكيف مورست فيه الحريات ونظام الدولة الديمقراطية؟

لا بد من أن نعود دائماً عند المحاولة للبحث عن أطر مبادئ الحكم التي أقرها الإسلام ومارسها وأصبحت صالحة في كل زمان ومكان، وبالعودة إلى الدولة الإسلامية الأولى بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أول خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأتي من خلال الانتخاب المباشر والاقتراع الحرّ بين الصحابة رضوان الله عليهم وإن اختلفت الطريقة كما يحدث اليوم ولكن الهدف نفسه. فالرسول (صلى الله عليه وسلم) طلب من أبي بكر إمامة المسلمين ولم يوله خليفة من بعده ولما تُوفي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، اجتمع الصحابة واختاروا أبي بكر، ولما شعر أبو بكر بدنو أجله رشّح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعندما  تولى الفاروق عمر وطعن من أبي لؤلؤة المجوسي رشّح ستة من الصحابة ليختار منهم المسلمون خليفتهم. وتعد هذه طريقة ثالثة في الحكم مارسها المسلمون الأوائل، وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه حدثت الفتنة الكبرى ووقع أول انقلاب سياسي في الدولة الإسلامية، واستشهد عثمان وعاد المسلمون إلى الطريقة الأولى وهي الانتخاب والشورى واختاروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خلال الشورى. بذلك نرى أن المسلمين في الدولة الإسلامية الأولى مارسوا ثلاث طرق لاختيار الحاكم وكلّها طرق ديمقراطية منطلقة من الشورى الإسلامية.

الأحزاب السياسيّة

كيف أسّس الإسلام لمنهج المعارضة وهل عرف المسلمون الأوائل المعارضة السياسية؟

أسّس الإسلام لمنهج المعارضة السياسية وتراث المسلمين في ذلك الأمر كبير جداً، وفي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع بعض الصحابة تأصيل لمنهج المعارضة السياسية للحاكم المسلم حينما قال له الصحابة: «لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بحد السيف»، وكان ذلك علناً بحضور الصحابة ولم ينكره لا عمر الخليفة الراشد ولا أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) الذين كانوا مجتمعين، وهذا اتفاق منهم على أن ذلك مشروع. بل إن الدولة الإسلامية الأولى، خصوصاً بعد الخلفاء الراشدين، عرفت الأحزاب السياسية المعارضة والمجتمع المدني. فالمعتزلة كانت حزباً سياسياً معارضاً ولها مواقفها وأيضاً الخوارج وبقية الفرق... هؤلاء كلّهم واجهوا الحكام وكوّنوا في عصرهم ما يُعرف اليوم بالمجتمع المدني، فالإسلام ترك تراثاً سياسياً كبيراً يصلح لاستخلاص نظريات سياسية صالحة لكل عصر.

هل ثمة مبادئ واضحة وضعها الإسلام لشكل الاعتراض السياسي، وكيف أصّلت الشريعة لهذا الأمر من القرآن والسنة النبوية؟

فعلاً ثمة مبادئ ونصوص شرعية وضعها الإسلام لكفالة حق المعارضة السياسية. فإذا تأملنا في جوانب الشريعة الإسلامية نجد أن ملامح المعارضة السياسية قد امتازت بعدد من الخصائص والميزات، أبرزها جعل الاعتراض السياسي من قبيل الأمور الدينية، انطلاقاً من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»، ونصيحة الحكام، وحضّهم على المعروف، ونهيهم عن المنكر إحدى أعلى المراتب في الشريعة، وفيها جاء الأثر الذي رواه أبو إمامة الباهلي وحسَّنه البغوي في شرح السنة: «أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرمي الجمرة الأولى، فأعرض عنه، ثم قال له عند الجمرة الوسطى فأعرض عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز قال: أين السائل؟ قال: أنا ذا يا رسول الله قال: أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر».

المعارضة السياسية في الشريعة الإسلامية واجبة من زاوية النصيحة للأمة وللسلطان، وقد جاء في الأثر الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي تميم الداري: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»، وأن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للأئمة وللسلطان يجعل من المعارضة السياسية واجباً على الأمة كلها، وهو واجب كفائي، كما يقول علماء الأصول، يسقط عن الكل إذا قام به البعض، وكان كافياً للأمة في هذا المجال، فليس الأمر مجال رغبة فردية ودافع شخصي، وإنما هو من قبيل الواجبات الشرعية والدينية على الأمة كلّها.

ولأن المعارضة السياسة ترتكز على أسس دينية ولها أبعاد شرعية، فإن دوافعها تختلف عن نظيرتها في ظل القوانين الوضعية، ذلك أن في ظل هذه القوانين لا يوجد ما ينظّم دوافع الاعتراض السياسي، أما في ظل الشريعة الإسلامية فإن الاعتراض محكوم بضوابط شرعية، أبرزها: خروج قرار الحاكم عن مقتضى الشرع، أو انتهاك القرار لمصلحة راجحة للمسلمين، وغير ذلك من أمور ذات الصلة بعموم الأمة ومجمل الشريعة، ولا يقف الحد عند مجرد الرغبات الشخصية والطموح التنافسي لأحزاب المعارضة السياسية، ولا بد من أن يكون هدف المعارضة السياسية هو تقويم النظام الحاكم، وإلزامه بمقتضيات الشريعة من حيث التقيّد بالشرع والعمل لصالح الأمة، ولا تعرف الشريعة الإسلامية الاستقطاب الحادث في غالبية الأنظمة السياسية الحالية، وانقسام الفاعلين السياسيين إلى فريقين: فريق الحكم، وهو المستحوذ على السلطة والمحتكر لها على الدوام، وفريق المعارضة، الذي هو على الدوام يقبع في خانة الاعتراض، لكن الشريعة الإسلامية الحريصة على وحدة الداخل فتحت باب المعارضة السياسية على مصراعيه بضوابط مرعية، بناءً على نظر ورؤية لمواقف وقرارات فريق السلطة، وليس كموقف مبدئي ثابت ومستقر، فكل الأمة من حقّها أن تعترض وأن تشارك في الحكم من دون اصطفاف ثابت لا يتغيّر.

ضوابط المعارضة

ما أهم الضوابط التي وضعتها الشريعة لممارسة المعارضة السياسية؟

يأتي في مقدّمة هذه الضوابط التي يجب مراعاتها عند ممارسة المعارضة ألا تمس أو تخرق الثوابت والأصول العقدية المتّفق عليها بين علماء الشريعة، كأن تكون ناقضة للولاء والبراء أو فيها استعانة بأعداء الأمة، وتجنّب الوقوع في مخالفات شرعية قولية وعملية، ومن ذلك الاتهامات الباطلة التي تستهدف تشويه صورة الفريق الآخر لدى الرأي العام، وعدم وجود ضرر أكبر يغلب على الظن أن يقع على الأمة بسبب الاعتراض ذاته، أو المظهر والوسيلة المعبّرة عنه، ومراعاة المصالح والمفاسد المحقّقة من وراء الوسيلة المتبعة. فالقاعدة المستقرة في الشريعة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ومراعاة التدرّج في عملية الاعتراض، فتبدأ بالقول والنصح والتذكير، ثم الممارسة العملية المتدرجة...

في ظل الثورات العربية، كيف ترى المستقبل وما هي آليات الإصلاح المطلوبة في العالم العربي؟

المستقبل سيكون مشرقاً بعودة الأمة العربية بعد تحرّرها إلى ما يجب أن تكون. أما عن آليات الإصلاح بعد نجاح الثورات، فيجب أن تنطلق من مبادئ الشريعة وتستند إلى قواعدها، ويجب اللجوء في تنفيذ الإصلاح العربي إلى أهل الذكر والعلم وإلى الذين يحسنون التعبير عن روح الأمة، والاستعانة بهم في المجالات الشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية للنهوض بالبلدان العربية وبناء مستقبلها على أطر صحيحة تسمح لها بالانطلاق والعودة إلى مكانها الصحيح.

تحديد مدة الولاية

هل كان للأمة أن تشترط على الخليفة عند بيعته تحديد ولايته بمدة محددة؟

لا نعلم ما يدلّ على منع هذا الأمر وإن كان لم يعهد مثله في صدر الإسلام، لكن عدم حصول ذلك ليس دليلاً على المنع، لأن الأصل في ما ليس من الأمور التعبدية عدم التوقّف، ولا يمكن أن يقاس الرئيس المنتخب في عصرنا الحالي على الخليفة المعهود في العصر الأول، لأن الأول محكوم عليه بالنظم الدستورية ومراقب من طرف النواب والسلطات القضائية، فإن حاد عن المنهج المرسوم له نزعت منه الثقة وأمكن عزله حسب النظم المعروفة اليوم، ولا يترتب على عزله في هذه الحال ما قد يترتب على عزل خليفة، فلا دماء تسفك عند حجب الثقة في البرلمان، أو عند عزل الرئيس أو رئيس الوزراء.

كذلك لا يمكن أن يقاس الاشتراط على الرئيس قبل انتخابه على الخروج على خليفة المسلمين الشرعي الذي أخذ الخلافة بالطرق الشرعية، فهذا يحرم الخروج عليه ما دام موحداً مقيماً للصلاة. أما الرئيس المنتخب فهو ملزم بما اتفق عليه مع الشعب الذي انتخبه، ولا يعتبر الاشتراط عليه خروجاً، لأنه لم يتسلّم الحكم بعد، وعليه فإن المصلحة في هذا الأمر واضحة إن كان الشعب ينتخب رئيسه، لأن الرئيس لديه فترة عطاء في أيام قوته فإذا شاخ وضعف تولّى غيره من القادرين على أداء المهمة الرئاسية، وإذا اشترط هذا على الرئيس عند بداية توليه الحكم فلا يكون في أخذه منه بطريقة التداول السلمي المعروف خروج على ولي الأمر. لكن الواقع المعيش يُلاحظ فيه بعض الأمور التي يتعين على المسلمين النظر فيها، من بينها أن الراغبين في التداول السلمي يحرصون على الإمارة باعتبارها مغنماً وكل يريد أخذها فترة ليستفيد من أرباحها ولا يحرص جميعهم على القيام بالمهمة الحقيقية التي هي تنفيذ أمر الله في أرضه وإقامة دينه وتحكيمه وتطبيقه في شعب الحياة كلّها، وما يلاحظ أيضاً أنه قد تكون في برامج بعض من يترشّح لأخذ السلطة مستقبلاً أمور لا يقبلها الشرع من نظريات وأيديولوجيات مستوردة من الشرق أو الغرب، فلزم على أهل الإصلاح والعاملين للإسلام السعي في هداية الشعب كله أتباعاً ومتبوعين كي لا يترشّح لهم عن طريق صناديق الاقتراع من يحكم الدولة بخلاف الشرع، ويتعيّن حوار أصحاب النظريات الفاسدة دائماً وبيان الحق لهم حتى تستقيم الأمور في المجتمعات العربية بالطريقة المرضية والمنطلقة من ثوابت الإسلام.

back to top