ثورة روسيا ستنبثق من مواقع تويتر و فيس بوك و يوتيوب
بعد الاحتجاج الثاني الذي شهد نزول 50 ألف شخص إلى ساحة بولوتنايا في موسكو، بدأ الكرملين يقدم تنازلات حقيقية فاقترح قانوناً لتسهيل مشاركة جماعات المعارضة في الانتخابات الحقيقية بدل الاكتفاء بالانتخابات الافتراضية على الإنترنت.
عندما نشأت الحركة الاحتجاجية في روسيا خلال الشهر الماضي، حين نزل عشرات الآلاف من الأشخاص إلى شوارع موسكو، كان يكفي الولوج إلى شبكة الإنترنت لندرك أن معظم المحرّضين على الاحتجاج كانوا من مستخدمي الشبكة، فلا شك أن عددهم هو بالمئات أو حتى بالآلاف، وهم أشبه بجيش من العاملين الافتراضيين الذين يعملون على تعبئة الناس ودعوتهم إلى الثورة في القرن الحادي والعشرين.ولا شك أن طرفاً معيناً كان يسهل التواصل بين جماعات "الفيس بوك"، ويحضر الفيديوهات على موقع "يوتيوب"، ويسجل الملاحظات على موقع "تويتر"، ويروج للتحرك على المدونات. هذا ما حصل فعلاً. عشية ليلة ثلجية من شهر ديسمبر، اجتمع عشرات من هؤلاء الناشطين في حانة اسمها "ماسترز كايا"، مقابل مقر الكرملين، فحولوا المكان إلى مشغل صاخب وثوري.في تلك الفترة، حصل أكبر احتجاج ضد حكومة فلاديمير بوتين بعد يومين فقط، وقد استفزهم رئيس الوزراء (الذي قال إنه نادراً ما يستعمل الإنترنت) بما يكفي حين نعتهم بالهمجيين وشبههم بمجموعة من القرود كتلك التي يتحدث عنها روديارد كيبلينغ في "كتاب الغابة". كان اجتماعهم في حانة "ماسترز كايا" (اسم الحانة مناسب لأنه يعني "ورشة عمل") يتجه إلى إثبات أن بوتين كان على خطأ كبير.لم يكن المتطوعون أفضل تنظيماً من بيروقراطيين كثيرين في روسيا فحسب، بل كانوا متفانين أكثر منهم أيضاً. قال رستم دافيدوف، 42 عاماً، وهو منتج تلفزيوني لا يهتم بمظهره كثيراً: "لم أنم منذ ثلاثة أيام". صرح دافيدوف لصحيفة "تايم" بأنه يعمل نهاراً في قناة تلفزيونية تديرها الدولة، حيث يرتدي بدلة وربطة عنق، بينما يرتدي ملابس قطنية مريحة ليلاً ويدخل إلى موقع "فيس بوك" للتنسيق مع جماعات المعارضة، وبعد أسبوعين على اتباع هذا الجدول المتناقض، بدا الإرهاق واضحاً عليه ولكنه رفض الاستسلام قائلاً: "لدينا عمل كثير نقوم به".جلس بعض الطلاب الجامعيين حول إحدى الطاولات في تلك الحانة وكانوا يقصون الشرائط البيضاء (رمز الحركة) ويربطونها بطريقة دقيقة وجميلة. (في تعليق لاذع آخر، قال بوتين مباشرةً على الهواء، قبل أسبوع على ذلك، إن تلك الشرائط تشبه الواقيات الذكرية المتدلية!).بالقرب من المدخل، انشغل فنانون متمرسون بالرسم على الجدران بتلوين الملصقات التي تصور بوتين مع قرون في رأسه، وكُتب عليها شعار "اذهب لترعى في بلد آخر!". كذلك، نُشرت مجموعة هائلة من الملصقات التي تُظهر وجه بوتين وسط دائرة حمراء كبيرة على شكل رمز "ممنوع التدخين". (كان معظم الموجودين يدخنون في ذلك المكان وكان الدخان السام يتصاعد من الحانة، حيث كانت الإضاءة خافتة جداً).في مرحلة معينة، ذهب أحد المنتجين العاملين في قناة "بي بي سي" لمقابلة ماريا بارونوفا، عالمة كيمياء كانت قد تطوعت للعمل كمحررة صحافية للحركة. سألت بارونوفا عن هوية المسؤولين عن الحركات الاحتجاجية الخاطفة التي تُنظَّم في مكان معين وتنسحب قبل وصول الشرطة، فرفع ثمانية شبّان وشابات عصريين أياديهم. كانت كل طاولة تضم فريقاً خاصاً من الناشطين وكان الوقوف بين تلك المجموعات يشبه الوجود ضمن تنظيم مختلط، حيث ينفذ كل فريق مهمته الخاصة لكن يبقى هدفهم واحداً: التغيير.تجاوزت المشاريع التي كانت قيد النقاش في تلك الليلة حدود الملصقات والحركات الاحتجاجية الخاطفة، بل كان الهدف منها إنشاء نوع من الديمقراطية الافتراضية في روسيا، ما يسمح للناس بالتسجيل في موقع إلكتروني حديث مع التأكد من هوياتهم ومنحهم فرصة التصويت المباشر لمصلحة قادة حركة المعارضة وبرامجهم. يعتبر ألكسي نافالني (صاحب مدونة كان في طليعة الداعمين للاحتجاجات) أن المشروع هو أشبه بـ"فيس بوك مبتكر"، وهو يستبعد المفهوم القائل إن مزاولة السياسة عبر غرف الدردشة الإلكترونية لا تؤثر فعلياً في عالم الواقع. بحسب قوله، لم يعد الشرخ بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي كبيراً في الوقت الراهن. في شهر ديسمبر، نظمت المعارضة أكبر احتجاجات شهدتها روسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وقد فعلت ذلك عبر الوسائل الإلكترونية وعلى رأسها موقع "فيس بوك"، إذ قال نافالني لصحيفة "تايم": "أظن أن المحتجين كانوا حقيقيين بما يكفي".بعد الاحتجاج الثاني الذي شهد نزول 50 ألف شخص إلى ساحة بولوتنايا في موسكو، بدأ الكرملين يقدم تنازلات حقيقية فاقترح قانوناً لتسهيل مشاركة جماعات المعارضة في الانتخابات الحقيقية بدل الاكتفاء بالانتخابات الافتراضية على الإنترنت، لكن سرعان ما برزت مشكلة جديدة: من هم قادة حركة المعارضة؟ يقول نافالني إن المعارضة لا قيادة لها: "لا أحد يملك الآن تفويضاً حقيقياً للتفاوض باسم جميع المحتجين. إذا قال أحد إنه يتكلم باسمهم، فسيكون هذا الشخص مجرد ثرثار متغطرس في هذه المرحلة، بمن فيهم أنا". أفضل ما يمكن فعله للحصول على ذلك التفويض هو إنشاء ديمقراطية موازية على الإنترنت، حيث يستطيع المحتجون اختيار فريق من القادة.حصلت محاولة واحدة لإجراء انتخابات مماثلة في أواخر شهر ديسمبر عبر استعمال خدمة التصويت على الإنترنت (SurveyMonkey.com) لكن انتهت التجربة بفشل ذريع. حلّ نافالني في المركز الأول، كما كان متوقعاً، لكن جاء في المركز الثاني المحتال سيرغي مافرودي الذي لا يرتبط بحركة المعارضة بأي شكل، وجاء في المركز الثالث رجل دخيل آخر، وهو الزعيم النازي الجديد ماكسيم مارتسينكيفيتش الملقّب باسم "تيساك" أو الفأس. اعتبرت اللجنة التنظيمية التابعة للحركة، برئاسة نافالني، أن التصويت كان مزوراً فأُلغيت نتائجه، وبعد فترة قصيرة، بدأ أحد الخبراء البارعين في مجال تكنولوجيا المعلومات، وهو ألكسندر غورنيك (27 عاماً)، بتطوير موقع خاص لتجنب تكرار ذلك الإحراج، لكن في بداية شهر يناير، تطوع حوالي 60 شخصاً، بمن فيهم مجموعة من مهندسي البرمجيات، للمساعدة في بناء "الديمقراطية الإلكترونية"، وصرح غورنيك لمجلة "تايم" بأن المعايير الأساسية تتمحور حول البساطة وسرعة التنفيذ كي يتمكن الناس من التصويت بحلول وقت الاحتجاجات المقبلة المقررة في 4 فبراير.إن فكرة الديمقراطية الإلكترونية غير مسبوقة في روسيا، لكن هذه المشاريع معروفة في أجزاء أخرى من العالم باسم "الديمقراطية 2.0"، وهو مصطلح رمزي يعني السماح للأشخاص العاديين بالتأثير في عالم السياسة عبر الإنترنت.ظهر أشهر تطبيق خاص بهذا المشروع في عام 2009، عندما أنشأ الرئيس باراك أوباما خدمة خاصة بآراء المواطنين بعد تنصيبه مباشرةً، فكانت تلك المحاولة جريئة فعلاً من أجل جمع أفكار سياسية من الناس عبر الإنترنت، وقد حصد المشروع 44 ألف اقتراح ثم خضعت تلك الاقتراحات لتصويت شارك فيه 1.4 مليون مستخدم للإنترنت، لكن شكلت النتائج مصدر إحراج فعلياً، ليس بالنسبة إلى أوباما بل بالنسبة إلى المشاركين في التصويت.في ذلك الخريف، كتب الصحافي أناند غيريهاراداس في صحيفة "نيويورك تايمز": "وسط الانشغال الأميركي بحربَين ومشكلة الانهيار الاقتصادي، احتلت فكرة تشريع الماريغوانا المركز الأول بين الاقتراحات المفضلة. كذلك، جمع خيار إلغاء ميزة الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها "كنيسة دراسة المعرفة" (Scientology) أصواتاً أكثر بثلاثة أضعاف من تلك التي حصدها خيار زيادة التمويل لمعالجة أطفال السرطان!".من المنطقي إذن أن يشعر بعض قادة المعارضة الروسية بالقلق من الانتقال إلى "ديمقراطية إلكترونية" لأن هذا المشروع قد يفسد بسبب ارتفاع عدد المجانين والمخادعين على الإنترنت، فلا يتذمّر الكثيرون من فوز شخصية مثل كسينيا سوبتشاك (وريثة شهيرة تُلقَّب بباريس هيلتون روسيا) بأي استفتاء على الإنترنت، فهي تملك 300 ألف معجب على موقع "تويتر"، ما يساوي ضعف عدد مؤيدي نافالني. عن هذا الموضوع، يقول نافالني: "لكني أقول لهم إنه مجرد استفتاء. إذا كنتم تخشون أن تتغلب عليكم كسينيا سوبتشاك، فلماذا تطالبون بالرئاسة؟ إذا كنتم تخشون التصويت، فمن الأفضل أن تبقوا في منازلكم".في مطلق الأحوال، لا تملك المعارضة الروسية خيارات كثيرة عدا الطلب من مناصريها التصويت عبر الإنترنت لأن "ديمقراطية بوتين" عمدت إلى تهميشها، فحين حاول عدد من قادة المعارضة تشكيل حزب سياسي في الصيف الماضي، منعتهم وزارة العدل من التسجيل، وهكذا حُرموا من المشاركة في الانتخابات.كما أنهم لا يملكون خيار عقد اجتماع حقيقي يمكن أن يترافق مع انتخابات واقعية، وسيتطلب هذا الأمر استئجار مكان واسع بما يكفي لحشد المحتجين (مثل مدرج كبير)، لكن لا أحد سيجازف بإغضاب الحكومة من خلال تأجير مكان مماثل للمعارضة، ويضيف نافالني: "ستحضر الشرطة لتفسد التجمع حتماً".تأكدت تلك المخاوف عندما حاول الناشطون التجمع لليلة الثانية في حانة "ماسترز كايا"، بحلول منتصف الليل، حضرت الشرطة واعتقلت مجموعة من الناشطين واصطحبتهم إلى مركز الشرطة، ثم أطلقت سراحهم من دون توجيه التهم ضدهم.في هذا الصدد، تقول المتحدثة باسم الحركة بارونوفا: "كانت تلك الحملة مجرد عمل غبي يهدف إلى الترهيب". لكن نجحت تلك الحملة في تحقيق هدفها بنسبة معينة، فقد أُجبر الناشطون على البحث عن مكان آخر، بينما انسحب آخرون وفضلوا الاكتفاء باستعمال شبكة الإنترنت بكل أمان، ومن الواضح أن الشرخ بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي ليس ضئيلاً بقدر ما يدعي نافالني!