إيران والهروب إلى الأمام
يمكن اعتبار القصف الإيراني الحالي لمناطق كردستان العراق خطوة غير مدروسة تعبر عن تخبط إيراني واضح ليس له ما يبرره حتى لو أخذناها من زاوية الأمن الوطني الإيراني, فمن المعروف أن الحرب بين مقاتلي الأحزاب الكردية في إيران والقوات الإيرانية ليست وليدة الظروف الحالية، بل إن لها عمقا تاريخيا ممتدا لعشرات السنين تتعلق بالظروف السياسية والاجتماعية السيئة التي يعيشها الكردستانيون هناك.يظهر أن إيران وبكل الحكمة التي امتازت بها سياستها (منذ بداية ثورة الإمام الخميني حتى الآن) قد وقعت هذه المرة في شرك الشعور بالثقة المبالغ فيها, فالنقاط الكثيرة التي اكتسبتها في المنطقة على حساب انحسار الدور العربي والأميركي فيها جعلها تتعامل بما يمكن أن نسميه (بالكلاسيكية السياسية) في حل المشاكل بطرق مستهلكة غير مجدية, ويمكن أن يكون السبب في ذلك هو تقوقع السياسة الإيرانية على نفسها، وعدم مسايرتها للتغيرات التي طرأت على العالم والتي يبدو أنها لم تهضمها بشكل جيد.لقد أثبتت كل العقود المنصرمة أن التعامل العسكري مع الكرد في كل البلدان التي يسكنونها لم تحسم الموضوع لمصلحة حكومات هذه البلدان, فكلنا نتذكر الطريقة التي كان النظام العراقي يتعامل بها مع الكرد في كردستان العراق، والتي لم تسفر سوى عن استنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية لهذا البلد, وكلنا عاصرنا القتال الذي استمر لعقود بين الحكومة التركية ومقاتلي الـ»بي كي كي» الكردستاني، والذي أنهك الاقتصاد التركي وبشكل كبير أدى بحكومة التنمية والعدالة إلى أن تتناول هذا الملف في الآونة الأخيرة بأسلوب آخر، والانفتاح على هذه المشكلة بأساليب أخرى بعد أن خلصت لنتيجة فشل الحل العسكري معها, وفعلا فقد قطعت الحكومة التركية أشواطا كبيرة في هذا الصدد نتمنى أن تسفر عن حلول جذرية في المستقبل القريب. ومن هنا فإنه ليس من الحكمة أبدا أن تتعقب إيران أخطاء جيرانها، وتدفع أثمانا باهظة إلى أن تصل إلى قناعة التعامل السلمي مع هذه المشكلة, ولاسيما أن النظام السياسي في الدولة الإسلامية القديمة والتي تتبنى إيران فكرها الآن (باعتبارها جمهورية إسلامية) كان يعتمد على نظام الفدراليات التي كانت فيها الولايات تحكم من قبل أهلها، وهذا ما نلاحظه في تولي سلمان الفارسي ولاية بلاد خراسان عند فتحها من قبل الجيوش الإسلامية.الإيمان المفرط بالثقة بالقدرة على كسر سنن السياسة والتعامل الكلاسيكي مع الشأن السياسي وتناسي الظروف الزمانية والمكانية لها لن تجني منها الحكومة الإيرانية سوى فتح أبواب جديدة لمشاكل سياسية جديدة من المفترض أنها الأحرص على عدم فتحها، خصوصا في خضم التغيرات التي تشهدها المنطقة، والتي من المفروض على صانع القرار الإيراني التعامل معها بذهنية عملية أكثر من الجمود الفكري الذي تمارسه، والتي تظهر أن الإيرانيين لم يتخلصوا من أحلام الإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة.الواقع الجيوسياسي يظهر أن إيران، ورغم القوة العقائدية التي اعتمدت عليها في بناء دولتها الحالية فإنها تعاني نقاط ضعف كثيرة تهدد الواقع الذي يبدو قويا في الظاهر, فتعدد القوميات الموجودة في إيران إلى التعدد الديني والطائفي والعرقي والتي يسهل على أي جهة خارجية استغلالها وبأقل الكلف تدعو الحكومة الإيرانية إلى الهروب للأمام بإجراء إصلاحات مستعجلة تجنبها المصير الذي تلاقيه بعض الحكومات العربية في المنطقة لا أن تصدّر مشاكلها إلى خارج حدودها الدولية، وتحارب في لبنان مرة ومرة في سورية والآن في كردستان. هذه الأخطاء قد لا تدفع إيران ثمنها عاجلا، لكنها بالقطع تراكمات سوف تؤثر في الواقع السياسي الإيراني آجلا، وحينها لن تكون للترسانة العسكرية أي فاعلية في الوقوف ضد طوفان التغيير. * كردستان العراق – دهوك