الثورة الفرنسية... فلاسفة ينقذون أمة مهزومة(1/4)
فرنسا قبل الثورة... إمبراطورية على شفا الإفلاس مجروحة في كبريائها الوطني
بكل آلامها وآمالها، بخطواتها ومبادئها العظيمة وأخطائها الأعظم... مازالت «الثورة الفرنسية» التى اندلعت في 1789م تراود أحلام كثير من الثوار العرب، وعلى الرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان عليها، واختلاف الظروف والأزمنة، فثمة تشابه كبير في الأفعال «الغبية» للسلطة وأعوانها، وصرخة المظلومين القوية... جعل الثورات «الفرنسية» من قبل والعربية الآن «عنيفة وقوية»، إلى حد كبير.ورغم أن الثورة الإنكليزية أسبق ونتائجها أبقى فإن «الفرنسية» هي المتعلقة بالأذهان وهي الأم الشرعية لكل الثورات التي بعدها، فمن نبعها نهل الثوار ومن معينها تزود المتظاهرون بخطط وخطوات مواجهة قمع السلطة.فما إن رفع الشعب الفرنسي صوته، ارتفع هدير الثورة يحطم أمامه كل أصنام النظام، وخرجت إلى النور مبادئ الحرية والإخاء والمساواة تنير ظلمات أوروبا، التي كانت تحكمها أسر فاسدة بموجب تفويض إلهي تقول إنها حصلت عليه ولا تُسأل عما تفعل.مخطئ من يظن أن الثورة الفرنسية تفجرت جراء الشعور بالظلم والفقر والهزيمة من ضياع مستعمرات فرنسا فيما وراء البحار فقط، فكثير من الأمم تشعر بالفقر ولا تثور، ويقهرها الظلم ولا تغضب، وفرنسا لم تكن مختلفة عن غيرها من الأمم الأوروبية آنذاك، شعوب فقيرة مظلومة وحكام فاسدون مستبدون، لكن ما غير المشهد الفرنسي ودفع الشعب إلى الثورة كان كتيبة من ألمع العقول الفرنسية في كل المجالات الفكرية والفلسفية قادوا النهضة الأوروبية الثانية في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي.واستطاعت هذه الكتيبة التي ضمت موليير وفولتير وروسو ومونتيسكو ودريدور وكثيرين غيرهم إنارة عقول الفرنسيين، ومن خلفهم بقية الشعوب الأوروبية وبشروا بقيم جديدة تعلي من قيمة الإنسان وترسخ لحقوق المهمشين والمطحونين أمام قهر الظروف الاقتصادية وجبروت الملوك أنصاف الآلهة والكنيسة البطريركية التي كانت تبيع الإيمان بالمال.كان لهؤلاء الفلاسفة فرسان النهضة الدور الأكبر فى التمهيد للثورة، فحرثوا الأرض الفرنسية لاستقبال بذرة الثورة، وجاءت كتاباتهم للتبشير بالثورة، إضافة إلى الوضع الدولي المتصارع والمضطرب.دخلت فرنسا القرن الثامن عشر الميلادي تحت حكم أسرة البوربون التي وصلت إلى عرش فرنسا في عام 1589م، وكانت معروفة بميولها التوسعية داخل أوروبا ورغبتها في تحقيق ارتقاء العرش الفرنسي على جميع النظم السياسية في أوروبا باعتباره أكبر قوة سياسية، لذلك تعددت حروب فرنسا داخل أوروبا في ظل حكم البوربون.وفي بداية القرن السابع عشر الميلادي انغمس ملك فرنسا لويس الرابع عشر المعروف باسم الملك الشمس، في حروب أوروبية قاسية لتحديد وريث العرش الاسباني بعد وفاة ملك اسبانيا كارلوس الثاني وهي الحرب التي استمرت 14 عاما (1701-1714م) خرجت منها فرنسا شبه مهزومة، فقد أقرت دول أوروبا مرشح فرنسا فيليب الخامس (حفيد لويس الرابع عشر) بعد أن تنازل عن حقه في المطالبة بعرش فرنسا، ما يعني عدم توحيد فرنسا واسبانيا تحت عرش واحد كما كان يطمح لويس الرابع عشر.لم تهدأ الأجواء في سماء أوروبا المشتعلة دائما بنيران الصراعات والتحالفات التي ما تكاد تبرم حتى تفك وتعقد تحالفات جديدة مضادة، وبدأت نذر الحرب تتجمع من جديد في أوروبا بعد وفاة إمبراطور النمسا تشارلز السادس دون أن ينجب ذكرا فتولت العرش ماريا تيريزا (1717-1780م) وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أوروبية شرسة على أحقيتها في العرش وهي الحرب التي شاركت فيها فرنسا بثقلها طوال 8 سنوات (1740-1748م) وهي الحرب التي هزمت فيها فرنسا معنويا بعد تدخل انكلترا الى جانب النمسا وانسحاب بروسيا (ألمانيا فيما بعد).وكشفت هذه الحرب أمام صناع القرار في فرنسا أن انكلترا أصبحت هي العدو الرئيسي الذي يجب التعامل معه لضمان التفوق الأوروبي، لذلك لم يكن غريبا أن تبدأ فرنسا في الاستعداد لانكلترا في الجولة القادمة من الحرب التي أملت أن تسترد من خلالها كرامتها المهدرة في الساحة الأوروبية.وحين وافت سنة 1756 كانت أوروبا قد عرفت 8 أعوام من السلم الوهمي، فحرب الوراثة النمساوية لم تحسم شيئاً في نظر الساسة الأوروبيين، فقد تركت النمسا قلقة في بوهيميا وإيطاليا، وبروسيا قلقة في سيليزيا، وبريطانيا قلقة في هانوفر، وفرنسا قلقة في الهند.فالقواعد القديمة للعبة السياسية في أوروبا تغيرت، فقد ظهرت بروسيا كقوة فتية في عالم الجرمان، ونمى الجيش الروسي فأضحى الأكبر في العالم، وورثت انكلترا الامبراطوريات البحرية البرتغالية والاسبانية والهولندية، وتغذت الروح القومية الصاعدة في إنكلترا على أرباح التجارة وفرصها، وفي بروسيا على الحرب الظافرة، وفي فرنسا على تفوق ثقافي يمنح شعوراً غير مريح بالاضمحلال العسكري.وكان الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية قد انتهى إلى مأزق، فترقب الطرفان تحولاً في الحظ ليجددا حرب الثلاثين، طمعاً في الاستيلاء على الروح الأوروبية. واندلعت الحرب.حرب شرسة على كل الجبهات، كانت فرنسا على رأس معسكر ضم دول النمسا وروسيا والسويد في حين تحالفت انكلترا وبروسيا (ألمانيا فيما بعد) ودارت رحاها في ساحات أوروبا وأميركا والهند على مدار سنوات سبع (1756-1763م)، انتهت بكارثة على فرنسا فقد فقدت مستعمراتها فيما وراء البحار في أميركا والهند لصالح عدوتها اللدود انكلترا، ودشنت بروسيا كقوة رئيسية في أوروبا على حساب فرنسا، فيما شهدت فرنسا الراكعة صعود انكلترا كقوة استعمارية عظمى.سنوات الضياعخرجت فرنسا من حروبها المتتالية جريحة فاقدة لكبريائها، جيوشها مرهقة، وخزائنها خاوية، وشعبها طحنته الحروب المتواصلة والفقر المدقع، وأصبحت البلاد على بعد خطوة واحدة من الانهيار التام.كان التجوال بين القرى الفرنسية يجعل القشعريرة تتسلل إلى بدن المرء فمظاهر البؤس والفقر كانت في كل مكان، فالدولة قريبة من الإفلاس والملك لويس السادس عشر خاضع لزوجته ماري أنطونيت في بذخ الحفلات الصاخبة يتصامم عن صراخات شعبه ويتعامى عن فقراء القرى الذين هجروا الريف وجاؤوا إلى المدينة، والفقر في ركابهم.لم يستقبل الملك الفرنسي رعاياه بل استقبلتهم في مدينة النور الأحياء المظلمة الكئيبة التي تكدسوا فيها بالمئات منتظرين بصيصاً من الأمل مع كسرة خبز تأتي من القصر، فلم يأت منه إلا قصص إسراف الملك والملكة سليلة القصر الامبراطوري في فيينا، فقرر الشعب - الذي غذته كتابات عصر التنوير الفرنسي بسلاح العقل قبل سلاح البارود - أن يصنع مخرجاً لأزمته فنزل إلى شوارع باريس يجأر بالصراخ ولا مجيب.هذا في وقت ثارت ثائرة النخبة الفرنسية المثقفة على تردي الأوضاع داخل البلاد، وضياع هيبة فرنسا أوروبيا وتحولها إلى قوة من الدرجة الثانية، فانكفأت النخبة المثقفة التي مثلها فلوتير وروسو ومونتيسكو وديدور يبحثون عن الحل للخروج من النفق المظلم الذي دخلته فرنسا وبدا أنها لن تخرج منه إلا بأطروحات جديدة غير مألوفة، فقد كانت فرنسا في هذا الوقت مجتمعاً في أزمة لا يستطيع الخروج منها، فجاء المفكرون الفلاسفة الكبار باطروحات جديدة لعبور الأزمة الطاحنة، ومعظم هذه الأطروحات جاءت لإصلاح النظام الملكي من داخله لا بالثورة عليه، إلا أن تجاهل مطالب الإصلاح جعلت الأمور تسير في طرق لم يكن من المفترض السير فيها.عصر التنوير وجدت فرنسا المهزومة عسكريا بعض التعويض المعنوي في تفوقها الثقافي الذي بدأ مع فولتير أوفرانسوا ماري آرويه المولود في باريس في 21 نوفمبر 1694م لأسرة برجوازية، والتحق بكلية لويس لوغران اليسوعية.بعد تخرجه رفض فولتير أن يسير على نهج أبناء الطبقة البرجوازية من امتهان المحاماة، مفضلا حياة الصعلكة وإتيان المنتديات الأدبية على الحياة الرتيبة التقليدية.وكانت كتابته قصيدة ينتقد فيها أوضاع المجتمع الفرنسي كافية ليزج به في سجن الباستيل الرهيب مدة عام كامل وهو في السابعة عشرة من عمره. وعند خروجه ودع فرانسوا ماري آرويه اسمه الذي ولد به وتلقب بالاسم الذي سيعرف به على صفحات التاريخ «فولتير» .لم يكن فولتير فيلسوفا نموذجيا على شاكلة الفلاسفة المشغولين ببناء منهج عقلي وبناء فلسفي محكم بقدر انشغاله بهدم الثوابت والتقاليد البالية التي تمنع التفكير الحر من انطلاقته، فكان صراعه مع الكنيسة ليس باعتباره مهرطقا أو خارجاً عن تقاليد الكاثوليكية، بل كان هجوم فولتير منصباً على التدخل الكنسي في شؤون الحياة اليومية للفرنسيين، ومنتقدا الوجه القاسي للكنيسة الكاثوليكية التي لا تعرف التسامح.ويقول إن الخرافات هي من صنع وابتكار القساوسة والكهنة فهم الذين صنعوا علم اللاهوت كما أن الخلافات هي من صنع وابتكار اللاهوت وهي سبب النزاعات المريرة والحروب الدينية، وفضح فولتير المجتمع الفرنسي في كتابه «رسائل إنكليزية» الذي عرف فيما بعد بـ»رسائل فلسفية» وقارنه بالمجتمع الإنكليزي الذي تغنى بفضائله، وانتصر لوضع انكلترا المتقدم على حساب وضع بلاده المتأخر وصب جام غضبه على فرنسا والفرنسيين لأنهم يأنفون عن سلوك درب العقل والتسامح الديني.وقال: «في فرنسا يسود حكم إطلاقي مستبد، وطبقة نبلاء إقطاعية مغرورة بنفسها وعاطلة عن العمل، في فرنسا تجد التجارة محتقرة، والفلاح مسحوقا يئن تحت وطأة الضرائب المفروضة عليه من قبل الإقطاعيين، وفي انكلترا تجد حكم البرلمان السيد المستقل بعد أن قضوا على الاستبداد من خلال ثورتهم الشهيرة «ثورة كرومويل1666»، وتجد التجارة محترمة والفلاح غنيا وفخورا بوضعه وواثقا من نفسه، في فرنسا تجد الناس غارقين في المناقشات اللاهوتية العقيمة من نوع: هل هذا حلال أم حرام، نجس أم طاهر، مؤمن أم كافر، وفي انكلترا تجد المناقشات الفلسفية على طريقة فرانسيس بيكون ومنهجه التجريبي في العلم، أو طريقة جون لوك المنطقية المحسوسة لا التجريدية ولا الميتافيزيقية، أو طريقة نيوتن، ذلك العبقري العظيم الذي فسر لنا نظام العالم فقدره الإنكليز ورفعوه إلى أعلى مرتبة».بذلك كشف فولتير زيف المجتمع الفرنسي بكل عيوبه ونفاقه وزيفه وتخلفه، ويكفيه أنه قوض أركان صرح الخرافة من أساسها، فقد استغل مواهبه الأولى في المحاماة للدفاع عن قضايا العقل، فلو لم يكن فولتير مفكرا كبيرا لكان واحداً من أعظم المحامين في العالم، لذلك فقد كان تفنيده لفكر الخرافة ودفاعه عن قيم العقل والتفكير الحر قويا جذابا.مجنون جنيفإذا كان فولتير قد انتصر للعقل فإن قرينه في الشهرة وصديقه وعدوه فيما بعد جان جاك روسو انتصر للعاطفة والانفعالات البشرية وأسس ما بات يعرف بالتيار الرومانسي الذي سيطر على الفكر والأدب الأوروبي طوال القرن التاسع عشر، ويكفي أن أديب روسيا العظيم تولوستوي كان يضع قلادة عليها صورة روسو اعترافا بفضل هذا الرجل العظيم عليه. لم يكن أحد يتصور في أوروبا القرن الثامن عشر أن جان جاك روسو (1712- 1778م) المعروف بـ»مجنون جنيف» لغرابة أطواره، سيكون واحدا من أهم منظري الثورة إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، بل ان مؤلفه الرئيسي «العقد الاجتماعي» سيعد بلا جدال «إنجيل الثورة» الفرنسية.حياة روسو كانت السبب فيما ناله من تجاهل حينا وصخب وتقدير في أحيان أخرى، فـ»روسو» الذي ولد لأسرة تنتمي الى البرجوازية في مدينة جنيف، وهاجر إلى باريس حيث الأضواء والشهرة منخرطا في حياة الصالونات التي سيطرت على الحياة الثقافية الباريسية، وانغمس في تلك الحياة حتى الثمالة ثم انقلابه على هذا النمط من الحياة ووصفه بأقذع الألفاظ، بشكل فصله هو في كتابه الشهير «الاعترافات» الذي يعد نسيج وحدة في أدب السيرة الذاتية.فكان روسو غريباً يعيش وسط غرباء، ومن هنا جاءت عظمة ما طرحه وتجديده الفكري، بل هنا كانت نقطة التلاقي الأولى بين رجال الثورة وروسو فكما كان الأخير غريبا وسط مجتمعه، كان رجال الثورة غرباء عن عصرهم فتلاقى الغرباء، واعتبروا روسو صديقاً لهم رغم رحيله قبل الثورة بأكثر من عشر سنوات، فقد كان الثوار يرددون: «أنه كان في عصره من أنصارنا، أننا نحن الشيء الذي كان يريده، ونحن نحقق ما كان يريد وما كان يصبو إليه».لقد فند روسو أصول الملكية الأوروبية عامة والفرنسية الخاصة، وأرسى قواعد العقد الاجتماعي الجديد الذي يحمل صراحة مساواة واضحة بين المحكومين والحاكم، لقد أجاب روسو عن السؤال الصعب «لمن يعود حق التشريع؟»، ففي عام 1764م نشر روسو كتابه «العقد الاجتماعي»، وبرهن على أن الدولة تنشأ من خلال عقد بين الفرد والنظام نتيجة للتطور من نظام طبيعي تسود فيه قيم الفرد إلى نظام اجتماعي يتنازل الفرد عن بعض سلطاته لصالح الجماعة السياسية، مع ملاحظة أن الفرد عندما تنازل عن جزء من سلطته لم يتنازل عنها لصالح فرد أو مجموعة أفراد وإنما تنازل للمجتمع ككل، لتنشأ إرادة عامة ينظم المجتمع بها شؤون أفراده، وهو ما يؤدي إلى ظهور الجماعة السياسية وتكوين الهيكل السياسي المنظم لشؤون المجتمع والقائم بمصالحه، ولما كانت الإرادة العامة هي القوة العامة، فللشعب أن يغير حكومته متى شاء، لأن كلمة الشعب في هذه الحالة إنما تعبر عن رغبته وإرادته العامة.وبذلك يكون روسو قد أعطى الشعب الفرنسي مفتاح الثورة بعد أن أسقط نظرية الحق الإلهي للملوك في الحكم. من ناحية أخرى حدد روسو للإنسان، أي إنسان، دوراً في الحياة، فالنفس – في تعريف روسو- من جهة تنطوي على ذاتها وتحيا حياتها الخاصة في الطبيعة، ومن جهة أخرى تتلاشى في حياة شعب وتسلم ذاتها كليا إلى الكائن الأخلاقي الذي تؤلفه الجماعة.فالنفس لا ترى حولها سوى أقنعة ونماذج من الحياة مصطنعة، ولا تعثر حولها على إنسان تحبه وليس حولها سوى أشخاص غرباء عن ذواتهم وعن الناس، حينئذ تبحث النفس عن سعادتها في داخلها، أو تحلم بوحدة جديدة قد تلاقيها البشرية في صور للحياة جماعية لاتزال مجهولة، وحدة تندمج فيها النفس بحيث تنسى ذاتها نسيانا تاما.دعا روسو لأن يتمتع الإنسان بكونه ثورياً مناضلاً، فالإنسان الذي اكتسب مثل هذا الشعور بالذات وبقيمته كإنسان بمعزل عن كل صلة بالمجتمع، لا يسعه إلا أن ينكر النظام الاجتماعي القائم وأن يعارضه مرسيا بذلك قواعد الحرية الفردية القائمة في المجتمع الغربي من ذلك الوقت إلى يومنا هذا.وجعل روسو بكتاباته الديموقراطية أمرا ممكنا بعد أن قال إن «جميع الناس متساوون» في الآلام والأفراح، فلكل إنسان في نظر روسو أهمية وقيمة في ذاته، ومن هنا جاء تشجيع روسو على الديموقراطية.وبإعلاء روسو من قيم العاطفة، وإعلاء فولتير من قيم العقل يكون الإطار النظري التمهيدي للثورة قد اكتمل بثنائية العقلانية والعاطفة أو العقل والقلب، وتكون الثورة قد أكملت منظومتها الفكرية التي ستدور في فلكها وستعطيها طابعها المميز. وظلت رؤيتهما تحدثان أثرهما أثناء الثورة الفرنسية، تتلاقيان أحيانا وتتعارضان أحيانا وذلك في صور متنوعة في صفتها الشعورية، لكن الغلبة كتبت في النهاية لرؤية روسو.الموسوعةوهنا جاء دور فيلسوف آخر هو دنيس ديدور (1713-1784م) الذى تولى بجانب هجومه على الكنيسة والدولة من خلال مؤلفاته، جمع أفكار عصره ومنجزاته في عمل موسوعي كان هو الأول لما بات يعرف بالانسكلوبيديا (دوائر المعارف) وهو العلم الذي رسخ قواعد العلم، وكان إشارة الى أن عصر العلم قد بدأ بعيدا عن سيطرة الكنيسة، وأول محاولة جادة لتبسيط العلوم والمعرفة للبسطاء بعيدا عن الأرستقراطية، فجاءت الموسوعة تعبيرا حيويا عن الطبقة البرجوازية ضد قيم الملكية والارستقراطية والكنيسة.وعلى خطى الموسوعة شارك الفيلسوف كلود أدريان هلفتيوس (1715-1771م) في تحرير بعض مقالات الموسوعة ووضع نظريته في كتابيه «عن الروح» و»الذكاء»، القائلة إن الناس يولدون متساوين في القدرات والمواهب لكن ظروف التنشئة والتربية ومقدار ما ينالونه من تعليم هو ما يصنع الفارق، وهي نظرية كان لها وقعها في زمن اعتبرت الأسر الحاكمة في أوروبا نفسها من ذوات الدماء الزرقاء النقية، لهم كل المميزات باعتبارهم اختيارا من قبل الله، لهذا كان من الطبيعي أن تحرق كتبه خصوصا أنه هاجم الكنيسة وطالب بفصلها عن الدولة.وعلى الرغم من أن هلفتيوس لم ينكر أي تعاليم إلا أنه دعا الى تقليص نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، وكانت وقتها متداخلة مع الملكية في زواج لا يعرف الانفصام، وقد كان يهاجم الكنيسة من وجهة نظر اجتماعية لا لاهوتية، إذ إنه يشجب وجهة النظر الكاثوليكية في تمجيد العزوبة والفقر، واتهم سيطرة الكاثوليك على التعليم لا بكونها تعوق النقد الفني والعلمي في الأمة بتجاهل العلوم والاستخفاف بها فحسب، بل بأنها تمكن رجال الدين من تشكيل ذهن الطفل لإخضاعه للسيطرة الكهنوتية، فكان بذلك صاحب أقوى دعوى لفصل التعليم عن السلطة الكنسية.والآن، وقد ظهر إنجيل العقل ضد الأساطير بمجهودات فولتير، وإنجيل المعرفة ضد العقيدة والتعاليم الدينية بمجهودات «ديدور وعلماء الموسوعة»، وإنجيل التقدم عن طريق التعليم ضد التأمل والتفكير القديم في الموت بمجهودات روسو، فكأنما هبت رياح عاتية على فرنسا ومن ورائها أوروبا كلها مثل ريح محملة بلقاح جديد، تبدد كل التقاليد البالية وتنير الفكر وتوقظ العقل، وتدعو آخر الأمر إلى الثورة.