إلياس كانيتي والربيع العربي .. فيلسوف المرحلة
في ظل موجة «الربيع العربي»، أعادت «المؤسسة العربية للدراسات» إصدار كتاب «أصوات مراكش» للروائي والفيلسوف البلغاري إلياس كانيتي (ترجمة مطبوعة «أخبار الأدب» القاهرية)، فصل من سيرة هذا الكاتب الذي نال جائزة «نوبل للآداب» عام 1981، من دون أن ننسى كتابه «شذرات» الذي ترجم عن منشورات «الكلمة» في أبو ظبي وكتاب «محاكمة كافكا الأخرى» عن دار «شرقيات المصري».
يحضر إلياس كانيتي بقوة في الوسط الثقافي العربي النخبوي، مكثرٌ يستشهدون بأقواله وأفكاره وسيرته، وكثر كتبوا عن نصوصه المترجمة وغير المترجمة. اللافت، أن ثمة اهتماماً خاصاً بكتابه «الحشد والسلطان» (أو «الجمع والسلطة» أو «الجمهور والجبروت») لأنه يتضمن أفكاراً تلامس الواقع الجمعي والسياسي في العالم العربي، خصوصاً بعد موجة «الربيع العربي». لكن تفسيرات مضمون الكتاب تأرجحت بين إغواء الفكرة ونقدها وبين توجيه الاتهام إلى صاحبه، وبالطبع كل يكتب حسب انحيازه أو موقعه أو توجهاته.لم يترجم «الحشد والسلطان» إلى العربية، ولم يرَ المثقفون الباريسيون فيه سوى «قصيدة سوسيولوجيّة» طويلة، وصف دقيق لمن يتابع حتى مقاطع قصيرة منه. فمع أن المؤلف يعالج موضوعاً اجتماعياً فرويدياً وسياسياً، لكنه يكتبه بلغة فكرية غنائية شاعرية عذبة تشد القارئ إليها ويحسبها رواية من نوع آخر.تكمن أهمية الكتاب في ملامسته واقع الجمهور في مختلف حالاته، وفيه محاولة للتساؤل بشأن طريقة تشكّل الجماهير، وقد افترض أن الجماهير تتعلّم الحركة وتكتسب القوام من الطبيعة نفسها.في هذا الشأن، ساق الكاتب أمثلة عن شعوب كثيرة، قال عن الألـمان، مثلاً، إن الطبيعة فرضت على مخيلاتهم صورة الغابة، التي تتشكّل من وحدات أصغر تتمثل في أشجار متراصة، راسخة، ومنضبطة في سياق الكينونة الكلية، والهوية الجمعية، التي تذيب كيانات، وكينونات أصغر. أما العرب، والكلام لكانيتي، فقد تعلـموا من طبيعة الصحراء، من حبّات الرمل التي لا تعد، وانسيابها في أفق لا يحد. والهولنديون كأمواج البحر، والمغول كالريح.في موضع آخر، قال كانيتي إنه فيما تتجمع الحيوانات للحفاظ على ترتيب الأشياء، يشكل البشر جموعاً عندما يرغبون في إحداث تغيير. فالجمع الواحد يتشكل من وحدات صغيرة عدة تكون في نهاية الأمر وحدة واحدة كبيرة، للقيام بعمل محدد في زمان ومكان محددين. وكوسيلة سياسية يكون الحشد الجماهيري أكثر أثراً وفاعلية عندما يضع نصب عينيه هدفاً محدداً.سواء كنا مع كانيتي أم ضده، فأفكاره تغوي لتفسير مشهدية الربيع العربي، فهو يرصد ظواهر الحشود ويحللها، منطلقاً من أن الإنسان يفضل مسافة تفصله عن الآخر ليحس بفرديته أي بحريته، فحين يلمسنا شخص غريب في الطريق نتضايق ويحتاج الأمر إلى اعتذار نسمعه منه. هكذا، نتحرك بحذر في الأماكن المزدحمة، ونرتبك أو نضطرب حين نضطر إلى ملامسة غرباء.يعتبر كانيتي أنه ليس ثمة ما يخافه الإنسان أكثر مِن المجهول. إنه يُريد معرفة الآتي، أو على الأقل التعرف إليه و تَصنيفه. لذا يحاول الإنسان تفادي الاحتكاك بكل ما يجهل. هذا الخوف يتعاظم في الظلام، فلمسة عابرة لشيء غير مألوف من شأنها أن تدفع به إلى درجات أعلى من الارتباك والاضطراب. بل حتى الملابس لا تمنح الإحساس الكامل بالأمان. فثمة من يستطيع تمزيقها أو ثقبها للوصول إلى اللحم الأعزل العاري. ثمة حالتان نقبل فيهما ملامسة الآخر، هما الحب والتظاهرة. في الأولى، سعي إلى وحدة جسدين بإيقاع عاطفي لا يخلو من الغريزة، وفي الثانية تخلٍّ عن الفردية للذوبان في الجمع أو الحشد.يقول كانيتي: «في الحشد قد يتحرر الإنسان من خوف الملامسة. إنها الحال الوحيدة التي ينقلب فيها الخوف إلى نقيضه. فيلقى المرء الأمان في التكثيف وفي التصاق الأجساد. والناس الذين يشكلون الحشد لا يهتمون بمن يلامس من، ففي اللحظة التي يسلّم المرء نفسه لضغط الحشد يتلاشى خوفه من الملامسة. في الحشد المثالي، يتساوى الجميع وتغيب الفروق والامتيازات، فالرجل إلى جوارك هو مثلك، هو امتداد لإحساسك بذاتك، كما لو أن تلك الجموع شكّلت فجأة جسداً واحداً. لعل هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الحشد ينغلق على ذاته، فهو يريد، وبسرعة، تحرير كل فرد فيه من مخاوفه. كلما زاد اقتراب الناس من بعضهم البعض تلاشى خوفهم، فتبديد خوف الإنسان من الملامسة إحدى خصائص الحشد. وكلما كانت كثافة الحشد أكبر، كان إحساس الفرد بالأمان أعظم».تكفير عن الذنببعد «الربيع العربي»، تهافت الكتاب الى استعمال أفكار كانيتي، كتب الباحث الأميركي اللبناني الأصل فؤاد عجمي أن العرب كفوا عن أن يكونوا ساكنين تحاصرهم جدران الذل والمهانة وانتفضوا على تاريخ طويل من القهر والاستعباد، وكأنهم بانتفاضتهم تلك يريدون أن يكفروا عن تلك العقود من الموالاة والاتباع لقادة وزعماء قادوهم إلى ما وصلت أحوالهم إليه.عالج كانيتي هذه الظاهرة بطريقة مدهشة في كتابه، فهو ذكّرنا بأن الحشود تتجمع للتكفير عن ذنبها في حضور آخرين ممن ارتكبوا أخطاء وإخفاقات سابقة.كتب الصحافي اللبناني سعد محيو أن النجم الفكري والنظري لهذه المرحلة لم يعد، كما كان الأمر في التسعينات، برنارد لويس («أزمة الإسلام») أو صموئيل هانتينغتون («صدام الحضارات») أو فؤاد عجمي («نهاية الأمة العربية»)، بل مُفكّر يهودي بلغاري هو إلياس كانيتي.أضاف محيو: «المؤلف مثير بالفعل، لأنه موسوعي في تحليله لظاهرة الجمهور وعلاقته بمرض ارتياب الحكّام»، ويستنتج بقوله إن كتاب «الحشد والسلطان» أثار، ولا يزال، كثيراً من اللغط حول مدى صدقيّته العلمية، حيث اتهمه كثر بأنه يخلط بين العلم والشعر. لكن الصهيونيين واليمينيين الأميركيين (وللأسف بعض العرب عن حسن نية)، يستخدمون بعض مقولاته الآن لقذف الثورات العربية الراهنة بالعشوائية وحتى بالغوغائية التي ستقود إلى استبداد جديد. ولم يوضح محيو الأفق الذي ستتجه نحوه الثورات العربية».بمنأى عن تفسيرات الكتّاب لأفكار كانيتي في «الحشد والسلطان»، يمكن لنا القول إنه يقبض على الربيع العربي من رقبته، كما قبض على القرن العشرين.