بلا تشريح الجثث... المستشفيات تدفن أخطاءها!

نشر في 31-12-2011 | 00:02
آخر تحديث 31-12-2011 | 00:02
عندما انهارت الأستاذة والباحثة في مجال السرطان رينيه روياك شالر (64 عاماً) بشكل غير متوقع وتوفيت في 22 مايو الفائت، لم يأمر الأطباء حيث أعلنت عن وفاتها في مستشفى «هوارد كاونتي» العام في كولومبيا، ميريلاند، بتشريح جثتها. كذلك لم يأمر بذلك مكتب ميريلاند التابع لرئيس مصلحة الطب الشرعي الذي أقفل القضية لعدم الاشتباه في أي عمل غير قانوني. حذا حذوهم أيضاً أطباء روياك شالر في كلية الطب التابعة لجامعة جونز هوبكينز، بعدما شخّصوا مرض السرطان في ورك شالر قبل يومين فقط من رحيلها، لكنهم اعترفوا بأنهم لم يعرفوا سبب وفاتها المفاجئة. موقع ProPublica تابع هذه القضية.

منذ نصف قرن، كان تشريح الجثث عملاً روتينياً. كانت عمليات التشريح تُعتبر أحياناً بمثابة «المراجعة الطبية النهائية»، وكانت جزءاً لا يتجزأ من نظام الرعاية الصحية الأميركية، وتُطبَّق على نصف المرضى الذين يفارقون الحياة في المستشفيات. أما اليوم، فتشير البيانات الصادرة عن مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها إلى أن التشريح يطاول حوالى 5% من جثث المرضى فقط.

اكتشف زوج روياك شالر، جيفري شالر، أن حالات الوفاة المفاجئة وغير المتوقعة لا تفرض إجراء عمليات تشريح بعد الوفاة. لا يُطلَب من المستشفيات إجراء عمليات التشريح ولا تدفع شركات التأمين كلفة هذه الخدمات. كذلك، يفضّل بعض المنشآت والأطباء تجنب هذه العمليات خوفاً من الكشف عن ممارسات خاطئة. أصبحت هذه النزعة التنازلية في عدد عمليات التشريح معروفة وقد خضعت للدراسة طوال سنوات.

وفق الاختصاصيين في علم الأمراض والمسؤولين في مجال الصحة العامة، لم يتم تقدير العواقب الشاملة لتراجع معدلات التشريح في نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة.

لا أحد يكشف عن الأخطاء التي تحصل أثناء التشخيص الطبي (إنها أخطاء شائعة وفق الدراسات)، ما يسمح للأطباء بمعالجة المرضى الآخرين من دون أن يدركوا أن معايير التشخيص المعتمدة شائبة. كذلك، تتراجع فرص معرفة المعلومات الوافية عن فاعلية العلاجات الطبية وطريقة تطور الأمراض. هكذا، تَرِد معلومات غير دقيقة على وثائق الوفاة، ما يُضعف مصداقية الإحصاءات في القطاع الصحي.

لكن بفضل معارف روياك شالر المهمّة، انتهت قضيتها بطريقة مختلفة. فقد حث زملاؤها في كلية الطب التابعة لجامعة ميريلاند زوجها على منحهم الإذن بتشريح الجثة وتطوعوا للقيام بهذه العملية مجاناً.

في هذه القضية، كما في قضايا كثيرة أخرى، كشف التشريح عن نتيجة مفاجئة: كانت روياك شالر، تلك الباحثة الشهيرة في مجال السرطان، مصابة شخصياً بالسرطان الذي انتشر في أنحاء جسمها (في الرئتين والكلى، والبطن، ونخاع العظام)، وأدى تجلّط الدم المرتبط على الأرجح بنشوء الأورام إلى وفاتها المفاجئة.

شعر جيفري شالر بالسخط العارم لعدم تشخيص مرض زوجته في مرحلة أبكر، لكنه اعتبر أن معرفة سبب وفاتها أفضل من عدم معرفة الحقيقة، فقال: «نشعر بنوع من السلام الداخلي عند معرفة الحقيقة».

نظام شائب

في السنة الماضية، تناول موقع «بروبوبليكا» (ProPublica)، وبرنامج «فرونت لاين» (Frontline) على «خدمة البث العامة» (PBS)، وشبكة الإذاعة العامة الأميركية (NPR)، موضوع النظام الشائب المُعتمد للتحقيق بحالات الوفاة، مع التركيز في المقام الأول على عمليات التشريح في مجال الطب الشرعي، ويقوم بهذه العمليات أطباء شرعيون في حال الاشتباه بحالة وفاة لأسباب غير طبيعية.

تتنوّع قوانين الدولة في هذا الإطار، لكن تُعتبر غالبية حالات الوفاة التي تحصل في المستشفيات حالات طبيعية. عندما تكون الوفاة غير مبررة أو غير متوقعة أو تحصل خلال 24 ساعة من دخول المريض إلى المستشفى، قد يُطلَب من المستشفيات التبليغ عن هذه الحالة أمام مسؤولي الطب الشرعي المحليين. لكن نادراً ما تستلم هذه الجهات قضايا مماثلة من المستشفيات.

قد يأمر أطباء المستشفيات، بموافقة أقارب المرضى، بإجراء تشريح عيادي لاكتشاف وتيرة تطور المرض في الجسم وتحديد سبب الوفاة. كان هذا المعيار معتمداً منذ 50 عاماً عندما كانت أهمية التشريح بديهية. في هذا السياق، قال الدكتور ستيفن سينا، رئيس لجنة الطب الشرعي في كلية علم الأمراض الأميركية: «ينجم معظم المعلومات التي نعرفها في عالم الطب عن التشريح. لا يمكن التأكيد على ما حصل أو لم يحصل في الجسم من دون عملية التشريح باعتبارها أداة تضمن نوعية النتائج».

مع ذلك، تبلغ معدلات التشريح في المستشفيات التعليمية، التي لا تهدف إلى جني الأرباح بل تحمل رسالة تعليمية، حوالى 20% اليوم. في المستشفيات الخاصة والمستشفيات المحلية غير المتخصصة التي تشكل 80% من منشآت البلد، تكون معدلات التشريح شبه معدومة.

قال الدكتور دين هافليك، طبيب شرعي في منطقة «ميسا كاونتي»، كولورادو: «أعرف أن المستشفيات الجديدة تُبنى في هذه الأيام من دون تخصيص قسم للقيام بعمليات التشريح». ويقدّر هافليك أن معدل التشريح العام في مستشفيات هذه المنطقة هو أقل من 1%.

لدى المستشفيات أسباب مالية قوية تدفعها إلى تجنب عمليات التشريح. تكلّف عملية التشريح الواحدة حوالى 1275 دولاراً وفق مسح شمل المستشفيات في ثماني ولايات أميركية. لكن لا يتحمّل نظام «ميديكير» (Medicare) الصحي وشركات التأمين الخاصة تكاليف هذه العمليات مباشرةً، ما يحدّ من تدابير إعادة تسديد التكاليف ويحصرها ضمن إجراءات تُستعمل لتشخيص الأمراض ومعالجة المرضى. يدفع نظام «ميديكير» الصحي تعويضات عن عمليات التشريح ضمن الدفوعات العامة التي تحصل عليها المستشفيات لضمان حُسن نوعية الخدمات، ما يعزز دوافع المستشفيات لتجنب التشريح وفق رأي جون سينارد، مدير قسم التشريح في كلية الطب التابعة لجامعة يال.

يضيف سينارد: «يحصل المستشفى على الأموال سواء قام بعمليات التشريح أم لم يَقُم بها. بالتالي، يصبح التشريح مجرد مصروف إضافي».

سمعة جيدة

منذ القرار الذي أصدرته «اللجنة المشتركة المعنية باعتماد منظمات الرعاية الصحية»، في عام 1971، لمنح الرخص إلى منشآت الرعاية الصحية، لم تضطر المستشفيات إلى إجراء عمليات تشريح للحفاظ على سمعة جيدة، ثم فرضت اللجنة أن يصل معدل التشريح إلى 20% في المستشفيات المحلية غير المتخصصة و25% في المنشآت التعليمية، لكن سرعان ما سحبت مطلبها. بحسب رأي بول شيفي، المستشار الأعلى في اللجنة المشتركة والمتخصص بتحسين قطاع الرعاية الصحية، كان بعض المستشفيات يجري عمليات التشريح لأجل «الالتزام بتلك الأرقام فقط»، بدل العمل على تحسين نوعية التشريح.

كذلك، تجنب الأطباء عمليات التشريح بسبب ارتفاع ثقتهم بأدوات التشخيص المعاصرة مثل تقنيات التصوير بالأشعة المقطعية وبالرنين المغنطيسي، كونها تستطيع تحديد الاضطرابات قبل وفاة المرضى.

لكن بعد صدور دراسات متلاحقة، كشفت عمليات التشريح أن الأطباء يرتكبون معدلاً مرتفعاً من الأخطاء أثناء التشخيص حتى لو استعملوا معدات تصوير متطورة.

استناداً إلى تقييم دراسات أكاديمية أجرتها وكالة أبحاث الرعاية الصحية والجودة في عام 2002، تم رصد أخطاء كبرى متعلقة بالتشخيص الأولي أو سبب الوفاة عند تشريح جثث المرضى في حالة من أصل أربع. في حالة على عشرة، كان هامش الخطأ خطيراً بما يكفي ليؤدي إلى وفاة المرضى.

استخلصت وكالة الأبحاث الاستنتاج الآتي: «لدى الأطباء أسباب مقنعة للمطالبة بإجراء التشريح بما يفوق عدد عمليات التشريح التي تحصل راهناً».

اعتبر شيفي أن نتائج هذه الدراسات شائبة لأن الحالات التي تحصل فيها عمليات التشريح تكون الأكثر تعقيداً، ما يجعل أخطاء التشخيص محتملة. لكنه يقول إن معدل الأخطاء العام هو أدنى بكثير. لكن أكد سينارد من جهته على تدني عدد عمليات التشريح الحاصلة (وجدت إحدى الدراسات أن 63% من المستشفيات في لويزيانا لا تقوم بأي عملية مماثلة طوال السنة) إلى درجة أن أوساط الأطباء والمستشفيات لا تستطيع التأكيد على عدد وفيات المرضى. قال هذا الطبيب الذي يعمل في جامعة يال: «لم يتحققوا يوماً من ذلك العدد».

أجرى موقع «بروبوبليكا» مقابلة مع اختصاصيين في علم الأمراض، وأكد هؤلاء على أنهم يرصدون أخطاء عدة في التشخيص دوماً. فقالت ديبرا كيرني، مديرة قسم التشريح في مستشفى تكساس للأطفال: « نحدد غالباً أموراً لا تستطيع تقنيات التصوير الطبي تشخيصها». قد يكون التشريح أيضاً أداة أساسية لتقييم مجال الرعاية الصحية وتحسينه.

على صعيد آخر، اعتبرت إليزابيث بيرتون، نائبة مدير قسم الأمراض في كلية الطب التابعة لجامعة جونز هوبكينز، أن تشريح جثث المرضى الذين توفوا بسبب التهابات أُصيبوا بها أثناء إقامتهم في المستشفى يساهم في إنقاذ حياة آخرين. ترتفع خطورة عدوى الالتهابات في المستشفيات بحسب قولها، وقد استعمل الأطباء النتائج التي توصلت إليها لتغيير أنظمة المضادات الحيوية والتخلص من الجراثيم.

استعملت رينو فيرماني، رئيسة معهد «سي في باث» (CVPath ) غير الربحي ومديرته الطبية، فحوصات التشريح بعد الوفاة لتحسين علاجات أمراض القلب. جمعت فيرماني وفريقها حوالى 250 عيّنة من دعامات معدنية نُزعت عند تشريح جثث مرضى كانوا قد خضعوا لجراحات لفتح انسداد شرايينهم.

أظهرت أبحاثهم أن نوعاً معيناً من الدعامات المعدّة لتخفيض خطر تجلّط الدم لدى بعض المرضى كان يؤخر الشفاء ويسبب الالتهابات ويعزز ردود فعل الجسم التي قد تكون قاتلة. لذلك، يُطلَب الآن من المرضى الذين يضعون تلك الدعامات تناول أدوية لمنع تجلّط الدم طوال سنة بعد الجراحة.

كانت فيرماني تجلس في مختبرها في غايثرسبيرغ، ميريلاند، وكانت تعاين عبر المجهر شريحة عليها عيّنة مأخوذة من رجل عمره 61 سنة كان قد توفي فجأةً في عام 2004، أي بعد أربعة أشهر تقريباً من دسّ دعامة في شرايينه لمقاومة تجلّط الدم. أشارت فيرماني إلى وجود مؤشرات على حدوث التهاب في الشريان الذي دُسّت فيه الدعامة، ووسمت عناصر وحُبَيْبات العيّنة باللون الزهري والبنفسجي لإبرازها على الشريحة. أظهر التشريح أن الدعامة أدت إلى تجلّط دم المريض، ما سبّب وفاته.

بحسب قول فيرماني، يجب اللجوء إلى التشريح لتقييم فاعلية العلاجات الأخرى، بدءاً من العلاج الكيماوي وصولاً إلى الأجهزة البديلة عن صمام القلب: «التشريح هو الطريقة الوحيدة لزيادة المعارف».

لكن تكون عمليات التشريح أقل من العادة أيضاً عندما يموت المرضى الذين يتجاوزون الستين عاماً في المستشفيات، ما يعني فقدان فرصة معرفة المزيد عن الأمراض المتعلقة بالتقدم في السن بحسب رأي بورتون. وفق بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، توفي أكثر من 684 ألف مريض مماثل في المستشفيات خلال عام 2008 (أي أكثر من ربع مجموع الوفيات في البلد) وخضع 2،3% منهم فقط للتشريح.

يقول المسؤولون في مجال الصحة العامة إن نظام الرعاية الصحية يواجه مصاعب كثيرة في حال عدم اللجوء إلى التشريح للتأكيد على أسباب وفاة المرضى بدقة. في بعض الحالات، تُدَوّن معلومات خاطئة على وثائق الوفاة. بحسب رأي روبرت أندرسون، رئيس فرع إحصاء الوفيات في المركز الوطني للإحصاءات الصحية التابع لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، تكون فئات الأمراض العامة دقيقة (مثل السرطان) على الأرجح، لكن قد لا تكون الفئة الخاصة من المرض (مثل نوع السرطان) دقيقة بالقدر نفسه.

يتابع أندرسون: «تُستعمل هذه البيانات لتحديد أولويات الصحة العامة، وتطوير برامج الصحة العامة، وتخصيص موارد مناسبة لهذا القطاع. نبذل ما في وسعنا للحصول على المعلومات، لكن إذا أوردنا معطيات خاطئة في النظام، فسنحصل على معلومات خاطئة».

تحسين الرعاية الصحيَّة

عام 1999، أصدرت اللجنة الاستشارية التابعة لبرنامج «ميديكير» الصحي، والمعنية بإبلاغ الكونغرس الأميركي بتطورات هذا البرنامج، تقريراً يعتبر أن زيادة معدل التشريح العيادي قد تساهم في تحسين الرعاية الصحية وتقليص هامش الأخطاء. أوصى التقرير بتسديد المستحقات إلى الأطباء مباشرةً عند قيامهم بعمليات التشريح ومنح المستشفيات مبالغ إضافية عند التزامها بمعدل التشريح المحدد أو تغريمها في حال عدم التزامها به. اقترحت المجموعة الاستشارية أيضاً أن يغير برنامج «ميديكير» الصحي قوانينه الخاصة بالمستشفيات للتشجيع على زيادة عمليات التشريح واستعمالها كمعيار لتحديد مستوى الأداء.

لكن لم يلتزم برنامج «ميديكير» بهذه التوصيات. فقد رفض مسؤول من مراكز خدمات الرعاية الصحية والطبية طلب موقع «بروبوبليكا» بإجراء مقابلة معه، معتبراً أن إجراء التشريح في المستشفيات لا يدخل ضمن صلاحيات برنامج «ميديكير» بأي شكل.

لم تعمد منظمات أخرى من تلك التي تدافع عن تحسين قطاع الطب (مثل معهد تحسين الرعاية الصحية، والمنتدى الوطني للجودة، واللجنة المشتركة) إلى الضغط على الجهات المعنية لرفع مستوى عمليات التشريح على رغم الفكرة الشائعة التي تعتبر أن هذه الخطوة قد تحسّن نوعية الرعاية الطبية.

فقد قال عضو اللجنة المشتركة بول شيفي: «إنّ رفع معدل التشريح ليس من أولوياتنا».

يعبّر الدكتور جورج لاندبيرغ (اختصاصي في علم الأمراض وأحد أبرز المدافعين عن زيادة معدل التشريح) عن استيائه عند مناقشة برود القطاع الطبي تجاه تدني معدلات التشريح. قال لاندبيرغ، رئيس تحرير صحيفة «ميد بيدج توداي» (MedPage Today)، إن اللجنة المشتركة يجب أن تعيد فرض معدلات التشريح الإلزامية «كما كانت تفعل في الأيام الغابرة حين كانت نوعية الخدمات مضمونة ولم يكن الأطباء يتجنبون محاولات معرفة الحقيقة عن المرضى المصابين بأخطر الحالات».

صرّح عدد من الخبراء لموقع «بروبوبليكا» بأن إحدى الطرق الفاعلة للتخلص من هذا البرود تقضي بأن تدفع شركات التأمين والحكومة تكاليف عمليات التشريح. لكن اعتبر أحد المسؤولين من مجموعة «يونايتد هيلث» (UnitedHealth Group)، أكبر شركة تأمين في البلاد، أن كلفة التشريح غير قابلة للرد لأن التشريح «إجراء لا يمنع المرض أو يعالج المريض من إصابته».

لكن اعتبرت رئيسة معهد «سي في باث» رينو فيرماني أن هذا الرأي سطحي. هي ترى أن كلفة التشريح تبقى متدنية نسبياً مقارنةً بالأموال التي تُصرَف على العقاقير والعلاجات وتقنيات التصوير لتشخيص الأمراض، وقد يساهم دفع قيمة التشريح في إنقاذ حياة الناس وتوفير الأموال. ثم ختمت قائلة: «نحن نتخلى عن قطاع ربما نستفيد منه مستقبلاً لتحسين الرعاية الصحية».

back to top