Tinker Tailor Soldier Spy عن الحرب الباردة...
جون لو كاريه بعدسة توماس ألفردسون إن أردت إعداد لائحة بأسماء كل مَن ساهموا في ولادة موجة مصاصي الدماء في عالم الفن، فستختار على الأرجح توماس ألفردسون ليكون بين الأسماء الأولى على هذه اللائحة. يتميَّز فيلمه الأخير Tinker Tailor Soldier Spy البعيد عن مصاصي الدماء بأنه يستند إلى رواية جون لو كاريه المعقدة عن الحرب الباردة.
أعدّ المخرج السويدي توماس ألفردسون Let the Right One In الذي حقق نجاحاً كبيراً عام 2008، وهو يروي قصة مذهلة عن علاقة بين ولد يتعرض للتنمر ومصاصة دماء صغيرة تُدعى إيلي.لكن إن سألت هذا المخرج (46 سنة) عن تأثيره أو اهتمامه بأفلام مصاصي الدماء، يهز كتفيه ويجيب: «لم أشاهد أي أفلام عن مصاصي الدماء، باستثناء ربما أفلام بيلا لوغوسي عندما كنت صغيراً. لم أرَ أياً من أفلام Twilight أو أقرأ الكتب المستوحاة منها».كذلك قد يتفاجأ كثير من عشاق هذا النوع من الأفلام، حين يؤكد ألفردسون أنه «لا يرى إيلي مصاصة دماء». راح ألفردسون يقطع شطيرة البيض خلال الفطور، فيما خبّأ وجهه الحقيقي وراء قناع التأمل والتفكير. ففي نيويورك قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، شهدت مسيرته المهنية تبدلاً جذرياً. تحوّل من مخرج اسكندينافي كئيب مغمور إلى بطل في عالم إخراج الأفلام (مع أنه لا يزال كئيباً بعض الشيء). حقق فيلمه Let the Right One In نجاحاً كبيراً في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما عُرض في مهرجان ترايبيكا السينمائي في نيويورك وفاز بأهم جوائزه. فضلاً عن ذلك، ورد هذا الفيلم في اللوائح التي أعدها نقاد كثر لأفضل أفلام العام، واعتبرته إحدى أهم المدونات أبرز فيلم رعب خلال العقد. كذلك، بيعت حقوق إعادة تصوير هذا الفيلم باللغة الإنكليزية مقابل مبلغ ضخم، وأعاد إخراج هذا الفيلم باللغة الإنكليزية شريك جاي جاي أبرامز المبدع، مات ريفز.قام هذا المخرج أخيراً برحلة نادرة إلى الولايات المتحدة ليروج لفيلمه الجديد،Tinker Tailor Soldier Spy، وهو أول فيلم له باللغة الإنكليزية، ويستند إلى رواية جون لو كاريه المعقدة عن الحرب الباردة، التي كتبها قبل أربعة عقود. يشارك في هذا الفيلم النجوم الإنكليز غاري أولدمان، كولن فيرث، وتوم هاردي. عمل ألفردسون بعناية على اختيار هذا الفيلم ليلي Let the Right One In، وهو يصر على أن فيلمه الجديد هذا لا ينتمي إلى نوع محدد، ذكر في هذا المجال: «لا أعتبر Tinker Tailor فيلم جاسوسية بحق. يدور هذا الفيلم حول الصداقة والوفاء والثمن الشخصي الذي دفعه الجنود في الحرب الباردة».صعب الإرضاءلا يجد ألفردسون صعوبة في التكيّف مع زمن اعتاد فيه كبار المخرجين تناول نوع محدد من الأفلام وقلبه رأساً على عقب (ألقوا نظرة على إعادة ابتكار كريستوفر نولن أفلام الأبطال الخارقين). يمكن اعتبار ألفردسون راوياً صعب الإرضاء، ففي وقت يسعى فيه معظم المخرجين إلى الانتقال من فيلم إلى آخر من دون توقف (يرضى كثر بأفلام استوديوهات هوليوود بعد أن يكونوا قد حققوا نجاحاً مستقلاً)، يبدو ألفردسون مستعداً للانتظار سنوات حتى يعثر على ما يعتبره الفيلم المناسب، فضلاً عن أنه يريد تصوير هذا الفيلم كيفما يشاء هو ومتى يشاء وأينما يشاء.يؤكد ألفردسون أنه لا يريد تصوير أي فيلم في لوس أنجلس أو جوارها، وعن هذه المسألة يقول بكلمات فيها شيء من المزاح: «تعتاد الجلوس في كرسيك المفضل وانتعال خفيك الناعمين».يمكن اعتبار Tinker Tailor أحد أصعب أفلام الجواسيس التي أُعدت على الإطلاق. فتُروى هذه القصة الكثيرة التقلبات بمؤثرات بصرية تقليدية، هدوء مفرط، وحبكة بعيدة كل البعد عن البساطة. انتقى ألفردسون نوع أفلام مألوفاً جداً (عرضت عام 1979 سلسلة صغيرة مستوحاة من هذا الكتاب قدّم فيها النجم آليك جانيس أداء ممتازاً) وقرر إدخال تغييرات جذرية إليه، معداً فيلماً تشعر عند مشاهدته أنك تقف أمام لوحة تجريدية.يروي هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في عام 1973 قصة جورج سمايلي (أولدمان الذي يظهر بجبين مليء بتجاعيد أضنته السنوات)، عميل يُستدعى بعد تقاعده للمساهمة في فضح جاسوس في جهاز الاستخبارات السري البريطاني.تنتقل مشاهد الفيلم بين الماضي والحاضر وبين لندن واسطنبول وبودابست، فنرى رجالاً في عالم قاس خال من الألوان يخفون كثيراً من الأسرار ويبدّلون ولاءهم بسرعة. يخلو هذا العالم من النساء، وتُدرس فيه الحوارات بدقة لامتناهية وكأنها رُسمت بالمسطرة. وإذا قارنا هذا الفيلم بـ The Bourne Ultimatum، نُلاحظ أن وتيرته بالغة البطء.لا شك في أنك ستُعجب بالأهداف التي يسعى مخرج Tinker Tailor إلى تحقيقها. قد يصعب على البعض فهم هذا الفيلم، فبعدما عُرض على مجموعة من الصحافيين والنقاد، وقف عدد منهم في موقف السيارات وحاول فهم أجزائه، في حين استسلم آخرون وهرعوا إلى سياراتهم.يذكر ألفردسون عن هذا الفيلم، الذي أنتجته الشركة البريطانية البارزة Working Title: «سيقول البعض إنهم لم يفهموه. لا بأس بذلك. حاولنا أن نحد من المعلومات التي قدمناها للمشاهد. عندما تعدّ مقطوعة موسيقية أو مسرحية أو فيلماً يُلائم الجميع، تضحي بالنوعية واللمسة الشخصية. يسعدني أنني محاط بمنتجين هم حقاً...». يتوقف قليلاً ثم يضيف: «شجعان».تقليديصحيح أن إطار الحرب الباردة بدا ثانوياً مقارنة بمحاور الفيلم الأخرى عن الصداقة والولاء، لكن ألفردسون أراد منح Tinker Tailor مظهراً عاماً مميزاً يتلاءم مع تلك الحقبة. أمل في أن ينقل ما رآه خلال رحلته الأولى إلى لندن عام 1973. لذلك، أقنع هذا المخرج المنتجين بفكرته هذه. جلسوا جميعاً لمشاهدة فيلم فرانسيس فورد كوبولاThe Conversation، الذي يُعتبر أساس هوس سبعينيات القرن الماضي. توضح المنتجة روبن سلوفو: «لم نرد أن نعدّ فيلماً تدور أحداثه في السبعينيات، بل فيلم يوحي لمشاهده أنه انتقل حقاً إلى تلك الفترة الزمنية». تضيف مؤكدة أن محاور هذا الفيلم لا تموت بمرور الوقت، مع أن أحداثه تجري في الماضي: «يمتاز Tinker Tailor بطابعه القديم وألوانه الداكنة. إنه فيلم قديم في كثير من تفاصيله وأوجهه».يبدو المخرج بحد ذاته تقليدياً، فتحمل تعليقاته بعض ملامح المدرسة القديمة. يخبر أولدمان أن شخصاً ما سأل ألفردسون في جلسة مناقشة عُقدت أخيراً عن طابع فيلمه العام. يتذكر هذا الممثل: «أجاب ألفردسون أنه أراد أن يعيد إلى ذاكرة المشاهد رائحة العشب الرطب. متى سمعتم مخرجاً يتحدث بهذه الطريقة؟».يشبه ألفردسون بوجهه العريض وبشرته الباهتة مايكل مور في شبابه، إلا أن نظاراته مربعة وشعره أشقر داكن. يروي هذا المخرج أحياناً النكات الساخرة وتبدو ضحكته عميقة ومرحة. لكنه سرعان ما يلزم الصمت عند التطرق إلى مواضيع شخصية أو أخرى لا تثير اهتمامه. يذكر أولدمان: «عليك أن تتعرف جيداً إلى توماس، قبل أن يطلعك على مسائله الشخصية ويتحدث إليك براحة تامة».مسرحرفض ألفردسون الأفلام كافة التي عُرضت عليه، وفضّل في المقابل إخراج مسرحية في ستوكهولم. يقول: «ثمة مقطع مميز في رواية Perfume (العطر) يشبّه فيه البطل نفسه بعلقة قابعة على غصن فوق درب في الريف. تنتظر هذه العلقة اللحظة الملائمة التي يمر فيها حصان كي تفلت الغصن. تُضطر إلى الانتظار أسابيع، وإن تركت الغصن قبل ثانية من الوقت المناسب، تموت». يسكت ألفردسون لبرهة، ثم يتابع: «أنا أشبه هذه العلقة».عندما اتّصل به ممثلوه ليطرحوا عليه فكرة إخراج Tinker Tailor، أخبرهم ألفردسون أن لديه بعض التحفظات (كتب سيناريو هذا الفيلم الكاتبان المحترفان بيتر ستروغان وبريدجيت أوكانر). لكنه فكر في أن الوقت قد حان ليترك الغصن، حتى لو عنى ذلك مواجهة لغة ومواقع تصوير ومؤتمرات لا يألفها تماماً.تقرّ المنتجة سلوفو: «لا شك في أن الاستعانة بتوماس تبدو فكرة غريبة». لكنها هي وشركاءها كانوا مقتنعين بأن حساسيته الأجنبية قد تشكّل ميزة بالغة الأهمية. توضح سلوفو: «ننتج أفلاماً كثيرة عن تلك الحقبة في المملكة المتحدة، حتى إنها صارت متشابهة، علماً بأنها كلها أفلام عريقة نقدرها. لكن توماس منح هذا الفيلم طابعاً أجنبياً مختلفاً».أجرى المخرج جلسات نقاش عدة مع لو كاريه. فطلب منه هذا الأخير ألا يتقيّد بالكتاب. لذلك، أضاف ألفردسون بعض المشاهد، منها مجموعة من المشاهد التي يعود فيها الأبطال بالذاكرة إلى حفلة تساهم في ربط عدد من العوامل معاً. على رغم ذلك، حافظ ألفردسون على نوعية سرد لو كاريه وميزاته. فقد تميز هذا السرد بغموض بعض أجزائه وبتطوراته المفاجئة.علاوة على ذلك، قرر ألفردسون إبقاء الكاميرا مركزة على بعض العناصر، مثل الوجه (خصوصاً وجه أولدمان). يقول هذا الممثل إنه صُدم حين قرر ألفردسون، في مشهد حساس كان فيه عدو سمايلي يقترب منه، إبقاء الكاميرا مركزة على وجه أولدمان وإعلان وصول هذا العميل مستعيناً بالمؤثرات الخاصة. يضيف أولدمان: «سألته عما إذا كان يود تصوير المشهد من زاوية مختلف، فربما احتاج إليه. لكنه أجابني: ‘لمَ؟’».بذل ألفردسون مجهوداً كبيراً في صوغ شخصية سمايلي، والتشابه بين هذا المخرج وهذه الشخصية واضح. فكلاهما يرفض التعبير عن مكنوناته، سواء كان السبب الكبرياء أم الاستمرار.عن انشغاله بهذه الشخصية يذكر ألفردسون: «لطالما شعرت أن ما أعبّر عنه مختلف عما أشعر به في الداخل. يثير الصمت والوحدة وكتمان الأسرار اهتمامي، وقد ميزت هذه الصفات سمايلي».يشير ألفردسون إلى أن الإخراج يشكّل بالنسبة إليه وسيلة تواصل تختلف عما هو متاح للإنسان في حياته العادية، ويؤكد أن مخرجين كثراً يُشاطرونه هذا الشعور. فمع أنهم يحاولون أحياناً تغيير شخصيتهم، يظن ألفردسون أن هذا مستحيل غالباً: «أحب أن أخرج فيلماً أسهل تكون وتيرته أسرع ولا يكون جاداً إلى هذا الحد. لكن هذا لا يتلاءم مع طبيعتي». يتوقف ألفردسون عن الكلام هنيهة، ثم يتابع قائلاً: «سأعاود الآن صعود الغصن ببطء شديد».Let the Right One Inنجح ألفردسون، وهو ابن مخرج كوميدي سويدي مشهور، في ترك بصمة بارزة في عالم التسلية والترفيه بإخراجه برامج تلفزيونية وأفلاماً مخصصة للأولاد والمراهقين. فأغدق عليه النقاد المديح بسبب إبداعه في مسلسل Bert المستوحى من مجموعة شهيرة من القصص المخصصة للمراهقين. انتقل ألفردسون بعد ذلك إلى إخراج الأفلام والمسرحيات الفكاهية، منها Screwed in Tallinn، برنامج وثائقي ساخر عن السويديين الذين يعبرون بحر البلطيق سعياً وراء النساء الإستونيات.قبل خمس سنوات، قرر ألفردسون إخراج Let the Right One In لأنه ظن أن الكتاب يصوّر ببراعة مرحلة البلوغ. فيروي قصة ولد يتعرض للتنمر يُدعى أوسكار «لا يخاف أن تقتله إيلي... بل أن تتركه».لكن ألفردسون سرعان ما اصطدم بالعقبات. يقول: «كان هذا عملاً متعباً إلى حد ما. فمن الصعب الحصول على التمويل وتصوير المشاهد. فبما إن الميزانية محدودة، أكتفينا بأيام تصوير قليلة. يؤدي أولاد الأدوار الرئيسة. وكان الطقس شديد البرودة، حتى إن الكاميرا تعطلت بسبب الزمهرير».لكن ألا يُعتبر إنجاز هذا العمل مكافأة تستحق العناء؟ يخبر ألفردسون: «لم ينتهِ العمل المضني مع الفراغ من تصوير الفيلم. فلم يظن الناس أن هذا الفيلم سينجح، خصوصاً الموزعين السويديين. لذلك، رموه في الخزانة طوال عشرة أشهر». فيما كان هذا الفيلم يقبع في الظلام، فكّر ألفردسون بالتقاعد. يخبر: «شعرت بوحدة قاتلة. يتفهم الجميع شعوري هذا، لا؟».لكن هذا الفيلم بدأ يحظى بأصداء إيجابية بعيد عرضه، إذ قدره النقاد ولجان التحكيم في المهرجانات بسبب تناوله ببراعة موضوع الوحدة ووصفه ضاحية يكسوها الثلج من ضواحي ستوكهولم وإضفائه طابعاً إنسانياً على مصاصي الدماء. إلا أن ألفردسون يؤكد أن المديح والثناء لم يريحاه، بل أبطآ عمله. يذكر: «سألني منتجون في هوليوود عمَّا إذا كنت أود إخراج The Mass Murderer Strikes Back 14، ما جعلني أتساءل عمَّا إذا كانوا قد شاهدوا فيلمي حقاً».