الثورة الفلسطينية 1936(3/3): الثوار يدفنون شهداءهم والشعب ينتظر الكتاب الأبيض
نستكمل في الحلقة الثالثة الأخيرة أحداث الثورة الفلسطينية 1936، فبعد صدور «الكتاب الأبيض» شعر مواطنو فلسطين بالهدوء النسبي، بعد معارك سيطر خلالها الثوار على أجزاء مهمة من الأرض الفلسطينية، وبغض النظر عن قيادة العناصر المسلحة للمقاومة بنجاح يحسدون عليه، لكن الحرب العالمية الثانية التي باتت على الأبواب أجلت خطوات الثورة إلى حين.
وهدأت الثورة قليلا في فلسطين في الفترة بين إعلان وقف الإضراب الشامل استجابة لدعوة الملوك والأمراء العرب، ولم يقطع هذا الهدوء إلا بعض العمليات العسكرية المتفرقة للثوار، وخلال هذه الفترة غادر فلسطين معظم المتطوعين العرب، وعادت قيادة العمليات العسكرية للمقاتلين الفلسطينيين.وحرصت بريطانيا على تهدئة الوضع في فلسطين خاصة بعد اعتماد بريطانيا عليها كنقطة مهمة في خط مواصلاتها من بريطانيا إلى أكبر مستعمراتها في شبه القارة الهندية والعكس، خاصة بعد سيطرة إيطاليا على الحبشة (إثيوبيا حاليا)، وجزء من الصومال وهو ما يعني تهديدها لطريق المواصلات البريطانية في حال توتر العلاقات بينهما، وهو أمر كان متوقعا مع تصاعد أطماع الزعيم الإيطالي موسوليني.وزادت أهمية فلسطين باعتبارها الملجأ المنتظر لليهود الفارين من أوروبا، خاصة بعد تولي الحزب النازي مقاليد الحكم في ألمانيا في الثلاثين من يناير سنة 1933، وتصاعد احتمالات الحرب بين ألمانيا وجيرانها.توصيات «بيل»تفجرت الثورة مرة أخرى في السابع من يوليو عام 1937، عندما أعلن اللورد روبرت بيل توصيات لجنته، والتي دعت إلى تقسيم فلسطين، إلى ثلاث مناطق: القسم الشمالي والغربي من فلسطين، وتمتد على الساحل من حدود لبنان إلى جنوبي يافا، وتشمل عكا وحيفا وصفد وطبريا والناصرة وتل أبيب، ومساحته حوالي 33 في المئة من فلسطين وتقام به دولة يهودية، رغم أن أملاك اليهود آنذاك لم تكن تتجاوز 6.5 في المئة من أراضي فلسطين.أما المنطقة الثانية والمخصصة لقيام الدولة العربية فتشمل القسمين الجنوبي والشرقي من فلسطين، ويتم ضمها للأردن، على أن تربطها ببريطانيا معاهدات صداقة، وهو ما يعني إلغاء وجود دولة فلسطين من الأساس.أما الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم وما حولهما، فيضاف إليها شريط يوصلها بالبحر الأبيض المتوسط عند مدينة يافا ذات الغالبية العربية، مخترقا الدولة اليهودية المقترحة، ويظل تحت الإدارة الدولية ممثلة في الانتداب البريطاني.وحذرت اللجنة من أن إقامة حكم ديمقراطي في فلسطين، يعني عمليا القضاء على فكرة إقامة وطن قومي لليهود، وهو ما يخالف صك الانتداب، مضيفة «أنه بالنظر إلى ما يعنيه إمكان إيجاد ملجأ في فلسطين لعدة آلاف من اليهود المعذبين، فهل تكون الخسارة المترتبة على التقسيم، مهما يكن عظمها، أكثر مما يتحمله الجود العربي؟».كما لفتت اللجنة إلى خطورة الاستجابة لمطالب اليهود باستمرار الهجرة، مما سيعرض العرب للخطر في المستقبل، لذلك فإنها تنصح بالعمل على إقامة دولتين منفصلتين واحدة يهودية وأخرى عربية.الغريب أن قادة الحركة الصهيونية في فلسطين رفضوا توصيات لجنة بيل رغم أنها قدمت لهم، وللمرة الأولى، دولة في فلسطين معروفة الحدود، لكنهم رفضوا هذه التوصيات واعتبروها أقل كثيرا من مطالبهم.أما الجانب العربي فكان رده على توصيات لجنة بيل عمليا، حيث اندلعت المواجهات العسكرية في كل فلسطين ضد قوات الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية، ولم تجد سلطات الانتداب بدا من استخدام كل ما تملكه من قوة عسكرية لقمع الثورة بعد فشل كل مساعيها السياسية.اغتيال يجدد الثورةكان حادث اغتيال لويس أندروز حاكم لواء الجليل على يد جماعة القسام في سبتمبر 1937، البداية الحقيقية للمرحلة الثانية من ثورة 1936، وردت السلطات البريطانية بإجراءات قمعية عنيفة ضد المدنيين الفلسطينيين، وبلغت الثورة حدا دفع وزير المستعمرات إلى وصف فلسطين بأنها «أصعب بلد في العالم»، مضيفا أن مهمة المندوب السامي والقائد العام للقوات البريطانية في فلسطين «هي أشق مهمة واجهت السلطات البريطانية في أي بلاد أخرى بعد الحرب العظمى (يقصد الحرب العالمية الأولى)».في هذه المرحلة من الثورة تولى قيادتها العسكرية فلسطينيون، وبعد استشهاد الشيخ فرحان السعدي تولى القيادة العامة للثورة في أغلب أوقاتها عبدالرحيم الحاج محمد قائد منطقة طولكرم الشرقية، كما برز عارف عبدالرازق في منطقة طولكرم الغربية، وتولى حسن سلامة قيادة منطقة اللد، وتولى عيسى البطاط قيادة منطقة الجليل، كما تولى عبدالقادر الحسيني قيادة منطقة القدس.وصعدت قوات الانتداب البريطاني عدوانها، واستخدمت الطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة ضد الثوار والمدنيين على حد سواء، كما أصدرت سلطات الانتداب أمرا بحل اللجنة العربية العليا واعتقال أعضائها، وإقالة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وحل اللجان القومية، وجميع الأحزاب والتنظيمات السياسية الفلسطينية، كما اعتقل البريطانيون العشرات من الزعماء الفلسطينيين، ونفوا خمسة منهم إلى جزر سيشيل في المحيط الهندي، وألقوا بآلاف الفلسطينيين في معسكرات اعتقال خاصة.واضطرت السلطات إلى إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى فلسطين يقودها أفضل قادة بريطانيا العسكريين من الجنرالات أمثال مونتجمري، وديل، واضطرت بريطانيا إلى تعيين الجنرال ويفل، القائد الأعلى للقوات البريطانية في الشرق كله، قائدا للقوات البريطانية في فلسطين، وقامت عمليا بإعادة احتلال فلسطين قرية قرية مستخدمة جميع وسائل البطش والدمار والعقوبات الجماعية، ولم تنج قرية فلسطينية من التفتيش بيتا بيتا مرتين على الأقل خلال سنوات الثورة.وحسب الإحصائيات البريطانية، التي هي أقل كثيرا من الواقع فإن مجموع العمليات التي قام بها الثوار خلال عام 1936 كانت 4076 عملية، وفي العام التالي انخفضت العمليات بسبب الهدنة المؤقتة إلى 598 عملية، وفي عام 1938 ارتفعت وتيرة العمليات إلى 4969 عملية، وفي العام الأخير للثورة هبطت إلى 952 عملية بسبب حالة الإنهاك التي أصيبت بها الثورة.كما أصدرت سلطات الانتداب قرارا بالقبض على الحاج أمين الحسيني، ولكنه لجأ إلى المسجد الأقصى المبارك، ولم تستطع القوات البريطانية اقتحام الحرم القدسي خوفا من رد فعل الفلسطينيين على خطوة كهذه، وفي الرابع عشر من أكتوبر سنة 1937، تمكن الحسيني من الإفلات من الحصار البريطاني ومغادرة فلسطين إلى العاصمة اللبنانية بيروت، ومنها بعد ذلك إلى بغداد.الثوار يحكمون السيطرةبعد إعلان خروج الحاج أمين الحسيني إلى لبنان، استؤنفت العمليات العسكرية ضد الأهداف البريطانية والصهيونية بشكل واسع، وفي صيف 1938 وصلت الثورة إلى قمة عنفوانها، واستطاع الثوار السيطرة على مناطق واسعة، خاصة في شمال فلسطين ووسطها، وشكل الثوار عدة محاكم للفصل في القضايا، وعاقبوا بحسم السماسرة والجواسيس والعملاء.وأصبح قادة الثوار بمنزلة الحكام الإداريين في مناطقهم، ونجح الثوار في القضاء على كل العملاء والجواسيس، مما أفقد قوات الاحتلال عيونهم في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، والتي لم تستطع القوات البريطانية بسط نفوذها عليها مرة أخرى إلا بعد توقف الثورة في عام 1939.كما تمكن الثوار من اقتحام عدد من المدن، والإغارة على مكاتب الحكومة بها، وكان الثوار يسيطرون عمليا على أغلب مدن فلسطين خاصة في الليل، حيث انتشر الثوار مستخدمين الشال الفلسطيني كلثام يخفي وجوههم، ونجحوا في القيام بعمليات جريئة جعلت القوات البريطانية تعيش حالة من الفزع والرعب رغم الفارق الكبير في الإمكانات بين الطرفين لمصلحة القوات البريطانية التي استخدمت كل ما في جعبتها لقمع الثورة، ولكن دون جدوى، وبلغت العمليات العسكرية خلال هذه الفترة أربعة أضعاف العمليات العسكرية التي شهدتها المرحلة الأولى للثورة. كما نجحت الثورة في اغتيال عدد من قادة القوات البريطانية والمتعاونين معهم، مثل مساعد قائد الشرطة حليم بسطا الذي أنذره الثوار دون جدوى طالبين منه أن يكف عن إيذائهم وعن شدته مع العرب، ولكنه لم يرتدع فردعه رصاص الثوار داخل مكتبه.كما نجح الثوار في قتل حاكم جنين موفارت، وكان من أشد الحكام بطشا بالمواطنين العرب، فأرسل إليه القائد يوسف أبو درة رسالة جاء فيها «إذا لم تحسن سلوكك مع الأهالي خلال ثمانية أيام فسأقتلك»، ولكن موفارت لم يرتدع وخوفا من الاغتيال نقل مقر إقامته إلى معسكر الجيش البريطاني خارج جنين وشدد الحراسة عليه، لدرجة أنه كان يبيت في مبنى مكون من طابقين يتمركز عدد كبير من جنود الحراسة في طابقه الأول ويحيط به عدد من الحراس فضلاً عن تطويق المبنى بالمصفحات البريطانية من كل جانب.وفي اليوم الثامن أرسل القائد يوسف أبودرة اثنين من الثوار تسلق أحدهما أنابيب المياه حتى وصل إلى الطابق الثاني ثم دخل غرفة نوم موفارت، وأفرغ فيه رصاص مسدسين كانا معه، ثم ترك المكان وانسحب سالما تحت غطاء رصاص رفيقه الذي كان ينتظر خروجه.نجحت الثورة خلال تلك الفترة في تجنيد عدد كبير من الثوار، وبلغت أعدادهم أكثر من عشرة آلاف، ثلاثة آلاف منهم متفرغون للعمليات العسكرية، وبقيتهم يعملون في المدن والقرى في أعمالهم العادية، ومعظمهم من الفلاحين، وكانوا يقومون بنجدة إخوانهم في المعارك عندما تستدعي الحاجة.وكانت كل قرية فلسطينية تستخدم «زامور البلدية» في دعوة المقاتلين إلى التجمع، فعندما يقترب الخطر من القرية، أو يحتاج الثوار في قرية قريبة إلى النجدة كان يدق «زامور البلدية» فيهرع كل مقاتل إلى بارودته، تاركا حقله أو محل عمله ثم يعود إليه بعد انتهاء القتال.أما الجناح السياسي للثورة فكان بقيادة الحاج أمين الحسيني الذي كان خارج فلسطين، ونجح في تشكيل «لجنة الجهاد المركزية»، وكان مجال عملها سورية ولبنان، وتولى إدارتها الفعلية في دمشق محمد عزة دروزة، وكان نشاطها الأساسي هو توجيه الثورة وإمدادها وإسعاف منكوبيها.ومن المؤسف أنه لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة حول أعداد شهداء الثورة وجرحاها، وعدد قتلى الصهاينة والقوات البريطانية وجرحاهم، لكن من المؤكد استشهاد نحو خمسة آلاف شهيد، ارتقى 112 منهم أعواد المشانق، كما جرح 15 ألف فلسطيني، واعتقل قرابة 9 آلاف، كما هدمت قوات الانتداب البريطاني أكثر من خمسة آلاف منزل للعرب الفلسطينيين، كما قتل نحو 400 يهودي على يد الثوار، وتقدر الإصابات في الجيش والشرطة البريطانية بنحو 1800 قتيل وجريح.أسباب إخفاق الثورةفي عام 1939 بدأت نذر الحرب العالمية الثانية، ولم تكن بريطانيا تريد أن تدخل حربا ضد ألمانيا، بينما الوضع في فلسطين لايزال ملتهبا، فعمدت إلى تهدئة الوضع سياسيا وعسكريا، وأصدر وزير المستعمرات البريطاني مالكوم ماكدونالد ما يعرف بـ»الكتاب الأبيض» الذي نجح إلى حد كبير في امتصاص الغضب الفلسطيني، خاصة أنه كان ينص على تخلي بريطانيا عن فكرة تقسيم فلسطين، بين دولتين عربية ويهودية، ومنح فلسطين الاستقلال بعد فترة انتقالية مدتها عشر سنوات، على أن تحكم فلسطين من جانب العرب الفلسطينيين واليهود بناء على نسبة كل منهما لإجمالي سكان فلسطين في سنة 1949.كما حدد الكتاب الأبيض عدد اليهود المسموح لهم بالهجرة إلى فلسطين في السنوات الخمس اللاحقة على صدور الكتاب بـ75 ألفاً خلال السنوات الخمس الأولى، وبعد سنة 1944، تصبح هجرة اليهود مقرونة بموافقة الأغلبية العربية الموجودة في فلسطين، كما وضع الكتاب الأبيض قيوداً على شراء اليهود للأراضي الزراعية.الغريب أن طرفي الأزمة، العرب واليهود، رفضوا هذا الكتاب وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 قال القيادي الصهيوني بن جوريون «إننا سنقاتل ضد الكتاب الأبيض وكأن الحرب العالمية لم تندلع، وسنقاتل مع بريطانيا وكأنها لم تصدر الكتاب الأبيض».توقفت ثورة 1936 باندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان الكتاب الأبيض سبباً رئيسياً في توقفها، يضاف إليه حالة الإنهاك الاقتصادي والبشري الذي عاناه الشعب الفلسطيني طوال أكثر من ثلاث سنوات من الحصار والتنكيل من جانب القوات البريطانية. كما تسبب استشهاد عدد كبير من قادة العمل المسلح في تراجع قدرة الثوار على توجيه ضربات موجعة للقوات البريطانية، واستشهد خلال هذه الثورة من القادة العسكريين الشيخ فرحان السعدي، وعارف عبدالرازق، وعبدالرحيم الحاج محمد وغيرهم من القادة.وتوقف الدعم العربي العسكري المباشر من الدول العربية خلال المرحلة الثانية من الثورة، كما كان لضعف القيادة السياسية العربية دوره في إخفاق الثورة، وكان أعضاء اللجنة العربية العليا خليطاً غير متجانس وما بينهم من الخلافات السياسية والعائلية والحزبية أكثر مما يجمعهم.ووصل الأمر بالحاج أمين الحسيني إلى الاتصال بألمانيا النازية اعتماداً على قاعدة «عدو عدوي صديقي»، وهي قاعدة ساذجة أضرت بالقضية الفلسطينية أكثر مما أفادتها، وتسببت في تشويه صورة الحسيني بل والقيادة الفلسطينية برمتها.فرحان السعدي... صاحب أول رصاصة في ثورة 1936يعتبر الشيخ فرحان السعدي الاستثناء الذي لابد منه في تنظيم الشيخ عز الدين القسام. ففي الوقت الذي حرص القائد على أن يكون تنظيمه من الشباب إلا أنه لم يكن ليتجاهل ضم الشيخ فرحان السعدي رغم أن الرجل يطرق أبواب الثمانين. ولكن بين أضلاعه قلب شاب في الثلاثين، وإيماناً لا يتزعزع بربه وحق شعبه في الحرية.ولد الشيخ فرحان السعدي في قرية المزار التابعة لقضاء جنين، وتلقى علومه في كتّاب القرية ومدرسة جنين الابتدائية، إلا أنه كان مولعاً في شبابه بتلقي الدروس الدينية في المساجد، والاجتماع مع العلماء ورجال الدين، ومن هنا حصل على لقب «الشيخ».شارك الشيخ فرحان في العمل المسلح خلال «هبة البراق» سنة 1929 وكون مجموعة مسلحة من رفاقه في قضاء جنين، وألقت قوات الانتداب البريطاني القبض عليه، وسجنته ثلاثة أعوام في سجن عكا وسجن نور شمس، ولما خرج من سجنه انتقل إلى حيفا، وخلال هذه الفترة ضمه الشيخ عز الدين القسام إلى تنظيمه السري رغم تقدمه في العمر.شارك السعدي في المعركة التي استشهد فيها القسام بأحراش جنين في نوفمبر 1935، لكنه نجح في الإفلات من حصار القوات البريطانية، وتم تكليفه بقيادة التنظيم خلفاً للقسام، وقرر السعدي بعد إعادة تنظيم صفوف التنظيم أن يقوم بثورة شاملة في كل فلسطين، وكانت شرارة الثورة في السابع عشر من أبريل 1936 عندما هاجم الشيخ فرحان السعدي ورفيقه الشيخ عطية أبو أحمد قافلة يهودية في أبريل سنة 1936 ثم انتقل بعدها مع رفاقه إلى الجبال والمناطق الريفية لمواصلة الثورة.بعد إعلان تقرير لجنة بيل اندلعت الثورة من جديد وكان من أبرز عملياتها اغتيال حاكم لواء الجليل أندروز، وكان معروفاً بانحيازه الشديد لليهود واضطهاده للعرب، وقيامه بأبشع الإجراءات ضدهم. وعند خروج أندروز من الكنيسة الإنجليكية في الناصرة في السادس والعشرين من سبتمبر سنة 1937 أطلقت عليه مجموعة قسامية النار فأردوه قتيلاً.بعد اغتيال أندروز ألقي القبض على الشيخ فرحان السعدي وثلاثة من رفاقه. وقدم لمحاكمة عسكرية صورية في حيفا بتهمة اغتيال أندروز، وحكم عليه بالإعدام شنقاً بعد محاكمة استمرت ثلاث ساعات فقط، رفض خلالها السعدي الدفاع عن نفسه، وكانت كلماته قليلة جداً، وعندما سألوه: أأنت مذنب؟ أجاب: «معاذ الله أن أكون مذنباً». وعندما سألوه هل كان بحوزته لحظة القبض عليه أية أسلحة، أجاب بنعم، وبأنه يملك مسدساً قديماً معلقاً على الحائط في بيته.حكم على الشيخ السعدي بالإعدام شنقاً بعد يومين، ما يعني إعدامه في شهر رمضان المبارك، ولم تستمع المحكمة إلى النداءات الصادرة من فلسطين ومن خارجها بتخفيف حكم الإعدام، وخاصة أن الرجل في الثمانين من عمره، ولم يقبض عليه وهو يستخدم السلاح، بل كان يحوزه فقط. وهبطت المطالب المقدمة لسلطات الانتداب من طلب العفو عن الشيخ إلى الاكتفاء بسجنه إلى طلب تأجيل تنفيذ الحكم إلى ما بعد رمضان، وقوبلت كل هذه المطالب بالرفض، وبالفعل أعدم الشيخ فرحان السعدي في الثالث عشر من رمضان 1356، الموافق الثاني والعشرين من نوفمبر 1937، أي بعد الذكرى الأولى لاستشهاد القسام بيومين فقط.أدى استشهاد الشيخ السعدي إلى اشتعال الثورة من جديد في فلسطين وبصورة أعنف، وطغت حادثة إعدام الشيخ السعدي وهو في الثمانين من عمره وفي شهر رمضان على دوره القيادي في اندلاع ثورة 1936. وصفه المؤرخ الفلسطيني صبحي ياسين (وكان أحد أفراد تنظيم القسام خلال الثورة) بـ»المجاهد الصادق، خليفة الشهيد القسام، أول من أطلق رصاصة في ثورة سنة 1936».«الكوفية» الفلسطينية... رمز المقاومة في العالم العربيتعتبر الكوفية الفلسطينية بألوانها، الأبيض والأسود، وبزخرفتها المعروفة، رمزاً للهوية الفلسطينية، وشعاراً يلتف حوله المتعاطفون معها في كل أنحاء العالم.لكن للكوفية أو «الحطة» كما يسميها الفلسطينيون قصة، يروونها بفخر واعتزاز. ففي صيف عام 1938 اشتدت العمليات العسكرية للثوار ضد القوات البريطانية، وسيطروا على مناطق واسعة في فلسطين، وكانت القوات البريطانية لا تتحرك من معسكراتها ليلاً خوفاً من كمائن الثوار وهجماتهم. وكان الثوار يسيرون في شوارع المدن والقرى الفلسطينية وقد تلثموا بالكوفية حتى لا تستطيع عيون البريطانيين وجواسيسهم رصد أفراد المقاومة، وكانت الكوفية حتى هذا الوقت غطاء الرأس المعروف للفلاحين بينما أهل المدن كان غطاء رأسهم هو الطربوش العثماني.ولجأت القوات البريطانية إلى إصدار أمر يمنع الفلسطينيين من ارتداء العقال، واعتبار مخالفة هذا الأمر جريمة تستحق العقاب، من جانبهم طالب الثوار الشعب الفلسطيني بالتخلي تماماً عن اعتمار الطربوش، خاصة في المدن، ولبس الكوفية والعقال، إعلاناً للتضامن التام مع الثوار ورمزاً لكون الجميع ثواراً. وقد صدمت قوات الانتداب، فخلال أيام كان كل شعب فلسطين يعتمر الكوفية، وزال الفارق المظهري بين الثوار وغيرهم، وغاب تماماً الطربوش من الساحة الفلسطينية، رغم أنه كان من العادات الموروثة من مئات السنين.