مئويَّة توفيق يوسف عوّاد 1911-2011...فارس القصَّة وقع ضحيَّة الحرب
قال فيه ناشر كتبه في الذّكرى العاشرة لغيابه: «لم ننسه لنتذكره!». فالدّمعة التي تُذرف الآن ليست دمعة حزن ولوعة، بل هي لؤلؤة ترصّع جبين الأدب. يولد توفيق يوسف عوّاد في كل لحظة عمر، ويتجدّد في كل نبضة حياة، فروحه تنسابُ في ثنايا كتبه التي تتلقّفها عيون قرّائه في مختلف الأرجاء.نزل الصبيّ إلى بيروت في الثانية عشرة من عمره ليتابع دراسته الثانوية في كلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين. وفي أثنائها برزت مواهبه الأدبية ما لفت إليه الأنظار، فشمله مدير القسم العربي في الكلية، العلاّمة وصاحب المؤلّفات القيّمة، الأب روفائيل نخله، برعايته وتولّى تنشئته الأدبية.
وسرعان ما تميّز بين أترابه، فعهدت إليه دار «المطبعة الكاثوليكية» الشهيرة بترجمة روايتين من الفرنسيّة إلى العربية، وراح يكتب في الصحف نثرًا وشعرًا محاولاً، عبثًا، كسب عيشه من القلم.استدعاء وعودةكان الوالد يُعدّ توفيق للمحاماة، لكنه أعرض عن هذه الرغبة، فاستدعاه إلى الجبل وفتح له في قرية «ساقية المسك» متجرًا للترابة والحديد والخشب وسائر موادّ البناء. لكنّ المتجر ما لبث أن أفلس بعد ستة أشهر لانصراف صاحبه إلى كتابة المقالات ونظم القصائد.عاد توفيق إلى العاصمة حاملاً يراعه وحرد أبيه، فاشتغل معلّمًا للغة العربية في أكثر من مدرسة، وشرع ينشر في مجلة «العرائس» سلسلة مقالات نقدية حمل فيها على أدب التقليد، داعيًا إلى التجديد في أساليب التفكير والتعبير.وبعد فترة قصيرة ألقى محاضرة عن الشعر العامّي- الزجل عرض فيها لتاريخه وتقاليده ومزاياه، وقد نُشرت هذه المحاضرة في مجلة «المشرق» وأصبحت مذ ذاك مرجعًا لدارسي هذا الفن.ممارسة الصحافةبدأ توفيق يوسف عوّاد ممارسة الصحافة في عام 1931 في جريدة «البيرق» لصاحبها بشارة الخوري، الأخطل الصغير، ونسخ له بخط يده قصائده المبعثرة. وفي دارها تعرّف إلى شاعر القطرين خليل مطران ، والياس أبو شبكة، وابراهيم طوقان وغيرهم. ثم انتقل إلى جريدة «النداء» حيث بدأت محاولاته في القصة، وفيها اتخذ اسمه المستعار «حمّاد».وفي عام 1931 التحق بجريدة «البيرق»، فكتب سلسلة مقالات عن العادات والتقاليد اللبنانية. وأوفدته الجريدة إلى دمشق في مهمة صحفية، ولما انتهت هذه المهمة دعاه نجيب الريّس إلى تولّي سكرتيريّة التحرير في جريدته «القبس»، لسان حال الكتلة الوطنية آنذاك، فانتهز فرصة إقامته في العاصمة السورية وتسجّل في معهد الحقوق، ومنه نال الإجازة.بعد أن تزوّج في دمشق انتقل عوّاد إلى بيروت، فدعاه جبران تويني إلى تولي سكرتيرية التحرير في جريدة «النهار»، ولازم هذا العمل ثماني سنوات أسهم إلى جانب صاحبها في تطوير الصحافة اللبنانية.«الصبيّ الأعرج»في الوقت الذي كان يزاول فيه مهنة الصحافة، كان عواد يزوّد مجلة «المكشوف» بمقالات دوريّة وقصائد وقصص، وكان أحد أركان هذه الحركة البارزين تأليفًا وتوجيهًا.وفي عام 1936 نشر «الصبيّ الأعرج» وهو الحلقة الأولى من سلسلة منشورات «المكشوف». وفي مقدّمته يتوجّه إلى القارئ، فيقول: «أنا لم أكتب هذه القصص وأدفعها إليك عبثًا بل هي الحياة التي عشتها- وهي قليلة حتى اليوم بعدد سنيّها، ولكنها كثيرة بالتجارب التي تمرّست بها- فتحت عينيّ على أشياء جميلة هنا وقبيحة هناك، فأردت وصف هذه الأشياء فلم أجد وسيلة إلى ذلك خيرًا من القصة»...«قميص الصوف»«قميص الصوف» هي المجموعة القصصية الثانية، وقد صدرت في 1937، بعد سنةٍ تمامًا من صدور «الصبيّ الأعرج»، فنالت من الرواج ما نالته المجموعة الأولى، وكرّست للمؤلف مكانته الرفيعة رائدًا لهذا النوع من الأدب في لبنان وسائر البلدان العربية.قصة «قميص الصوف»، وهي أولى حلقات الكتاب، هي قصة الحماة والكنّة، القصة الأزلية في كلّ عائلة شرقية. فالحماة ابنة القرية، والكنّة ابنة المدينة، لكن توفيق يوسف عوّاد يتجاوز النزاع التقليدي بين المرأتين، وبجرأة يخترق هذا الجدار ويدخل بنا إلى عالم مشحون بالإرشادات والانفعالات الجنسيّة.أما القصص الأخرى التي تضمّنتها المجموعة، فهي عبارة عن صور حيّة للمجتمع، وكما يقول الأديب رئيف خوري «يأتيها الجمال والقوّة من كونها شعبية صادقة، أبطالها من هؤلاء الذين يمرون على هامش الحياة، يهملهم التاريخ ولا يعبأ بهم المجتمع، وهم في الواقع أعظم قوّة في المجتمع والتاريخ».«الرغيف»تدور حوادث «الرغيف» خلال الحرب العالمية الأولى على ثلاثة محاور رئيسة: المجاعة في لبنان، الشهداء الذين علّقهم جمال باشا على المشانق، والثورة التي قام بها العرب على الأتراك.ويجمع النقّاد على اعتبار «الرغيف» ذروة الروايات العربية. وقد تلقّوها على أثر صدورها سنة 1939 على أنها حدث في تاريخ الأدب. فهي تنتقل بالرواية العربية من السرد التاريخي الجاف في أوائل القرن العشرين، والوعظ الأخلاقي الرتيب، وكذلك في محاولات الاقتباس والتقليد التي حفل بها العهد، إلى الإبداع الفنّي.تقول مي زيادة في هذا الكتاب: «لم يؤرخ أحد المأساة الغبراء التي عرفتها بلادي كما أرّخها توفيق يوسف عواد في «الرغيف». إن توفيق يوسف عواد قد عاشها عنّا جميعًا. وهو لا يحيا الأشخاص فيها والكائنات- بما فيها الجمادات- حياة مليئة فحسب، بل هو يحسّها إحساسًا فنيًا دقيقًا ويعبّر عن هذا الإحساس تعبيرًا فنيًا ممتازًا».«العذارى»استقال توفيق يوسف عوّاد من جريدة «النهار»، وأنشأ مجلة «الجديد» في العام 1941، وعُرفت بخطّها الوطني في معارضة الانتداب الفرنسي والمطالبة بالاستقلال.وفي عام 1944 صدرت «العذارى» وكان عوّاد قد تبوأ مكانته الرفيعة في عالم القصة بما صدر له من كتب. وهذه القصة أولى حلقات المجموعة في الكتاب- ترتفع عن المستوى القصصي إلى ما هو أسمى، فتبلغ مستوى الشعر بكل ما فيه من رموز وإيحاءات. ففيها نزع وريقات الأقحوانة الواحدة تلو الأخرى في لعبة «أتزوّج- أترهّب} على أيدي أبطال هذه القصة الشفافة، المتناهية في الرقة، كلّ لعبة الشعر، وكل لعبة الحب، بل كل لعبة الحياة والموت.ويمضي بنا الكاتب متنقلاً في المجتمع اللبناني من صورة إلى صورة، ومن قضيّة إلى قضية، في جوّ سحري يضفيه قلمه على كل ما يكتب.في الدبلوماسيّةجنّد توفيق يوسف عوّاد لمجلّة «الجديد» نخبة من أصحاب الأقلام، وحوّلها بعدئذ إلى شركة. لكن مع إطلالة العام 1946 دُعي إلى دخول السلك الدبلوماسي، فباع امتياز المجلة، وعُيِّن قنصلاً للبنان في الأرجنتين.بعد ثلاث سنوات نُقل عوّاد إلى رئاسة الدائرة العربية في وزارة الخارجية والمغتربين، وفي العام 1953 عُيِّن رئيسًا لأول بعثة ديبلوماسية في إسبانيا. ثم ألحق بسفارة لبنان في القاهرة برتبة وزير- مستشار، وفي العام 1959 عيِّن وزيرًا مفوّضًا في المكسيك. واستُدعي إلى الإدارة المركزية في العام 1960، وأسندت إليه مديريّة الشؤون الثقافية والاجتماعية. «السائح والترجمان»عاد توفيق يوسف عوّاد إلى التأليف بعد انقطاع سنين عدّة، وأصدر حواريّة «السائح والترجمان» في العام 1962، فنالت جائزة «أصدقاء الكتاب} لأحسن مسرحيّة.ونقتطف من رسالة وجّهها ميخائيل نعيمه إليه: «... في «السائح والترجمان» مقاطع لا يملّ القارئ ترديدها لما انطوت عليه من جمال السبك وحدّة الفكر والعاطفة. ولعلّ أبرزها ما جاء على لسان «صوت الزمان» في وصف تماثيل بعلبك المهشّمة، ووصف مخدع الحبّ، ووصف العمّال المسخّرين الذين لولاهم لما قام حجرٌ فوق حجر في هياكل بعلبكّ، ثم في وصف الآلهة التي عبدها الإنسان فلم ينلْه من عبادتها إلا العبوديّة، وفي وصف الهيكل الجديد الذي سيبنيه الإنسان المنعتق من ازدواجيته وما تخلقه من أوجاع وأوهام الخ.وفي الكتاب لفتات تباغت القارئ بالسرعة التي بها تنقله من جوّ إلى جوّ دون أقلّ تمهيد. مثلما فيه لفتات تُضنيه بكثافة رمزيّتها، إلا أنّها لا تعوقه في السير معك إلى النهاية التي تنشدها.إنّ «ضربة المعلم» في «السائح والترجمان» هي، من غير شكّ، في انتقائك خرائب بعلبكّ مسرحًا له. ثمّ هي في ذلك النشوق السحريّ الذي قدّمته إلى السائح بُعيد دخوله الخرائب، فاستطعتَ أن تنقله إلى واقع غير الذي يواجه كلّ سائح عند دخوله «القلعة» وخروجه منها: باعة مزعجون بجلبتهم وبما يعرضون من تافه المتاع للتذكار.حتى إذا انتهى فعل النشوق عدتَ بالسائح إلى الواقع البليد عينه الذي وجد نفسه فيه في بدء سياحته. وهذان الواقعان: واقع الوحي وواقع ما وراء الوعي، يلتقيان عندك على صعيد واحد من الزمان والمكان، فكأنّك تسأل القارئ: أيّ الواقعين يا صاحبي هو الواقع؟ وجوابك صريح لا شكّ فيه: إنّه الواقع الذي وراء ما درجنا على اعتباره واقعًا...».«طواحين بيروت»عاد اليراع إلى عافيته ونشاطه، فنشر المؤلّف «فرسان الكلام»، وهو نظرات في الأدب والأدباء، وأتبعه بـ{غبار الأيام» وهو مجموعة خواطر مستوحاة من الحياة اليومية.في عام 1966 عُيّن عواد سفيرًا في اليابان، فكتب وهو في طوكيو، روايته «طواحين بيروت» التي قال فيها أنسي الحاج: «هل تذكرون «الرغيف»؟ لا يزال توفيق يوسف عوّاد هو نفسه بعد ثلث قرن. بل هو اليوم أهمّ. لأنه، بعد ثلث قرن، عاد يكتب لجيل اليوم وعن جيل اليوم رواية اليوم. الرواية التي لم يكتبها لهذا الجيل أحد سواه. عجيب توفيق يوسف عوّاد، حسبناه دخل التاريخ، فإذا هو لا يزال يصنعه».وعلى أثر ترجمة «طواحين بيروت» إلى اللّغة الإنكليزيّة كتب باتريك سيل في مجلة «ميدل إيست إنترناشونال» يقول: «قبل أيّ واحد من الصحفيّين والسياسيّين والمحلّلين، قبل أيّ واحد من ممتهني قراءة المستقبل، أدرك توفيق يوسف عوّاد، بحدسه الفنّي والوطنيّ، أنّ شيئًا ما سينهار، وأنّ المجتمع اللبنانيّ- مجتمعه- يتداعى للسقوط. وهو في رائعته هذه- التي لها مكانها الرفيع في «بانتيون» الآداب- يتنبأ عن الكارثة بصوت صارخ، أقلّ ما يُقال فيه إنه يحملنا على الخجل عن مواطنيه، لأنهم سدّوا آذانهم عنه ولم يسمعوا إليه في حينه.«طواحين بيروت»- إنها ملحمة الجيل في لبنان والبلدان العربيّة تجاه قضاياه المصيريّة في العقيدة والسياسة والجنس». وقد اختارت منظمة الأونسكو العالمية «طوحين بيروت» في سلسلة «آثار الكتّاب الأكثر تمثيلاً لعصرهم»، وترجمت إلى الإنكليزية والروسية والألمانية.«مطار الصقيع»بين «مطار الصقيع» وبين مجموعته القصصية الأولى نحو أربعين سنة انصرف المؤلف خلالها إلى ممارسة أنواع أدبية أخرى كالرواية والمسرح والنقد والشعر...بقي المؤلّف على عهده كما عرفناه في قصصه السابقة من حيث حرارة الحياة وزخم دفقها على قلمه، ومن حيث قوة الشخصيات التي يصوغ منها أبطاله. مع هذا الفارق أنه في مجموعته الجديدة أحرص على الرمز واللمح، وأحنى على الكلمة، فهي هنا بين يديه كاللعبة الحلوة، أو كالحبيبة المدلّلة.وإذا كانت القصة الأولى، حاملة عنوان هذا الكتاب، تعالج مشكلة أكبر خطر يواجه الحضارة، بل العالم من حيث هو، نعني القنبلة الذرّية، فالقصص الأخرى كلّها تتّسم بهذا الطابع الإنساني الشامل، وتردّد فيها ما يعانيه أبناء العصر من مشاكل سياسية كما في «المشنقة والعصافير»، أو اجتماعية كما في «حنّا الفانوس»، أو جنسية كما في «المرآة».عناوين أخرىعُيِّن المؤلِّف سفيرًا في إيطاليا عام 1972 وفي أثناء قيامه بهذه المهمّة تعرّض لاعتداء قام به اليهود على السفارة، ونجا من الموت في آخر لحظة. وفي العام 1973 أصدر ديوان «قوافل الزمان» أو قصائد البيتين. وعندما أحيل إلى التقاعد عاد إلى لبنان وأقام في بيته الجبلي في بحرصاف هربًا من الحرب في العاصمة.وفي العام 1983 نشر سيرته في «حصاد العمر»، واتّبع فيها أسلوبًا فريدًا بناه على حوار داخلي، ثم تابع حياته إلى أن أصابته قذيفة بينما كان في زيارة ابنته وصهره سفير إسبانيا فقتلوا جميعاً.امتاز أدب توفيق يوسف عوّاد بالعمق والشمول وحرارة التعبير، وصدقه وأسلوبه في السرد هو السهل الممتنع مع قوة في الإيحاء تضفي على كتاباته جوًا أخاذًا بعيد المرامي. وهو في وصفه لإنسان القرية وإنسان المدينة، في قصصه ورواياته، يصوِّر الإنسان في كل مكان. نرى أبطاله في وجوه الناس من حولنا، نعايشهم في أفراحهم وأتراحهم، ونشاطرهم صراعهم مع القدر. ومن هنا كان تأثيره البالغ وقيمته الباقية. ونحن لم نطمح في هذه المقالة إلى تحليل أدب توفيق يوسف عوّاد، وإنما هدفنا أن نقدّمه إلى القراء كاتبًا فارسًا مرّت على ولادته مئة سنة!مسيرة في سيرة- 1911 ولد في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) في بحرصاف، قضاء المتن في جبل لبنان.- 1920 بدأ دراسته تحت السنديانة في بلدته.- 1923 تابع دراسته الثانوية في كلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، وتولى العلامة الأب روفائيل نخلة تنشئته الأدبية.- 1927 بدأ ينشر في مجلة «العرائس» سلسلة مقالات نقدية حمل فيها على أدب التقليد.- 1931 التحق بجريدة «البيرق»، ثم تولّى سكرتيرية التحرير في جريدة «القبس».- 1933 عقد زواجه في دمشق، ثم انتقل إلى بيروت رئيسًا لتحرير جريدة «الراصد».دعاه جبران التويني إلى تولي سكرتيرية التحرير في جريدة «النهار» التي أمضى فيها 8 سنوات.- 1936 نشر «الصبي الأعرج»، وأتبعها في عام 1937 بـ{قميص الصوف»، وفي 1939 برائعته «الرغيف».- 1941 استقال من «النهار» وأنشأ مجلة «الجديد».- 1944 أصدر «العذارى».- 1946 باع امتياز «الجديد» وعيِّن قنصلاً للبنان في الأرجنتين.- 1959 عيِّن وزيرًا مفوضًا في المكسيك.- 1962 أصدر حوارية «السائح والترجمان» فنالت جائزة «أصدقاء الكتاب} لأحسن مسرحية.- 1963 نشر «فرسان الكلام» وهو نظرات في الأدب والأدباء ونشر أيضًا «غبار الأيام» وهو مجموعة خواطر.- 1966 عيِّن سفيرًا في اليابان.- 1969 كتب وهو في طوكيو روايته «طواحين بيروت»، ومجموعة قصصه «مطار الصقيع».- 1972 عيِّن سفيرًا في إيطاليا، وتعرّض لاعتداء من اليهود نجا منه بأعجوبة.- 1989 توفي مع ابنته وزوجها سفير اسبانيا إثر إصابتهم بشظايا قذيفة انفجرت في السفارة.