الثورة الفلسطينية 1936(1/3): القسَّام يجمع الفلاحين للانتقام من سارقي أرض الزيتون

نشر في 17-08-2011 | 22:02
آخر تحديث 17-08-2011 | 22:02
لم يشهد التاريخ الفلسطيني المكتظ بالهبَّات والثورات شبيهاً بثورة 1936، التي مثلت حالة فريدة في النضال بكل أشكاله ضد عدوَّين في وقت واحد: قوات الانتداب البريطاني وعصابات الاستيطان الصهيوني المُدجَّجة بالسلاح والمحمية من قوات الانتداب.

جاءت ثورة 1936 لتشكل قمة هرم الغضب الفلسطيني المكبوت لعدة عقود من النشاط الاستيطاني لليهود في بلدهم المحتل، والذي بلغ ذروته بعد تولي الحزب النازي الحكم في ألمانيا في يناير من عام 1933. وحفلت الفترة من 1919 - عام وعد بلفور - حتى 1936 بالكثير من الصدامات الدموية بين الشعب الفلسطيني والمستوطنين اليهود، المدعومين بقوات الانتداب البريطاني، التي كانت لا تتورَّع عن الانحياز بوضوح إلى جانب اليهود.

في عام 1928 خطا اليهود خطوة كبيرة نحو الصدام مع الشعب الفلسطيني عندما هتف عدد من اليهود بالقرب من حائط البراق «الحائط حائطنا والقدس قدسنا» في ذكرى خراب الهيكل، بحسب مزاعم اليهود، فتولت القوات البريطانية حماية هؤلاء اليهود، ومر الحادث بسلام، ما شجع يهوداً على تكرار الأمر في العام التالي، ورد العرب عليه بانتفاضة ضخمة عرفت بـ»هبة البراق» شملت ثلاث مدن رئيسية هي القدس والخليل وصفد فضلاً عن بعض الصدامات الأقل في مناطق أخرى مثل مدينة يافا.

واستمرت ثورة البراق أسبوعين سقط خلالها 116 شهيداً و232 جريحاً بينما سقط من الجانب اليهودي 13 قتيلاً وجرح 329، ولم تكتفِ سلطات الانتداب بهذه الجريمة، ولكنها أكملت باعتقال 972 عربياً وحكمت بالإعدام على عشرين منهم، خفضت الحكم على 17 منهم ونفذت الحكم على ثلاثة من الشباب هم فؤاد حجازي من صفد، وعطا أحمد الزير ومحمد جمجوم من مدينة الخليل. بينما لم يحكم بالإعدام إلا على يهودي واحد هو يوسف إبراهيم مزراحي والمعروف باسم «خانكن» ولم ينفذ فيه حكم الإعدام وسجن ستة أعوام فقط.

بعد انتهاء «هبة البراق» وعودة الهدوء إلى فلسطين شكلت حكومة الانتداب البريطاني لجنة تحقيق في أسباب الهبة عرفت باسم (لجنة شو)، وأوصت اللجنة بإرسال لجنة دولية لتحديد حقوق العرب واليهود في حائط البراق، وقد وافقت جمعية عصبة الأمم على هذه التوصية بقرار أصدرته يوم 14يناير 1930، وتشكلت بموجبه لجنة من ثلاثة أعضاء من غير الجنسية البريطانية مهمتها «تسوية مسألة حقوق مطالب اليهود والمسلمين في حائط المبكى، لأن هذه المسألة تستدعي حلاً سريعاً ونهائياً».‏

وتشكلت اللجنة من ثلاثة أعضاء من السويد وسويسرا وإندونيسيا، ووصلت إلى القدس في 19 يونيو حيث بدأت عملها الذي استمر شهراً واحداً عقدت خلاله 33 جلسة، واستمعت إلى وجهات نظر الفريقين، العربي واليهودي، كما استمعت إلى شهادات 52 شاهداً قدمهم الفريقان اللذان زوَّدا اللجنة أيضاً بـ 61 وثيقة، وانتهت اللجنة من وضع تقريرها في مطلع ديسمبر من العام 1930، وخلصت فيه إلى أن ملكية الحائط الغربي للحرم القدسي تعود إلى المسلمين وحدهم، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لأنه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم القدسي الشريف، التي هي من أملاك الوقف، وتعود إليهم أيضاً ملكية الرصيف الكائن أمام حائط البراق وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، لكون الرصيف موقوفا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير.‏

أمير المجاهدين

يعتبر تنظيم الشيخ عزالدين القسام واحداً من أعقد التنظيمات السرية التي عرفتها المنطقة العربية على الإطلاق، فالتنظيم الذي بدأه القسام عقب وصوله إلى فلسطين عام 1922 لم يتم الكشف عن وجوده إلا بعد استشهاد القسام في نوفمبر من العام 1935، فالرجل كان حريصاً أشد الحرص على مبدأ السرية، لدرجة أن سكان حيفا الذين عاش وسطهم القسام سنوات طويلة لم يعرفوا عنه إلا أنه واعظ ديني اشتهر بينهم بتقواه وصدقه ووطنيته، كما كانت منطقة شمال فلسطين كلها تعرفه إماما وخطيباً بارعاً ومأذوناً شرعياً.

ولد الشيخ عز الدين القسام في بلدة (جبلة) التابعة لقضاء اللاذقية في سورية على الأرجح في عام 1882، ونشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، وبعد تفوقه في دراسته في الكتّاب، ألحقه أبوه بالأزهر الشريف في عام 1896، فتلقى العلم على يد الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، حتى عاد إلى سورية عام 1906 بعد حصوله على شهادة الأهلية، ثم قام برحلة إلى تركيا للاطلاع على طرق التدريس في مساجدها، وبعد عودته عكف على التدريس في المساجد، كما قاد مظاهرة ضخمة طافت شوارع جبلة تنديداً بالعدوان الإيطالي على ليبيا عام 1911، داعياً إلى التطوع لقتال الإيطاليين إلا أن السلطات التركية منعته ورفاقه المتطوعين من السفر.

في عام 1920 لم يكن القسام بحاجة للسفر من سورية للجهاد خارجها فقد جاءه العدو إلى عقر داره، وقامت القوات الفرنسية بغزو سورية، ولم يكن غريباً على القسام الانخراط في الصفوف الأولى لمقاومة الفرنسيين، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات موقع حصين هي قرية الحفة ليشارك في ثورة الشيخ صالح العلي (1919 - 1920).

وحاول الفرنسيون إغراء القسام بالمناصب لترك الثورة، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الفرنسيون، وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، حتى إذا فشلت الثورة واستتبت الأوضاع مؤقتاً للمحتل الفرنسي قصد الشيخ عز الدين القسام دمشق ومنها إلى فلسطين، ونزل في قرية الياجور القريبة من مدينة حيفا.

واصل القسام ما بدأه في سورية من جهاد ومقاومة، وبدأ في إعداد العدة لقتال قادم لا محالة، وحتى يأتي هذا اليوم عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، ثم إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني، تم أسس القسام جمعية الشبان المسلمين عندما انتشرت الجمعيات التبشيرية في فلسطين وفتح لها عدة فروع في أكثر قرى اللواء الشمالي من فلسطين، كغطاء لتنقلاته ولقائه بالقرويين وإعدادهم للثورة التي يخطط لها.

التنظيم السري

في عام 1930 عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية، وكانت الوظيفة الجديدة وسيلة أخرى للاتصال بمختلف فئات الشعب الفلسطيني، وبهذه الصفة تنقل بين قرى ومدن شمال فلسطين، وأقام علاقات قوية بعائلاتها وأعيانها، ولكن عين القسام كانت على الشباب فهم وقود تنظيمه المنتظر وعموده الفقري، وخلال الأعراس كان القسام يختار وينتقى من يصلح لعضوية التنظيم، ولكن لا يضمه فعلياً إلا بعد دراسة وتمحيص واختبار قد يستمر لعدة سنوات.

وكانت شروط عضوية تنظيم القسام صارمة لا تهاون فيها، أولها الالتزام الديني والرغبة في البذل والعطاء، والقوة الجسدية، والسمع والطاعة، وكتمان السر، وكان القسام يفضل أبناء القرى على أبناء المدن في عضوية التنظيم، لقدرتهم على تحمل الصعاب أكثر من غيرهم ومعرفتهم بالطرق والجبال، لذلك كان اعتماد القسام على العمال والفلاحين في تنظيمه أكثر من اعتماده على الموظفين والتجار.

بدأ القسام في إعداد تنظيمه للمعركة المقبلة مع العدو ذي الرأسين، الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، على خلاف كل قادة الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية العلنية، التي كانت ترى عدوَّها الوحيد المشروع الصهيوني، بينما قوات الانتداب البريطاني هم «أصدقاء وحلفاء»، وأخذ القسام يعد العدة بتجهيز الأسلحة والعتاد معتمداً على امكانيات قليلة لعل أبرزها استقدامه كمية من السلاح من سورية، من بقايا سلاح رفاقه القدامى في ثورة صالح العلي، التي خبت جذوتها في عام 1922 ولم يبخل عليه ثوار سورية بما في أيديهم من سلاح قليل، وبعضه عتيق، لدرجة أن بندقية أحد الثوار كانت مصنوعة في البرازيل قبل الثورة بأكثر من نصف قرن!

وعندما اندلعت «هبة البراق» سنة 1929 حاول بعض أعضاء تنظيم القسام إقناع قائدهم بأن اللحظة المناسبة لبدء الجهاد قد آن أوانها، وأنه يجب اقتناص فرصة الهبة الشعبية في مدن الضفة الغربية، لكن القسام كان له رأي آخر، فاللحظة الثورية لم تأت بعد، ولم يبدأ القسام ثورته إلا بعدها بست سنوات في ظرف رأى فيه إمكانية نجاح الثورة في تحقيق أهدافها بتحرير فلسطين من قوات الانتداب البريطاني والقضاء على المشروع الصهيوني. لكن كان هناك من تنظيم القسام من انشق عنه بسبب هذا الرأي، وعلى رأسهم الشيخ خليل محمد عيسى الذي اعتبر أن الوقت قد حان لإعلان الثورة إذ إن الخطر يهدد كيان البلاد وأنه يجب أن تجبى الأموال اللازمة للثورة من الشعب الفلسطيني بكل وسيلة ممكنة.

ويمكن تقسيم المراحل الزمنية لتنظيم القسام كالتالي: مرحلة الإعداد النفسي ونشر روح الثورة وبدأت هذه المرحلة منذ قدوم القسام إلى فلسطين عام 1922 وحتى 1925.

المرحلة الثانية: هي مرحلة بناء تنظيم عسكري سري يغطي شمال فلسطين كلها، كما سعى القسام لمد تنظيمه إلى كل فلسطين عندما طالب الحاج أمين الحسيني بتعيينه واعظاً عاماً في كل فلسطين ولكن طلبه لم يلقَ قبولاً.

وقسم القسام تنظيمه إلى حلقات سرية لا تزيد الحلقة على خمسة أشخاص عليهم نقيب في القيادة والتوجيه، وكان كل فرد يسهم شهرياً بمبلغ من المال حسب طاقته بما لا يقل عن عشرة قروش.

كما تم تقسيم التنظيم إلى وحدات تتولى الوحدة الأولى منها شراء السلاح وتتولى الوحدة الثانية مهمة التدريب العسكري ويشرف عليها ضابط ممن خدموا في الجيش التركي. أما الوحدة الثالثة فتم تكليفها بالتجسس على اليهود والإنكليز لمعرفة خططهم السرية وهؤلاء كانوا من العمال الذين يشتغلون في المصالح الحكومية وخاصة دوائر البوليس وقسم منهم يعمل مع اليهود لمعرفة النشاط السري للأحزاب اليهودية.

الوحدة الرابعة كانت من العلماء وعملها الدعاية للثورة في المساجد والمجتمعات. وتم تجهيز الوحدة الخامسة للاتصالات السياسية.

في عام 1935 التقط القسام ما يمكن تسميته بـ»اللحظة الثورية» وذلك عندما انكشف مخطط تهريب اليهود الأسلحة والذخيرة إلى داخل فلسطين، عندما انفرط عقد أحد البراميل في ميناء يافا، والتي كان من المفترض أنه يحتوي أسمنت ولكن البرميل انكسر وظهرت به أسلحة وذخيرة مهربة لجهات صهيونية، وأضرب عمال الميناء العرب عن العمل احتجاجاً على عمليات التهريب.

البؤرة الثورية

في هذه الأثناء كان عدد أعضاء تنظيم القسام بلغ مئتي ثائر، واعتقد القسام أن الثورة آن أوانها، فبدأ بتنفيذ خطته التي تعتمد على فكرة تشبه إلى حد كبير فكرة «البؤرة الثورية» التي ابتكرها المناضل اليساري أرنستو تشي جيفارا، والتي تعتمد على التركيز على منطقة جغرافية بعينها والقيام بعدة عمليات مسلحة في إطارها الجغرافي، ما يدفع أبناء هذه المنطقة إلى الانحياز والانضمام للثوار.

في الثاني عشر من نوفمبر سنة 1935 عقد آخر اجتماع في مدينة حيفا مركز الثورة الرئيسي في منزل القائد محمود سالم المخزومي، وقرر المجتمعون إعلان الثورة في المناطق الجبلية، وانتقال عشرات من أعضاء تنظيم القسام المدربين عسكرياً إلى قضاء جنين لدعوة الشعب للاشتراك في الثورة المسلحة على نطاق واسع ولقيادة فرق الثوار.

في هذه الليلة غادر الشيخ عز الدين القسام مدينة حيفا للمرة الأخيرة قبل أن يعود إليها شهيداً، ومعه أكثر من خمسة وعشرين من رفاقه من مدينة حيفا إلى قرى قضاء جنين. ودخل القسام كفر دان ومنها أرسل الرسل إلى قرى يعبد وعرابة وفقوعة وصندلة وقباطية ليشرحوا أهداف الثورة الوطنية وكان أهالي هذه المناطق يعرفون الشيخ القسام من على منبر جامع الاستقلال في حيفا ومن خلال زياراته لتلك القرى لذلك استجاب له عدد كبير من الرجال المخلصين.

كانت خطة القسام هي تجميع عدد كبير من الثوار، واحتلال دوائر الحكومة في حيفا والاستيلاء على الأسلحة الموجودة بها، وتسليمها للثوار للقيام بأعمال فدائية واسعة تمنع إقامة دولة يهودية في أي جزء من أرض فلسطين، وتركز ضرباتها على قوات الانتداب البريطاني الداعمة للعصابات الصهيونية.

وكانت الخطة تقوم على استثمار عنصر المفاجأة، لكن خطأ بسيطاً وقع فيه أحد القساميين أدى إلى ضياع عنصر المفاجأة، فبينما كان المجاهد محمود سالم يقوم بالحراسة في ليلة الرابع عشر من نوفمبر مع زميل له قرب قرية فقوعة شاهدا دورية بوليس فرسان مكونة من شاويش يهودي وبوليس عربي من مستعمرة عين حارود وعندما تقدم الشاويش اليهودي من مركز الحراسة الأمامي طلب منه التسليم فرفض عندها أطلق محمود سالم رصاصتين أردتاه قتيلاً وهرب زميله حيث أعلم مركز بوليس الجلمة بما حدث.

قامت قوات كبيرة من البوليس الإنكليزي في صباح اليوم التالي بتطويق عدة قرى للبحث عن قاتل الشاويش اليهودي، أدت إلى اشتباك مسلح قرب قرية البارد أسفر عن استشهاد الشيخ محمد الحلحولي من قضاء الجليل وقتل اثنين من البوليس. وتطورت الأمور بسرعة وتحركت قوات كبيرة من البوليس الإنكليزي في صباح التاسع عشر من نوفمبر تقدر ما بين أربعمئة إلى ستمئة رجل إلى قضاء جنين وطوقت قرى يعبد واليامون وبرقين وكفر دان وفقوعة.

كان الشيخ عز الدين القسام وأحد عشر من رجاله في قرية الشيخ زيد داخل أحراش يعبد وهم: محمد الحنفي أحمد ويوسف الزيباوي وحسن الباير وأحمد جابر وأسعد كلش من قرية أم الفحم السيد عربي بدوي ونمر السعدي وناجي أبو زيد ومحمد يوسف والشيخ داوود خطاب وتوفيق الزيري.

وضع البوليس الإنكليزي خطة لمحاصرة قرية الشيخ زيد لقطع الاتصال مع القرى المجاورة خوفاً من وصول النجدة إلى المحاصرين، وتنبه القسام لعملية التطويق الواسعة فأمر رفاقه بالاستعداد للقتال والدفاع حتى آخر قطرة من دمائهم وفور صدور أوامر القسام وقع القتال بين قوتين غير متكافئتين عدداً وعدة كان كل ثائر يقابله نحو أربعين جندياً من البوليس.

قاتل الشيخ عز الدين القسام وإخوانه الذين رفضوا الاستسلام ببسالة وقتلوا عدداً من البوليس الإنكليزي واستمر إخوان القسام في المعركة ست ساعات كاملة حتى استشهد الشيخ عز الدين القسام في 20 نوفمبر، ولم يتوقف القتال بين الطرفين إلا بعد استشهاد القائد وإدراك المقاتلين أنه لا جدوى من الاستمرار في القتال بعد طلوع الشمس، وضرورة الانسحاب والاستعداد لجولة أخرى لاحقة. وجرح في هذه المعركة الشيخ نمر السعدي كما أسر الشيخ أحمد جابر والسيد عربي بدوي والشيخ محمد يوسف وتمكن من الإفلات من الطوق الشيخ معروف حجازي والشيخ توفيق الزيري والشيخ ناجي أبو زيد.

وخسر المقاتلون ثلاثة شهداء هم الشيخ عز الدين القسام (سوري)، والشيخ محمد حنفي أحمد (مصري) والشيخ عبد الله الزيباوي (فلسطيني) وكأن استشهاد ثلاثتهم يؤكد على عروبة القضية الفلسطينية في مراحلها الأولى، ووحدة المصير بين أقطارها. وفي الصباح اكتشفت قوات العدو أن الشيخ ذا اللحية البيضاء والمجندل على التراب بملابسه الدينية هو الشيخ عز الدين القسام ووجدت معه مصحفا وأربعة عشر جنيها ومسدسا كبيرا.

من جانبها، أنكرت قوات الانتداب البريطاني عدد خسائرها من قتلى وجرحى وإن كان شهود العيان من القرى المجاورة أكدوا أن سيارات الإسعاف البريطانية نقلت عدداً كبيراً من جثث قتلى القوات البريطانية وجرحاها، وأن عدد المصابين كان بالعشرات رغم اختلاف الفجوة الكبيرة بين هذه القوات وبين مجموعة القسام من حيث العدد والعدة. كما تفوقت القوات البريطانية بتمركزها في مواقع مرتفعة في أحراش يعبد زادت من صعوبة مقاومة مجموعة القسام، والتي - رغم كل هذه الصعوبات - قاتلت لليلة كاملة ولما يجبرها على الانسحاب إلا سطوع شمس اليوم التالي. بعد المعركة جرت محاكمات عسكرية للأسرى وحكم على كل من حسن الباير ومحمد يوسف وعربي بدوي وأحمد جابر بالسجن خمسة عشر عاماً، وحكم غيابياً على نمر السعدي بالسجن سنتين وقد اعتقل بعد المحكمة بعدة أشهر.

بعد استشهاد القسام اختار رفاقه الاختفاء في الجبال لإتمام رسالته الثورية في الوقت المناسب، وكمنت بقية خلايا التنظيم إلى حين. ولم يستمر كمونهم طويلا فبعد ستة أشهر بالضبط أشعلوا ثورة في كل ربوع فلسطين استمرت ثلاث سنوات.

زفة شهداء «هبة البراق»:

من سجن عكا طلعت جنازة

يذخر التراث الفلسطيني بعدد كبير من الأناشيد والأغاني الشعبية، التي صورت أحداثاً وأياماً من تاريخ الشعب الفلسطيني، لكن يبقى نشيد «من سجن عكا طلعت جنازة» هو الأشهر من بين هذه الأناشيد رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على غنائه للمرة الأولى في عام 1930 عقب تنفيذ حكم الإعدام بحق ثلاثة فلسطينيين شاركوا في هبة البراق هم فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم. ولا يكاد يخلو ملتقى للتراث الفلسطيني من غناء نشيد من سجن عكا، هذا النشيد الذي لا يعرف ناظمه.

كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا عالموت

أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد

وصاروا مثل يا خال وصاروا مثل يا خال

طول وعرض لبلاد...

يا عين...

نهوا ظلام السجن يا أرض كرمالك

يا أرض يوم تندهي بتبين رجالك

يوم الثلاثا وثلاث يا أرض ناطرينك

من اللي يسبق يقدم روحه من شأنك

يا عين...

***

من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه عموما

محمد جمجوم ومع عطا الزير فؤاد الحجازي عز الدخيرة

أنظر المقدم والتقاديري بحْكام الظالم تيعدمونا

ويقول محمد أن أولكم خوفي يا عطا أشرب حصرتكم

ويقول حجازي أنا أولكم ما نهاب الردى ولا المنونا

أمي الحنونة بالصوت تنادي ضاقت عليها كل البلادي

نادوا فؤاد مهجة فؤادِ قبل نتفرق تيودعونا

بنده ع عطا من وراء البابِ أختو تستنظر منو الجوابِ

عطا يا عطا زين الشبابِ تهجم عالعسكر ولا يهابونَ

خيي يا يوسف وصاتك أمي أوعي يا أختي بعدي تنهمي

لأجل هالوطن ضحيت بدمي كُلو لعيونك يا فلسطينا

ثلاثة ماتوا موت الأسودِ جودي يا أمة بالعطا جودي

علشان هالوطن بالروح جودي كرمل حريتو يعلقونا

نادى المنادي يا ناس إضرابِ يوم الثلاثة شنق الشبابِ

أهل الشجاعة عطا وفؤادِ ما يهابوا الردى ولا المنونا

لم يكن هذا النشيد هو التخليد الوحيد لذكرى الشهداء الثلاثة بل كانت هناك عدة قصائد شعرية روت قصة الاستشهاد وصمود ثلاثة من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين.

وارتقى الشهداء الثلاثة يوم (الثلاثاء) 17 يونيو 1930، وأطلق عليه الفلسطينيون «الثلاثاء الحمراء». ويروي الشعب الفلسطيني أحداث ذلك (الثلاثاء) بمزيج من الألم والفخر بما أبداه الثلاثة من ثبات وصمود في وجه جلاديهم، حيث تنافس الثلاثة في الإقدام على المشنقة، وطلب الزير وجمجوم حناء ليخضبا أيديهما، للدلالة على الفرح بالشهادة.

فؤاد حجازي (1904-1930)

أول الشهداء الثلاثة الذين نفذت فيه سلطات الانتداب البريطاني حكم الإعدام في سجن عكا عقب ثورة البراق وكان أصغر الثلاثة سنا، ولد في مدينة صفد وتلقى فيها دراسته الابتدائية ثم الثانوية في الكلية الإسكتلندية، وأتم دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية ببيروت، عرف منذ صغره بشجاعته وجرأته، شارك مشاركة فعالة في مدينته في هبة البراق.

محمد خليل جمجوم (1902-1930)

ولد في مدينة الخليل وتلقى دراسته الابتدائية فيها، وعندما خرج للحياة عرف بمقاومته للصهيونيين فكان يتقدم المظاهرات التي تقوم في أرجاء مدينة الخليل احتجاجا على شراء أراضي العرب أو اغتصابها. شارك في هبة البراق، وقبضت عليه السلطات البريطانية وحكم عليه بالإعدام وعندما أبلغهم الجلاد موعد تنفيذ الحكم بدأ محمد جمجوم ورفيقاه بإنشاد نشيد:

يا ظلام السجن خيم ***  إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا *** نور فجر يتسامى

ثم استقبلوا زائريهم قبل إعدامهم بساعة وأخذوا بتعزيتهم وتشجيعهم وهم وقوف بملابس السجن الحمراء. وفي الساعة التاسعة نفذ حكم الإعدام شنقا وكان ثاني الشهداء رغم أنه كان مقررا أن يكون ثالثهما فقد حطم قيده وزاحم رفيقه عطا الزير على الدور الثاني حتى فاز به.

عطا الزير

ولد في مدينة الخليل، وألم بالقراءة والكتابة إلماما قليلاً، وكان يقرض الشعر أحيانا، عمل في عدة مهن يدوية، واشتغل في الزراعة، وعرف عنه منذ الصغر جرأته وقوته الجسمانية وعندما قاده جلاده إلى منصة الإعدام طلب أن تفك قيوده لأنه لا يخشى الموت، فرفض طلبه.

وقد رثا الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان الشهداء الثلاثة بقصيدة هي «الثلاثاء الحمراء» يقول في مطلعها.

لما تعرَّض نجمـك المنحـوسُ

وترَّنحت بعرى الحبال كؤوس

ناح الأذان وأعـول الناقـوس

فالليل أكدر والنهار عبوس

back to top