رشا الأمير في كتاب الهمزة... مرافعة أعادت التاج والصولجان إلى الحرف المظلوم

نشر في 19-02-2012 | 00:01
آخر تحديث 19-02-2012 | 00:01
No Image Caption
من الصعب جدّا أن يتعلم الإنسان اللغة العربيّة من دون أن تكون له حكايات مع كتابة الهمزة. فالهمزة معضلة على مستوى الكتابة، وللأسف الشديد، فإنّ طالباً قد يرسب في امتحانات الشهادة الرسميّة لأنّ الهمزة طالما كمنَتْ له على طريق المدرسة وطالما كتبها كيفما اتّفق على الطريقة المصريّة: «زيّ ما تجي تجي ويا ربّي تجي بـِ عينو». خصَّت الروائيّة رشا الأمير همزة العرب باهتمام لافت يستحقّ التوقّف عنده وهو متمثّل بـ «كتاب الهمزة» الصادر عن «دار الجديد».

في «كتاب الهمزة» سردٌ ينبض بالتشويق لحكاية الهمزة منذ زمن اللّغويّين والإملائيّين الأوائل، وصولاً إلى زمننا الذي صارت فيه اللغة والأدب كَرْماً على درب يتعرّضان للإساءة، على مدار الساعة من جحافل المدَّعين الأميّين، الزاعمين مواهب لا تتّسع لها عقولهم المحشوّة رملاً وهشاشة وفراغاً... وقد ساهم في مدّ كتاب الأمير بالحياة ريشة الرسّامة دانيال قطّار، وريشة الخطّاط علي عاصي.

لقصّة الهمزة بطلان لا ينفصلان ويقودان مياه البوح إلى طاحونة واحدة، وهما: الهمزة، وبدر. الهمزة، وبحسب بطاقة هويّتها في الكتاب هي من عمر اللّغة العربيّة، ومن أبرز خصائصها أنّها زئبقيّة، وعاشقة. و{بَدْر» هو حبيب قلبها، أمّا «بَدْر» فهو الملقّب ببدر الهمزات، وعمره عشر سنوات، ويُشْهَد له بأنّه طالب نجيب وجدّيّ وعنيد.

نجحت الأمير في نسج الصداقة بين بطلَي كتابها، وهي من مستهلّ السّرد تعلن همزتها ذات قضيّة محقّة فـ: «الكتبة جميعهم يعرفونها. يعرفونها أجل، إلاّ أنّهم لا يبالون بأمرها ولا يعترفون بها حرفاً مستقلاً مرهفاً وراقياً». إذاً، إنّ المسألة كبيرة جدّا، فالهمزة حرف صحيح النسب إلى اللغة العربيّة وقد تعرَّض للاغتيال ليحلّ محلّه حرف آخر هو «حرف هاوٍ»، وعمليّا هو على صعيد النطق امتداد للفتحة كما أنّ الواو والياء حين يكونان حرفَي مدّ هما امتداد للضمَّة والكسرة.

وتحاول الأمير إظهار همزتها على امتداد النصّ، بالمضطهدة، كما تحاول مَدَّها بالكثير من الأنوثة: «يعذّبونها وكأن لا عدوّ غيرها في هذه اللّغة الشاسعة الواسعة. فتحزن، تحزن، تكفهرّ وتتدلّل، طالبة اللجوء العاطفي في أكناف أشعر الشعراء وألذّهم، أكثرهم غزلاً وحنوّاً». وكي تعفي الأمير نفسها من المباشرة والشرح والوعظ، استعانت كثيراً بالهمزة ووضعت على لسانها ما شاءت بعد معرفة هي بنت أبحاث إملائيّة ولغويّة شاقّة وطويلة. كذلك استعانت ببدر عن صفّ مدرسيّ أو جمهور مستمع...

وتستمرّ الهمزة بالتعريف عن نفسها: «... إنّني نقيض الحرف الهاوي، أنا ناطقة منطوقة... نزيلة الألف والواو، وكرسيّ الياء ولا أخاف حضيض السطور». وليت الأمير ذهبت إلى إعلان الواو والألف كرسيّين للهمزة مثل الياء.

وإذا كانت الهمزة تملأ لبدر بطاقة هويّتها وتزوّده بسيرة حياتها فليعلن هو ذلك وينشره ويبشّر به. وهي تدعّم قولها بالأدلّة والإثباتات: «العارفون بعلم الحروف، كعثمان بن جنّي وأبي العبّاس ثعلب، يجزمون أنّ الألف ليست حرفاً. فهذه العصا «ا» النحيلة وهذا الكرسيّ غير المنطوق «ى»، هل تستطيع أنت أو غيرك النطق بهما إن لم أجلس أنا تاجاً لهما؟»، ولا شكّ في أنّ هذا الكلام يحمل الأخذ والردّ لأنّ الألف لا ينطق بها حين تكون الهمزة فوقها فهي ليست أكثر من كرسيّ لها وما حضورها سوى شكليّ وتزيينيّ. وإذا كانت الأمير مصرّة على الألف، حين الهمزة فوقها، حرفاً فهذا يعني أنّنا أمام حرفين في الوقت نفسه: الهمزة والألف، بينما في الواقع نحن أمام حرف واحد وهو الهمزة. وهذا المنطق ينسجم مع طرح الأمير في بداية كتابها للهمزة حرفاً مستقلاً.

يبدو لافتاً لقارئ «كتاب الهمزة» المجاز الخفيف الظلّ الملائم لهمزة تنطق بما هو ثائر في عقل روائيّة وقلبها: «بدر، بدر، أتحبّ صُوَري الأخرى؟ ما رأيك بي فارسة على صهوة الحروف الجامحة؟ ما رأيك بي بوهيميّة تفترش الأرض؟». تعرف رشا الأمير أن تمضي إلى أناقة الكلام وتوجّه خيالها نحو الجديد الذي يشعرك كقارئ بالغرابة اللذيذة لا بالغربة عن النصّ أو فيه.

مهارات

في العودة إلى فصول الحكاية، يظهر بدر مضطهداً من أستاذه ميخائيل مثلما هي الهمزة مضطهدة، وينال القصاص لأنه اتُّهم ببثّ الشائعات، لكنّ صديقته الهمزة لا تتردّد في مساعدته: «سأكتب معك ما تسبّبته لك من قصاص»، وتتابع سرد مهاراتها التي تتفرّد فيها بين إخوتها: «أنا في كاس مختفية، وفي كأس ظاهرة. أنا في رديّة مختبئة وفي رديئة ظاهرة».

وبفضل الهمزة أمسى بدر علماً من أعلامها تدين له مدرسته بكلّ ما يولي به من حقائقها وأحيا احتفالاً مدرسيّاً على شرفها بطلب من المدير. في سياق بوح الهمزة، التي سلكت مع بدر مسلك شهرزاد مع شهريار من حيث السرد بالتقسيط، أعلمَته أنّ: «الحركات... موسيقى اللّغة» وهي سبع: «الفتحة، الكسرة، الضمّة، وهنّ الحركات الصغرى، والسكون. تضاف إليها الحركات الكبرى، وهنّ ياء المدّ الساكنة، وواو المدّ الساكنة وألف المدّ الساكنة». بهذا الكلام تحسم الأمير قضيّة الهمزة الحرف مدخلاً إلى حديقة الحروف العربيّة، وتسقط ألف المدّ وواوه وياءه كحروف، وهي بذلك تلتقي مع علوم اللغة الحديثة التي تجد ما تستند إليه عند بعض اللغويّين القدامى.

سلّمت الهمزة بدر: «مفتاح بستان الهمزات»، ثمّ سلّمه المدير في مهرجان الهمزة الكبير: «جائزة المهماز الذهبيّ»، وتحوّل من تلميذ يدفع ثمن التبشير بالهمزة قصاصاً إلى معلّم صغير يحمل سرّ الهمزة في صدره مثلما تحمل الجرّة الخبيرة سرّ البئر.

لا بدّ من الاعتراف للروائيّة رشا الأمير بأنّها محامية إملائيّة ولغويّة بارعة، استطاعت أن تنصف الهمزة وتعيدها إلى عرشها حرفاً أصيلاً، وتمكّنت من إقناع السّرد بتبنّي قضيّة الهمزة فعطّرَت جملها برحيق التشويق وفتحت نوافذ معرفيّة جانبيّة من خلال بعض الشرح والتفسير لخدمة نصّها وإغنائه، ليغدو «كتاب الهمزة» سيرة حياة مشوّقة لحرف حمل الظلم منذ مئات السنين إلى أن أتى من يتبرّع للدفاع عنه مجّاناً ويعيد إليه التاج والصولجان بمرافعة اجترح العلمُ والجمالُ نجاحَها.

back to top