عطر الليل الباقي

نشر في 19-11-2011 | 00:01
آخر تحديث 19-11-2011 | 00:01
No Image Caption
سقوط الليل

في الساعة الأولى بعد منتصف الليل كنت استمع إلى موسيقى وردية لشوبان في غرفتي الوارفة البياض المليئة بالحنين الغافي على قميصي المطرز بجوري الذكريات.

قمت للمرآة لأبحث عن وجهي الخاص، وجدت مرآتي مكسورة أطفأت النور وأشعلت الشمعة، انكسرت الشمعة، أطفأت الشمعة وسحبت خيط الستارة المشبوك بطرفي النافذة، فانفرجت الستارة المسدلة عن دانتيل يتمايل على إيقاع الهواء المضغوط، فبدأ أمامي وكأنه راقصات باليه في حفل.

من نافذتي، يدخل القمر البهي كومضة البرق، مقتحما باب الليل، يتمدد مرهقا على سريري المرشوش بماء الورد، والمسور بالأحلام البنفسجية، يملأ المكان بهاء نادرا من سحر الأريج وتيه الكلام، بيده يضيء مصابيح الظلام، فيندمج لونه القزحي البديع مع لون غرفتي، فيحيلها إلى لوحة فنية، لا تقدر على خلط ألوانها إلا ريشة فنان تشكيلي مبدع.

- سلاما... يمد يده المخضبة بدهن القرشي للعود.

أبسط يدي المرتعشة مستقبلة هذا الاختراق العذب في هدوء الوحدة، بينما شفتي تذرف خوفا أسئلة لا تحصى، على مقبض الباب والزوايا والأدراج، ما هذا الحضور المفاجئ؟ كيف أتيت؟

- التجئ إليك في حالات اكتئابي...

يحاول أن يكسر عزلتي، يقترب، يبوح بكل الشؤون والشجون، لكنني اكرر السؤال عليه.

- هل أنا أحلم كيف أتيت؟

- فارس أعزل إلا من ابتسامة مضاءة للنبأ المضاء.

أهدابي تتعلق بوجهه المألوف، إلى قلبي، لأعرف علامات البداية علامات النهاية.

يبتسم لي وهو يدرك قصدي:

- ماذا تعرفين عن البدايات والنهايات

مواصلة الطريق أو الفراق.

- هل من الممكن أن نفترق حاملين طعم الرغبة المخنوقة موتا.

- الرغبة تتوقف في أول الومض والأصعب أن نقول نعم أو نقول لا، لأن المرأة تطلب مباشرة ما تريد، ولا تستطيع أن تدافع عن معتقداتها أمام الضغوط الاجتماعية.

- لا أريد أن أضيع عمري، أريد أن أعيش كما يعيش غيري، لك مني صدق خفقة البدايات... وخفقة أجنحة الرغبة النقية الصادقة، أضحك ويضحك معي، ذراعه تحتك بذراعي، ابتعد يقترب موضحا.

- الخبير النفسي يقول إن المخطوبين عموماً الغرباء والأقرباء، يمرون بفترات مد وجزر، كمياه البحر، فترات تعلق ووجد، وفترات غضب وزعل، كتعاقب الليل والنهار، وأنا وأنت لدينا الرغبة القوية، وما كان علينا أن نقاومها. قولي آخر نعم، وغدا نعلن النبأ بقصر العدل.

يشهق قلبي، ترتفع دقاته، في سباق عنيف، يفوح الجوري، مشعا، يتوقف الزمان، تنحسر الأنفاس، تمر لحظات لا أعرف حجمها، حتى توقظني اليقظة.

أتنهد بعمق، تسيل دمعة حب دافئة على خدي لليقين القادم ببرود، يسحب اللحاف المطرز الى أعلى، يحكمه حول جسمه، يسرح بعيدا وأبقى أنا مفتوحة العينين قرب النافذة، مرتعشة باردة، خفيفة، وكأن نسيماً عليلا يلفحني، ويرفعني الى حلم التوهج.

***

أهلا بك قمري، في غرفتي المتواضعة المطلة على الجادة الثانية عشرة في القطعة السابعة، لابد أنك اكتشفت وأنت في الزاوية الباردة أن عيشتي البسيطة هذه تفتقر للواقعية، ولو كانت الواقعية نهجي قبل أن أهدر أجمل سنوات أيامي لما استقبلتك الآن، بغرفتي الضيقة، أضيق من وجعي ومن تجدد أحلامي، إنها مسكونة بعشق الصمت، ومفروشة بسجادة الكتب القديمة، وبسرير منجد بالسؤال القديم.

***

سيدي وسيد الليل... يا مظلم كنفسي الحزينة، ومعتم كالأماني المستحيلة، لو لم أكن رومانسية مثلك أيها النقي المرسوم في عمق المدى لما انعكست مرآة روحي في مراياك الملونة، ولما احتميت بك كحمامة مستسلمة، ولما استطعت أن أتجاوز معاناة الخوف، والقلق، والنشوة، لأسمعك مع خيوط الفجر الأولى، وفي هذه الساعة التي تقترب من الثانية بعد منتصف ليل أغسطس، وأنا أبحر في الليل ليلا ومع الصمت صمتاً.

«اسهار بعد اسهار، تيحرز المشوار، كتار هون زوار، شوي وييفلوا، وعنا الحلا كلو، وعنا القمر بالدار، ورد وحكي واشعار، بس اسهار اسهار».

هذه الأغنية تجعلني بعفوية الطفولة البيضاء أتسلل عبر الغسق الراعش الى جزر جميلة، حالمة خالية من الجدران والبروج، أعذرني إن لم أسمعك في هذه اللحظات، التي أوشكت أن تسبق الغفوة، غير صوت فيروز الذي يقطر أضواء فضية مبللة بالندى، إنها لحظات يتجلى العالم فيها، ويصفو يصبح رائقاً مثل المطر الناعم المتساقط فوق البحر.

***

قمري... قبل أن يداهمك نوم البوح في ليل الشجن، وتحلم دون نوم، دعني أحلم معك، بأمل حاضر جديد، كي لا نموت في حنجرة المستقبل، دعني أتساءل عن أخطاء نجدها أينما نتلفت، لا تستطيع كل المساحيق التي تبتكر يومياً أن تحجبها، لأن الجزء الرديء يبقى مائلاً أمام أعيننا بكل أشكاله البشعة، وعلى الإنسان أن يغيره.

إن الواقع بعلاقاته وقوانينه يفرز أشكالا متعددة من الإحباط، الاستلاب، القهر، والإنسان يواجه، يعمل، يحلم، يقاوم، ينسى، والنسيان من نعم الله الفياضة.

آه أنا مريضة بالنسيان، أنا صحيحة بالنسيان، لكن قمري لماذا كل من يحيط بنا يعيب علينا كثرة النسيان، وأننا لا نفتح عيوننا، لنرى ازدحام الشوارع، هل لأن الرومانسية في عصر الحرب والقلق والإرهاب قد نسيها البعض؟ رغم عذوبتها وعذابها، هل لأنها سرحان ودوخة وازدراء للواقع والواقعية.

***

عذراً سيدي القمر، تبقى أنت سيد الأحلام، والأيام، استأذنك، بالخارج ضجيج، وأصوات غريبة، تدوي، الآن لا أتمكن من الكلام عن حب الزمن الآتي، وتثاؤب الأشواق، وخلجات قلبي الضعيف الهش، ووجع وسادتي الحزينة في ليل الشجن، لا، لا أسمع وأنت تردد علي أبياتاً من شعر المتنبي، وفهد العسكر، وقصيدة السياب أنشودة المطر.

الأصوات الكبيرة فاجأتني في فوضى الدهشة، الزجاج يتهشم الأصوات تشتد تعلو تعلو كالفرقعات.

أعذرني قمري، لا أستطيع أن أقطف أقحوانة، كي أضعها على صدرك الشامخ، ولا أتمكن من إيقاد الفوانيس القديمة الخضراء، في الزوايا الهادئة المعتمة، التي تريدها، لا أستطيع أن أحدثك عن تلوين كلمات السواد والليل، بألوان قوس قزح  الزاهية، ولا عن أفراح الأيام الطويلة المجرحة، لا أستطيع أن أصغي إليك وأنت تشرح لي كيف عارضت زميلاً لك مهنته السياسة، ولا يناصر حقوق المرأة السياسية.

عذراً... القصف شديد، الرصاص يدوي، البحر ينصت غاضباً أمام الأمواج المتلاطمة، والرمل، والنجوم اللامعة تنهمر، والليل يمتص الضياء من أجفاني وأجفانك، أيها القمر النبيل، في هذه اللحظات السريعة السوداء التي تشابكت أحلامنا فيها، أمام الضوء المنكسر وأمام الطابور الكبير المدجج.

بسرعة قفزت... لكن قبل أن أهرع للشارع، نظرت لوجهي الخاص في المرآة، مازالت المرآة مكسورة والشمعة مكسورة.

فتحت باب بيتي، وجدت العالم بالخارج يحتضر، أصابع تضغط على الزناد في مأساة طلقات من الرصاص، صنبور من الدماء، بذعر فزعت ركضت بتعب، سقطت، انهمرت دموعي الغزيرة على حماقات الحكمة الذبيحة، نزفت على لوحة الوطن وسقط قمري، الذي أدماه المشهد.

الليل الباقي

جفاف البرد يجمدها ويلفها، تقرب المدفأة، تلتف بالشال الملون، لا حضن يدرأ عنها البرد، تركها نجمة معلقة في ظمأ الحلم أحيانا، تغرق نفسها في دوامة العمل المزدحم، وأخرى تقلب أشجان الأيام، صفحة صفحة، تناولت الصفحة، تتسمر عيناها فوق ذلك المربع، بين الصفحات البيضاء، الورق بين أصابعها ثقيل... ثقيل، ترتجف، دموعها خلف الأجفان، تصرخ، تريد أن تفعل أي شيء كي لا تصدق تلك الكلمات القليلة التي تمس حبها الوحيد، الذي تملك وحدها حرية التفكير به، وتحرص دوماً على أن يبقى خالداً نابضاً في حياتها، مهما بعد، لأن التفكير به كان بالنسبة لها كل حياتها، بل هو كان نوعاً من الهروب، هروبها من الذات الى تلك اللحظة، التي يطمح فيها الإنسان للانفلات من الزمان والمكان.

تركت البيت يغرق في سكون غريب، كل شيء كما هو، لفت ملفعها  حول رأسها، احكمت وضع العباءة، وانطلقت بسيارتها الى (منطقة بيان) الدمع ينهمر فوق وجنتيها، وأنين جراح ينزف دما في الأعماق، بحثت عن الورقة المخبوءة في صدرها، العنوان محفوظ بها، عادت تدور وراء الخطوط والبيوت والشوارع، وجدت بين السيارات الفارهة موقفاً لسيارتها.

دخلت البيت، تتعثر في مشيتها كأن بها دوار الأرض، ترتجف تحت قدميها الحزن ينهشها أطرافها ترتعش كل شيء حزين، الحزن ينتشر في كل مكان، تركت نفسها لمشيئة الزحام، يضعها على أي كرسي من الكراسي المصفوفة بإتقان في الصالة، بعد أن عزت الجالسات، وتمتمت أي كلام دون أن تنظر الى أية واحدة منهن، أحنت رأسها محدقة بيديها المضمومتين، وهي تداري رجفة يدها، معظم الجالسات لا يعرفنها، المعزيات لا يعرفنها، فقدت الإحساس بكل شيء، لا تعرف كيف تتصرف في مثل هذه المناسبات، غاب العالم المنمحي أمامها، خمد الضجيج، وصمت الدم يصعد ثقيلا الى رأسها، ويحتقن في عينيها، تبلغ دموعها التي تجمدت في حلقها وتبحث عن نفسها بينهن.

بطرف عينيها تلحظ أن المرأة النائمة على الجانب في أقصى اليسار والتي تتألم ببكاء خافت يتسرب الى الصالة هي أمه، كل شيء في الصالة يسيل موتاً، صمت أزلي كالموت، يطوف بين أسراب الماضي، أكوام من الخيال المرتمي في صقيع القلب، آه... يرعبها أن تلحظ ارتجافها، تلك المرأة التي تجلس على مقربة منها، إنها خالته، التي راهنت على أبعادها عنه، كي تعطيه ابنتها، حين كانت هي في السادسة عشرة، قلباً متدفقاً يعزف للدنيا لحن الحب والشباب.

***

سنوات ضاعت من عمرها هباء، يا لضيقة العمر، جرح قديم فتح الآن بصدرها من جديد، فجّر فيها المشاعر، والذكريات، الذكريات هي الشيء الوحيد الذي لم يستطع أحد أن يحرمها منه، شعرت بانتفاضة في صدرها، وبحذر دافئ ينساب في قدميها، بدأت الأشياء تتلون أمامها، حين تذكرت بقايا فرح قديم يوم زفت إليه، وسط فرقة عودة المهنا بين الزغاريد المرشوشة بماء الورد والطيب وبين الطبول والطيران المضرجة بفرح أغنية

هب السعد هبايب الأرياح

يا شاري العقال والصلاح

طيبة يا عل السعد فالج

سلم أبوج وعزوتج وريالج.

كان هو فارساً، جذلاً، فرحاً بها، لكن أهله كانوا يلتفون ناحيتها، يلوثون الفرح، ويرسمون لها شكل الحياة القادمة.

تتهامس واحدة بصوت يصلها.

كان الأجدر أن يزف لابنة خالته فهي من أصله وفصله

ترد الأخرى

حلاة الثوب رقعته منه وفيه

لم تمض شهور على زواجها أبعدوه عنها وتم زفافه لمن أرادوا.

في ذلك اليوم المشهود قال لها بشجن: أنا لك، مضت الأيام بها، أيام تموت وأخرى تبدأ، وحكايات ملأى بأساطير الحنين، إخلاص وحب، وحزن، وليل، وظلام، ونافذة عمياء، ليلها منذ سنين صار سهما يغوص في قرار قلبها، تنير فيه شموع الشوق واللهفة والذكريات، وتبكي طويلا تجتر حبا راح.

كانت تتمنى لو تستطيع أن تبكي على صدره، وتقول له: لم أعمل أي خطأ، لمَ تركتني للريح تطاردني، وتبعثر أوراقي؟ لم تدعني أتألم لفراقك مع أكوام الخيال المر، أكوام المر، ماذا جنيت حتى أستحق هذا؟

تقدم لها الكثير طالبين يديها لكنها كانت أبداً ترفض وترفض، أمها تتألم، لجفاف خضرة شباب ابنتها، تحدث نفسها وهي تبتسم.

حسبي الله ونعم الوكيل، لقد عملوا لابنتي ما حال بينها وبين الزواج، ذهبت بها لمشايخ الدين قرأوا عليها القرآن، بخروها لكن لا فائدة، كان دخان البخور أمام عينيها البراقتين، تتخيله حلما ينقلها الى حلمها الوحيد، الذي زرعته على صدرها، للأبد، قلادة حب حول الجيد، كانت دائما تحدث نفسها وبارقة أمل تتراقص أمام عينها، رغم علمها بأن مواقفها هذه ستكون شرخا في مرآة حياتها، بعد أن أصبح لزوجها أولاد، تفتحوا كالزهور، كم تمنت له سعادة الهدوء، رغم بقائه في قلبها وعينيها، كرعشة حقيقية يذكرها تاريخ الشهور والسنين وحلم الماضي الدفين.

تلامس القطرة الملتهبة شفتيها، فتتذوق طعم الحب الوحيد، والحنين، تحن اليه، كما تحن الارض للمطر، تلقي رأسها المثقل بتداعيات الزمن المهزوم، تجول بنظراتها بين الكراسي، تجد الحزن يتجول في كل الزوايا، هناك كان يجلس مكانه الخالي، كيف تحييه، تشم رائحته، وهي تندثر بأكفان الألم، وفجيعة الفقد الأخير، صامتة كالموت، لا تدري لم أتت الى هنا، لا أحد يعرفها، لقد تغيرت ملامحها، هو وحده كان يعرفها لكنه الآن ليس هنا.

(.........)

back to top