عالقون في الذاكرة

نشر في 30-10-2011
آخر تحديث 30-10-2011 | 00:01
 آدم يوسف هي الذاكرة متخمة أحيانا، ولكن شيئا ما من بين ركامها، ينبض، ويظل على وفائه، وحبه الطفولي البريء. منذ وقت ليس بالقصير تدهمني صورة معلميّ في المراحل التعليمية الأولى، وأخص هنا المرحلة المتوسطة، ولست أدري ما أسباب رسوخها أكثر شيء في الذهن، لعل لذلك تبريرا علميا منطقيا، يتعلق بالمرحلة العمرية والوجدانية التي يعيشها الفرد في تلك المرحلة، ولم أك معنيا بالتفسير العلمي بقدر اهتمامي بأولئك المعلمين الذين نجحوا في اقتحام ذاكرتنا، ومن ثم أخذ كل واحد منهم ركنا قصيا بها، ووضع كل مستلزماته، للسُكنى والبقاء أطول مرحلة ممكنة.

علمت بعد عدة سنوات من قدومي إلى الكويت بأن معلم التربية الإسلامية عبدالله الرومي، رحمه الله، قد فارق الحياة، إثر سكتة قلبية داهمته، وهو يقود سيارته، تألمت كثيرا، فالخبر عاد بذاكرتي إلى متوسطة أبي عمرو البصري لتحفيظ القرآن في حي الملز بمدينة الرياض، كان ذلك في أواخر الثمانينيات، كانت المدرسة نموذجية من حيث موقعها، وعدد طلابها، ومن ثم الرعاية التي يجدها هؤلاء الطلاب، وبالطبع فإن لمعلمي الراحل نصيبا كبيرا من ذاكرتي المتخمة، كلماته التشجيعية مازالت ماثلة أمامي.

كان، رحمه الله، يحدثنا عن العلم وبناء المستقبل وكأننا رجال كبار، كما أنه يحفظ الكثير من أبيات الشعر الجاهلي التي يرددها من حين إلى آخر في حصة التربية الإسلامية، ومنها أبيات عنترة بن شداد المشهورة:

أثــــنـي عـــلـيّ بـمـــا عــــلــــمـــــت فـــإنـــنـــي ســـمح مخالقتي إذا لم أُظـــلـم

فـإذا ظـــلـمــت فــإن ظــــلـمــــي بــاســـــــــــل مـر مـذاقـتـه كطـعـم العلـقـم

كان يجد في هذه الأبيات فرصة لتأنيب الطلبة المقصرين في واجباتهم، معتبرا أن تقصير الطالب في واجباته نوع من ظلم المعلم الذي يتعب في تعليمه، ومن ثم تكليفه بهذه الواجبات.

معلمون كثر يمرون بذاكرتنا، ولكن التلميذ في تلك المرحلة، وبحسب علماء النفس يستذكر الأشياء في صورتها التصويرية المجسدة، وكأنه شريط أحداث يمر من أمامه، فالصور تتوالى، مما يجعل الألفاظ والخبرات التجريدية البعيدة عن التصوير تعود إلى الوراء، ولعل ذلك ما يفسر تذكرنا السريع لهيئة المدرسة، وجدرانها، ومن ثم ساحاتها وفصولها، أكثر مما يقوله المعلمون في قاعات الدرس. ذلك مرتبط بأمر آخر أيضا يردده النفسيون وهو أن التلميذ يميل إلى تذكر الأشياء التي لها خبرات سارّة في حياته، أكثر من تلك التي لها خبرات سيئة.

معلم اللغة العربية في تلك المرحلة، لا أستحضر سوى اسمه الأول عصام، والذاكرة سرقت منا ماعدا ذلك، الأستاذ عصام بقامته الطويلة، ومن ثم وقاره وهدوئه بالرغم من تدريسه مرحلة عمرية مرتبكة كالمتوسطة، غرس في نفوسنا شيئا أهم بكثير من قواعد اللغة العربية، علّمنا حب القراءة، ساعده في ذلك توفر مكتبة مدرسية غنية بالكتب آنذاك، ولعل ذلك ما يجعلني أثني كثيرا على هذه المدرسة وإدارتها، كنا نتسابق إلى حصة المكتبة، ويساعدنا المعلم على استعارة كتب أدبية أغلبها يعود إلى العصرين الأموي والعباسي، وهي كتب تبدو أكبر من مرحلتنا العمرية، ولكننا وجدنا سبيلا إلى قراءتها.

الطلبة المتفوقون أو الخمسة الأوائل في كل فصل دراسي، لا يمكن نسيانهم، فهؤلاء يتذكر بعضهم بعضاً، كما أنهم يعْلقون في ذاكرة معلميهم. كان المعلم الرومي رحمه الله يقول لنا: كما تتحدثون أنتم عن معلميكم، نحن أيضا في استراحاتنا نتحدث عن الطلبة المجدين ونثني عليهم.

من زملاء تلك المرحلة من توزعت بهم السبل، فالتحقوا بكليات الهندسة والطب، ومن سار بهم الدرب نحو الدراسات الأدبية، ومهما يكن من حال فإننا مدينون لأساتذة أجلاء، ساهموا في تشكيل وجداننا، ورسموا الخطوات لدروبنا، فشكرا لمعلمينا أولئك الذين علموا أناملنا الصغيرة كيف تمسك بالقلم.

back to top