رقم واحد ينبئنا بكل شيء

نشر في 05-09-2011
آخر تحديث 05-09-2011 | 00:01
No Image Caption
 ستيفن س. روتش ذلك الرقم هو 0.2%، وهو يعبر عن متوسط النمو السنوي للإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة على مدى الأرباع الأربعة عشر الماضية- مع احتساب التضخم منذ الربع الأول لعام 2008 إلى الربع الثاني من عام 2011، والواقع أن استهلاك الأميركيين لم يكن بهذا الضعف قط لمثل هذه الفترة الطولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويلخص هذا الرقم المنفرد الكثير من الأخطاء التي ترتكب اليوم في الولايات المتحدة، وفي الاقتصاد العالمي.

انقسمت هذه الفترة من ضعف الاستهلاك غير المسبوق في الولايات المتحدة إلى مرحلتين متميزتين، فمنذ الربع الأول من عام 2008 وإلى النصف الثاني من عام 2009، هبط الطلب الاستهلاكي على مدى ستة أرباع متعاقبة بمعدل سنوي بلغ 2.2%. ومن غير المستغرب أن ذلك الانكماش بلغ ذروته أثناء أوج الأزمة العظمى، عندما هبط الاستهلاك بمعدل 4.5% في الربعين الثالث والرابع من عام 2008.

ومع بلوغ الاقتصاد الأميركي أدنى مستوياته ثم دخوله مرحلة الانتعاش في منتصف عام 2009، دخل الإنفاق الاستهلاكي مرحلة ثانية، أو مرحلة التعافي الهزيل. فكان المتوسط السنوي لنمو الاستهلاك الحقيقي على مدى الأرباع الثمانية التالية منذ الربع الثالث لعام 2009 وإلى الربع الثاني من عام 2011 نحو 2.1%. وهذا يُعَد المعدل الأكثر ضعفاً لتعافي الاستهلاك في تاريخ الولايات المتحدة، أقل بنقطة ونصف النقطة المئوية عن الاتجاه الذي ساد أثناء الأعوام الاثني عشر التي سبقت الأزمة، 1996-2007. إن هذه الأرقام أضعف كثيراً مما أعلن عنه في الأصل، فقد خفض خبراء الإحصاء في وزارة التجارة تقديراتهم السابقة للإنفاق الاستهلاكي إلى النصف، كجزء من تقرير المراجعة السنوية لحسابات الدخل الوطني والإنتاج في الولايات المتحدة الصادر في يوليو2001، حيث تم تخفيض اتجاه النمو في الأرباع الأربعة عشر منذ بداية 2008 إلى منتصف 2011 من 0.5% إلى 0.2%؛ ولقد تركز القسم الأعظم من مراجعة الانخفاض في الأرباع الستة الأولى من هذه الفترة، حيث تضاعف تقدير انحدار الاستهلاك السنوي، من 1.1% إلى 2.2%.

كنت حريصاً على متابعة هذه المراجعات للمؤشرات لنحو أربعين عاما، وكان ذلك الانحدار واحداً من أكثر الانحدارات جسامة على الإطلاق. ونحن ندرك جميعاً مدى الصعوبات التي واجهها المستهلك الأميركي، ولكن هذه المراجعة تصور التراجعات الناجمة عن الأزمة وما أعقب ذلك من التعافي الهزيل على نحو أكثر تشاؤماً وكآبة.

وليس من الصعب أن نتوصل إلى الأسباب الكامنة وراء ذلك، فمن خلال استغلال فقاعة الائتمان غير المسبوقة للاقتراض استناداً فقاعة عقارية غير مسبوقة، أنفق المستهلكون الأميركيون بما يتجاوز دخولهم لسنوات عديدة. ومع انفجار الفقاعتين، لم تجد الأسر الأميركية التي توسعت في الاستدانة خياراً غير خفض إنفاقها وإعادة بناء قوائمها المالية المتضررة من خلال سداد أعباء الديون الجسيمة وإعادة بناء المدخرات المستنفدة. ورغم ذلك فإن إصلاح القوائم المالية كان قد بدأ للتو في كلتا الحالتين، ففي حين تم تقليص ديون قطاع الأسر الأميركية إلى 115% من الدخل الشخصي المتاح للإنفاق في أوائل عام 2011، بعد أن بلغ ذروته (130%) في عام 2007، إلا أنه ظل أعلى كثيراً من متوسط الفترة 1970- 2000، والذي كان 75%. وفي حين ارتفع معدل الادخار الشخصي إلى 5% من الدخل المتاح للإنفاق في النصف الأول من عام 2011 بعد أن انخفض إلى 1.2% في منتصف عام 2005، فإن هذا الرقم أقل كثيراً من المعدل الذي سجله الادخار الشخصي والذي ساد أثناء الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين (8%). ومادام خفض الإنفاق وإصلاح القوائم المالية في المراحل الأولى، فمن المتوقع أن يستمر هذا السلوك الراكد من جانب المستهلك الأميركي، والواقع أن اتجاه نمو الاستهلاك الذي تحقق أثناء التعافي الهزيل على مدى العامين الماضيين، والذي بلغ 2.1%، قد يكون مؤشراً إلى ما ينتظرنا في الأعوام المقبلة.

ومثل هذه النتيجة من شأنها أن تخلف ثلاث عقبات جسيمة على التوقعات الاقتصادي: فأولا، ما دام الطلب الاستهلاكي يمثل 71% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فإن النقص المطول في مستوى الاستهلاك السائد يشكل عقبة كبرى أمام النمو الاقتصادي الإجمالي للولايات المتحدة. ورغم أن صناع القرار السياسي المضللين في واشنطن لا يرغبون في شيء أكثر من عودة المستهلكين على أساليبهم القديمة المحفوفة بالمخاطر والبدء بالإنفاق من جديد، فإن الأسر الأميركية المنهكة أصبحت اليوم أكثر حرصا. والواقع أن المدفعية الثقيلة المتمثلة بالحوافز النقدية والمالية تُهدَر على محاولات اختصار عملية إصلاح القوائم المالية.

وثانيا، يعمل الضعف المستمر في الاستهلاك ونمو الناتج المحلي الإجمالي على وضع الاقتصاد الأميركي على مسار نمو أضعف كثيراً من ذلك المسار الذي تعتمد عليه تقديرات الموازنة الطويلة الأمد للحكومة، فمكتب الموازنة التابع للكونغرس يتوقع نمواً متوسطاً بنسبة 3.4% في الناتج المحلي الإجمالي على مدى الفترة 2013-2016. وإذا كان اتجاه النمو أدنى بنقطة مئوية واحدة- وهو احتمال واضح في عصر يتسم بالضعف الاستهلاكي المطول- فإن العجز في الموازنة سوف يكون أعلى كثيرا. والواقع أن القاعدة الذهبية التي يستخدمها مكتب الموازنة التابع للكونغرس تعادل النقص المستدام بمقدار نقطة مئوية واحدة في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بالاستعانة بعجز في الموازنة أضخم بنحو 3 تريليونات دولار على مدى عشرة أعوام، وغني عن القول إن مثل هذه النتيجة من شأنها أن تقود مناقشة مشكلة العجز والدين الأميركية العصيبة بالفعل إلى منعطف بالغ الخطورة. وأخيرا، لا يوجد أي اقتصاد آخر قادر على ملء الفراغ الذي خلفه نقص مطول في الاستهلاك الأميركي، فلا أوروبا ولا اليابان في وضع يسمح لها بتولي المهمة، أما القطاعات الاستهلاكية في البلدان النامية الرئيسة على مستوى العالم- وخاصة في الصين- فإنها تفتقر إلى ما يلزمها من الحجم والديناميكية لتولي المهمة، وعلى هذا فإن الضعف الدائم في الاستهلاك الأميركي يعني ضمناً فرض ضغوط قوية على نمو الاقتصادات النامية القائمة على التصدير، والنبأ الطيب هنا هو أن هذا من شأنه أن يرغم هذه الاقتصادات على تبني استراتيجيات إعادة التوازن التي طال انتظارها والتي ترمي إلى تحفيز الطلب الاستهلاكي المحلي. ما العمل إذن؟ على الرغم من فعالية التدابير التي اتخذت في أوج الأزمة- الحوافز المالية والنقدية الضخمة- في تخفيف سرعة السقوط الحر، إلا أنها كانت غير فعّالة في دعم أي قدر يُذكَر من التعافي، ولا ينبغي لهذا أن يدهشنا في عصر إصلاح القوائم المالية. إن الولايات المتحدة تحتاج بدلاً من ذلك إلى قائمة من السياسات المفصلة وفقاً للاحتياجات والضغوط المفروضة على المستهلك الأميركي، ومن بين البنود المحتملة على هذه القائمة: الإعفاء من الديون للتعجيل بعملية تقليص الديون؛ وانتهاج سياسات ادخار إبداعية وقادرة على إعادة الشعور بالأمان المالي إلى الأميركيين الذين دمرتهم الأزمة؛ وبطبيعة الحال، توفير فرص العمل وما يترتب على ذلك من توليد للدخل.

إن الاقتصاد الأميركي- وكذلك الاقتصاد العالمي- لن يتمكن من الوقوف على قدميه من جديد في غياب المستهلك الأميركي، والآن حان الوقت لتجاوز الإيديولوجيات- سواء على اليسار أو اليمين- وإدارة المناقشة السياسية في إطار يعطي الاعتبارات الأساسية حقها من الأهمية.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل،

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top