المكان مصدر للحكاية في أعمال إبراهيم أصلان

نشر في 16-01-2012 | 00:02
آخر تحديث 16-01-2012 | 00:02
No Image Caption
يبدو إبداع الأديب الراحل إبراهيم أصلان وسط هذا الزخم الإبداعي علامة مختلفة، واختلافه نابع من بساطة عالمه، وحميميته للمكان والناس ومواقف الحياة المألوفة.

يكتب أصلان بلغة سهلة، أساسها القاموس اليومي، معبرا عما في نفسه، غير عابئ بهمّ التقنية والتجديد والأدلجة، وهو ما صرح به لجريدة السفير اللبنانية قائلا: أعتبر نفسي هاويا ولم أحترف الكتابة، وأستمتع بالأفكار الكبيرة ووفائي للدنيا التي أعيش فيها. وبهذا فهو شفاف مع نفسه ومع تجربته، يلتقط من الحياة مواقف يبدو بعضها قصة قصيرة بها مفارقة وإدهاش، وبعضها أشبه بلحظة عادية، تشد الاهتمام بما تقدمه من موقف إنساني أو حدث طريف.

إن النظرة الأفقية/ الإجمالية لأعمال إبراهيم أصلان تجعل المكان مصدرا للحكي ويكاد يكون البطل الأساسي في هذه الأعمال. فحياة إبراهيم أصلان توزعت على أمكنة عدة؛ عبّر عنها في رواياته وقصصه، بدءا من حي إمبابة الشعبي، ثم عمله في هيئة البرق والتلغراف، وفي مكاتب الصحف في القاهرة بعدئذ، وأمكنة لقائه بالمثقفين والكتّاب والأصدقاء في المقاهي أو الغربة.

ففي مجموعته الأولى "بحيرة المساء" نجد إبراهيم يصدمنا بأمكنة مختلفة، يكون الشخوص عنوانا لها، ففي قصة "الرغبة في البكاء" نجد المكان/ المدينة حاضرا، "ظللنا نسير حتى بلغنا الطرف الآخر من المدينة وفي هذا الطرف الآخر من المدينة رأيت البيت الذي اعتدت في الفترة الأخيرة أن أعيش في داخله".

وبدا زحف المباني على ما تبقى من أرض زراعية، حيث تطلع البطل إلى الشرفة، ورأى قطعة الأرض الخالية بجانب البيت، فسأل الزوج: متى ستبني هذه الأرض... و(عقّبت زوجته): عندما كانت مزروعة كان المنظر من هنا رائعا. فالرغبة في البكاء حالة نلمسها في ثنايا القصة، ويقف المكان على حافة السرد، مشكلا إطارا مكملا للحكي، وإذا كنا لا نجد سببا لهذه الحالة من البكاء، إلا أن الإطار المكاني يقدم جزءا من المشهد الذي يجمع ثلاثتهم: البطل، الزوج، الزوجة، وهم في حالة من القرف والغثيان، وصلت مع البطل إلى البكاء. المكان هنا حافة المدينة (إمبابة).

مالك الحزين

وفي روايته الشهيرة "مالك الحزين" نجد المكان واضحا مذكورا محددا، فهو في إطار ميدان الكيت كات، في منطقة إمبابة، حيث عمل الشيخ حسني في مدرسة إمبابة الابتدائية معلما للموسيقى، ولأن أصلان يعيش في هذا المكان ولا يزال، فهو في هذه الرواية في حالة توحد كامل، وذكر دقيق لمشاهد المكان، بل إن المكان يتوحد مع السرد، كما نرى في حركات الشيخ حسني الضرير الذي يتنقل بين حواري إمبابة، وشاطئ النيل، حافظا كل بقعة تخطوها قدماه، وقد أفلح السارد أن جعل المتلقي يعايش المكان في أعماق الشيخ حسني، وهو الذي جعل نفسه متخصصا في المكان، خادعا المشايخ العميان الذين يفدون إلى المقهى وكان قد اتفق مع عبدالله القهوجي أن يعمل لديه "ناضورجيا" يرشده للعميان الجدد على الحي كي يستنزف أموالهم، كما نرى شغبه في المكان في مشهد ركوبه قاربا، ثم الدراجة، وسقوطه مع الشيخ جنيد الضرير في النيل، فقد كان يريد التحليق في الحياة، متجاوزا آفته (العمى) ، متلذذا بجعل نفسه قائدة للشيخ جنيد في جنبات المكان.

وفي رواية "حكايات من فضل الله عثمان"، يواصل أصلان نفس النهج، فشارع فضل الله عثمان أحد شوارع منطقة إمبابة، ونرى الشارع وعاء يحوي شخصيات الشارع الذي يسعى السارد إلى وصف كل شخصية من خلال مواقف بسيطة أشبه بالقصص القصيرة، وإن جمعها الشارع/ الوعاء.

وقد شاء القدر أن يعمل إبراهيم أصلان في هيئة البرق والتلغراف، حيث اكتسب وتعلم الكثير، ومنها تعرفه على شخصيات متنوعة، زملائه في العمل أو زبائنه في الهيئة، أي ان المكان/ الهيئة كان منجما للأحداث والشخصيات.

أما في رواية "وردية ليل" فرغم أنها حملت عنوانا زمنيا، إلا أنه يشمل في طياته الدلالية المكان، فالبطل يعمل موزعا للبرقيات في هيئة البريد. يقول: "كان العم جرجس هو الذي يقوم بتدريبي على معرفة أسماء الشوارع في ليل المدينة، لكي أحل مكانه عندما يعمل هو رئيسا لوردية الليل، بدلا من العم بيومي الذي سوف يخرج إلى المعاش أول العام الجديد"، فهذه الوظيفة (موزع برقيات) في هيئة البريد هي وظيفة تتعامل بالأساس مع المكان كوعاء شامل للبشر والأحداث، ومن خلال هذا العمل نرى أنماطا من البشر والأمكنة في القاهرة الكبرى، وبعبارة أخرى، فإنها رواية المكان الأكبر/ القاهرة، خارج حي إمبابة وشوارعه، وإن كنا نجد إشارات شخصية إلى حيه الأثير (حي إمبابة)، فهناك شخصيتان محوريتان في الرواية يقطنان هذا الحي.

يتوقع المتلقي في كتابه "خلوة الغلبان" أن تكون أقاصيص ومواقف الكتاب معبرة عن تأمل المؤلف وحيدا – بوصفه إنسانا غلبانا بسيطا – ولكننا نفاجأ أن الكتاب يشمل هذه الدلالة وأن العنوان يحمل اسم قرية من قرى الدلتا، فقد كان في حوار مع كاتب فرنسي يهودي اسمه "جاك حسون" من يهود مصر القدامى، ويخبره الكاتب أنه من قرية "خلوة الغلبان" بالقرب من مدينة المنصورة، وأخبره أنه بعد غياب أربعين عاما عاد إليها ورآها، وأن والده – اليهودي – طلب منه عندما يموت أن يأتي بحفنة من تراب من مصر وينثرها على قبره.

back to top