إرنست همنغواي 3... هل انتحر بسبب مراقبة الـ FBI؟

نشر في 21-07-2011 | 00:01
آخر تحديث 21-07-2011 | 00:01
No Image Caption
إضافة إلى انشغال الأقلام الثقافية بعلاقة الكاتب الأميركي إرنست همنغواي بالصيد ومصارعة الثيران والحرب وكوبا وعشقه للنساء، قرأنا الموضوع الأبرز والأكثر التباساً وهو أسباب انتحاره. فعلى مدى خمسة عقود يحاول كتّاب السير الذاتية الكشف عن أسباب تخلّص همنغواي من حياته بإطلاقه النار على نفسه. فألقى بعضهم باللوم على تزايد حدّة الاكتئاب الذي أصابه بسبب إدراكه أن أفضل الأيام في حياته المهنيّة أوشكت أن تنتهي، وقال آخرون إنه كان يعاني اضطرابات نفسية، بينما طرأت أخبار جديدة في هذا الإطار تشير إلى أنه انتحر بسبب مضايقات الـ{أف بي آي».

خلال خمسة عقود استشهد الكتاب بعبارة لهمنغواي تقول: «قد يتحطّم الإنسان لكنه لا يهزم»، للتعبير عن رفض الانكسار خصوصاً في العالم العربي، ولم تكن هذه الجملة أكثر من بحر في أدب همنغواي الذي تفاوتت الآراء في وصفه. فالكاتب الأميركي جون إيرفينغ اعتبر أن «لغة همنغواي المختزلة، لغة السكرتاريا، مملّة»، فيما قال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: «لقد انتحر همنغواي لأنه أيقن في النهاية أنه ليس كاتباً كبيراً». لكن المتّفق عليه أن صاحب «الشيخ والبحر» اشتغل على أدبه كما على صورته قبل انتحاره، وجاء هذا الانتحار ليزيد وهج الصورة. وعليه، واظب الاختصاصيون النفسيون والكتاب على التنظير في دوافع انتحار همنغواي، عن طريق طلق ناري في منزله فيما زوجته غارقة في النوم.

ألقى البعض اللوم على حال الاكتئاب التي أصابت همنغواي بعدما أدرك أن الحقبة المتألّقة في مسيرته الكتابية خَبت الى غير رجوع، بينما أكد آخرون أن انتحاره جاء نتيجة اضطراب لحظوي، واعتبر كثر أن همنغواي من سلالة «منتحرة» ولأسرته تاريخ طويل مع الانتحار، إذ انتحر والده كلارنس همنغواي وأختاه غير الشقيقتين أورسولا وليستر، ثم حفيدته مارغاوك. والملاحظ أن همنغواي اعترف بولعه بمشهد الموت الدموي في حلبات مصارعة الثيران في أسبانيا والصيد الوحشي في أميركا فقرّر أن يتقدّم الخطوة النهائية في ولعه وينتقل بالتالي من المشاهدة بالحواس إلى الاختبار المباشر بتذوّق طعم الموت فانتحر تعبيراً عن الصدق مع الذات، بل هو كان يذهب الى قتل الحيوانات البرية لينجو من الموت. وفي مقال بعنوان «إرنست همنغواي: تشريح نفسي لانتحار» في مجلة «الطب النفسي الأميركي» كتب كريستوفر مارتن أن الكاتب عانى من مراوحة المزاج بين الضدين والإصابة في الدماغ، وربما أيضاً سمات الشخصية النرجسية.

يخالف أرون إدوارد هوتشنر – الذي كان صديق همنغواي الكبير والحميم خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة من حياته – فرضيات الانتحار لأسباب نفسيه ويعيد طرح الأسئلة عليها، عبر رسالة نشرها في صحيفة أميركية ويذكر فيها أن همنغواي عاد إلى كوبا عام 1959 كي يكتب مقالة طلبتها منه مجلة «لايف». إلا أن الـ{أف. بي. آي» شكّت يومها في تعامله مع النظام الكوبي الكاستروي الشيوعي فأخضعته لمراقبة دقيقة ولصيقة وهذا ما يدلّ عليه الملف الذي نُشر عام 1983 والذي يقع في 127 صفحة. حتى أن الملف يشير إلى أن أحد العملاء الفيدراليين، وهو ج. إدغار هوفر، وجد متعة خاصة في تولّيه هذا التحقيق.

رسالة

يتذكّر هوتشنر في رسالته الشهيرة التي سبقت انتحار همنغواي، كآبة هذا الكاتب الطافحة حين زاره في منزله في إيداهو، يقول على لسان الكاتب: «أعيش أقسى أنواع الجحيم، إنهم يتنصّتون عليّ في كل مكان. لهذا أستعمل سيارة «ديوك»، إذ إن سيارتي مليئة بأجهزة التنصّت. كل شيء كان مراقباً. من المستحيل أن أتصل بالهاتف. رسائلي تصلني مفتوحة». هذه المراقبة اللصيقة عادت لترافق همنغواي خلال وجوده في مستشفى سانت ماري، في ولاية مينيسوتا، الذي دخل إليه عام 1960 لتلقّي العلاج النفسي بالصدمات الكهربائية. ويعترف هوتشنر في رسالته بأنه لم يقدر آنذاك «الرعب» الذي كان يعيشه همنغواي من رجال الـ{أف. بي. آي». لهذا «أحاول اليوم أن أقارن بين ذاك الخوف وما بين التحقيق الفيدرالي. أعتقد فعلاً بأنه كان يشعر بالقلق من المراقبة وقد ساهم هذا الأمر في ازدياد كآبته ما دفعه إلى الانتحار». كذلك ذكر هوتشر تفاصيل زيارته لهمنغواي في منزله في مدينة إيداهو وتصرّف الأخير بغرابة: «عندما جاء همنغواي لاستقبالي في محطة القطار رفض التوقّف قليلاً في الحانة المجاورة كما اعتدنا ذلك، كان متعجلاً وقلقًا، وعندما سألته لماذا العجلة، قال إن مكتب التحقيقات الفيدرالي يراقبه، وعبّر عن استيائه الشديد من هذا الوضع».

النافل أنّ همنغواي حين اشتكى لأصدقائه من أنَّه كان تحت مراقبة الـ FBI، كانوا يتصوَّرون أنَّهُ يتوهَّم ذلك، وعندما أفرج عن الملف الخاص به في منتصف الثمانينيَّات، كان ذلك تأكيداً على أنَّ شكوكه كانت في محلّها. فعلى مدى أكثر من رُبع القرن كان رجال هوفر FBI يتتبعونه ويتجسَّسون عليه ويُزعجونه، وقبل انتحاره بوقتٍ قصير ذهب ليُجري فحْصاً طبِّياً في إحدى العيادات في مينيسوتا، وطلب أنْ يُسَجَّل باسم آخر، فاتصل أحد الأطباء النفسيين بالـ FBI؛ ليسأل عن إمكان فعْل ذلك (كتاب فرانسيس ستونر سوندرز، الحرب الثقافية الباردة، ترجمة طلعت الشايب، المشروع القومي للترجمة، ط3، 2003 - القاهرة، ص 222). واستطاع الباحث الأكاديمي في جامعة كولورادو جيفري مايرز في الثمانينيات الحصول على ملف انتحار همنغواي لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، وركّز الملف على حياة همنغواي ومحاولته أثناء الحرب إقامة شبكة تجسّس ضد الفاشية. كذلك ذكر الملف إصابته باضطرابات عقلية أدت إلى دخوله مستشفى «مايو كلينيك» في عام 1960 بعد محاولة انتحار فاشلة حيث تلقى علاج بالصدمات الكهربائية. وتكوّن الملف من 120 صفحة، حجب مكتب التحقيقات الفيدرالية 15 منها لأسباب تتعلّق بالأمن القومي.

ومن خلال هذه الملاحظات نستنتج أن ثمة التباساً في موت همنغواي وهو يزيد الأمر غموضاً حول جيل من الأدباء سُمي بـ{جيل الضياع»، وفي معظمه كان ضحية الثقافة الجدانوفية في الاتحاد السوفياتي السابق وضحية المكارثية والـ FBI في الولايات المتحدة.

back to top