الأمل والكره يتصادمان في ليبيا الجديدة
بعد مرور سنة على الربيع العربي، قرر مراسل «شبيغل» ألكسندر سمولتزيك الانطلاق في رحلة في المغرب العربي بهدف تقييم التغيرات التي شهدتها المنطقة. في الجزء الثاني من رحلته، سافر عبر ليبيا ما بعد الثورة، فوجدها بلداً يمتزج فيه الأمل باليأس والتصميم على بناء ديمقراطية جديدة.
في 17 ديسمبر 2010، صبَّ شاب من ريف تونس يدعى محمد بوعزيزي الوقود على نفسه، فأشعل منطقة بأسرها، إذ عملت شعوب تونس ومصر وليبيا على الإطاحة بحكامها. بعد مرور سنة على هذه الحادثة، شهد المغرب العربي تبدلات جذرية، إلا أن الكثير بقي على حاله. ففي بلدان سيطر عليها حكام علمانيون طوال عقود، يحاول الإسلاميون راهناً الإمساك بزمام السلطة، ولا يزال كثر في هذه الدول فقراء ويائسين بقدر ما كانوا قبل الثورة.في الجزء الثاني من رحلته على الطريق السريع عبر المغرب العربي الممتد من المغرب إلى مصر، عبر ألكسندر سمولتزيك (برفقة أحد المصورين) ليبيا والتقى شعباً حرر نفسه من طغيان الحاكم المستبد معمر القذافي، إلا أنه لم ينجح في التخلص من الشياطين التي خلفها هذا الحاكم وراءه.تكثر في بنقردان، آخر مدينة تونسية قبل الوصول إلى الحدود الليبية، عمليات تهريب السلع. تحفل منطقة العبور هذه بمتاجر غير مطلية وسقائف تخزين وشوايات وفنادق قذرة. كل مئات قليلة من الأمتار، ترى مجموعة من الرجال يبيعون زجاجات حمراء وزرقاء وخضراء معبأة بالبنزين المستورد بطريقة غير مشروعة. يعمل الجميع في بنقردان في التهريب، من الأولاد الصغار إلى المسنين.بعد عبور جربة، تمتد طريق الثورات على طول الساحل المنبسط للبحر الأبيض المتوسط. على جانبيها، يقف الشبان لبيع الأسماك المقددة والسلاطعين. في شاحنات تمر مسرعة، ترى خرافاً مذبوحة ولعباً بلاستيكية معلقة في الهواء الطلق.قبيل بلوغنا آخر نقاط التفتيش التونسية، علت أكياس الرمل لتخفي وراءها مخيمات اللاجئين القادمين من ليبيا. ترفرف في هذه المخيمات أعلام منظمات مثل المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة الإغاثة الإسلامية. قدم الرجال في هذه المنطقة من دول مثل الصومال والنيجر والسودان، ويتحدث بعض التقارير عن أن 1400 رجل منهم ما زالوا هنا.قصد ابراهيم هذا المكان قادماً من إرتريا، يقول متحدثاً عن رحلته: «لم أرَ شجرة طوال ثمانية عشر يوماً». هذا الرجل البالغ من العمر 36 سنة مدرس وخبير كمبيوتر. دفع مقابل رحلته في الصحراء 1600 دولار (1230 يورو). وكان يعمل في السفارة اليابانية في العاصمة الليبية طرابلس، ثم اندلعت الثورة متخذة شكل الحرب الأهلية.يؤكد اللاجئون أنهم يخشون من التعرض للضرب حتى الموت في ليبيا الجديدة المحررة لأنهم سود. لا يمكنهم العودة إلى بلدانهم أو الرجوع إلى طرابلس. كذلك، لا يريدون البقاء في تونس. يوضح ابراهيم: «يكرهوننا حتى لو كنا نجيد العربية بطلاقة». من المقرر إفراغ هذه المخيمات في الشهر الجاري. لم يحصل سوى 600 من اللاجئين على حق لجوء رسمي. لذلك، لم يعد أمامهم إلا التأمل بالحصول على لجوء إلى كندا أو أستراليا أو الاتحاد الأوروبي. لا مفر من الهجرة غرباً عبر البحر، الذي يقع على بعد كيلومترين من هذه المخيمات.الكيلومتر 2609:عبور الحدود إلى ليبياحوّلت الجدران عبر الحدود إلى صحف، فقد دونت عليها أسماء الشهداء بطلاء جديد. كذلك، تحمل عبارات تحذر الخونة، تتوسل، توبخ، تمجد، وتحض. منها «يحرم الله التجارة غير المشروعة بالسلع الغذائية والسلاح!»، لا للإرهاب، نعم للحفاظ على الأمن ليلاً وملاحقة الجواسيس!»، أو بلهجة ملؤها الرجاء: «أيها الشبان، أنتم تبنون ليبيا، يداً بيد حررتمونا! أنتم تصونون القانون والملكيات الخاصة». يا لها من آمال كبيرة!ظلَّت الثورة في المغرب نائمة، فيما اشتعلت في تونس ثم خبت. أما في ليبيا، فكانت الانتفاضة لا تزال في أوجها. عندما تترجل من السيارة، لا يسعك إلا أن تدوس على أغلفة رصاص فارغة تملأ الأرض. شهدت هذه المنطقة أخيراً قتالاً عنيفاً بين مجموعتين ميليشياويتين، ويُقال إن بعض الشاحنات الصغيرة حملت العبارة: «فرقة الشهيد معمر القذافي».من الواضح أن الأسلحة منتشرة في كل مكان في هذا البلد، ولعل أصعب مهمة تواجهها الحكومة الانتقالية هي نزع السلاح.الكيلومتر 2787:ساحة الشهداءلم يتبدل ازدحام السير في هذه الساحة، إلا أن الظاهرة الجديدة كثرة الشاحنات القديمة الصدئة المحملة بأسلحة مضادة للطائرات. لكن المريح أنها تتوقف عند إشارات المرور، شأنها شأن السيارات العادية.يبدو أن القتال لم يلحق بهذه المدينة الضرر الكبير. في المطارات والمباني الحكومية، يتسكع شبان يرتدون سترات مموهة ويضعون نظارات على رؤوسهم. تغطي الجدران أسماء الشهداء، الألوان الوطنية، الشعارات، وغيرها من كتابات وطنية. فعلاً، باتت الوكالات الحكومية أشبه بمراكز بديلة للشبان.ضمت بضعة رفوف من الكتب أعمالاً عن التاريخ الإسلامي، قربها وضع كتاب Genuine Sexual Fulfillment among Spouses (الانجاز الجنسي الفعلي بين الأزواج).كان عمال يشذبون الأشجار على جانبي الطرقات، يوضح عبد الحكيم الناجح: «من الضروري تشذيب الأشجار». كان الناجح جالساً في مقهى السراي عند طرف الساحة الخضراء، التي باتت تُعرف اليوم بساحة الشهداء. يتابع قائلاً: «يجب أن يتلهى الناس بشؤونهم اليومية. قد يبدو ما أقوله غريباً، لكني أعتقد أننا نحتاج حقاً إلى وزارة مرح في ليبيا».تلقى الناجح دروسه في مدينة ماربورغ في وسط ألمانيا. يرأس راهناً غرفة التجارة، وهو أحد مؤسسي منتدى مواطني «ائتلاف طرابلس». في الليلة السابقة، دعا المنتدى كل قادة الميليشيات إلى العشاء, وهذا أول تجمع مماثل منذ انتهاء الحرب. وقد لفت لباسهم نظر الناجح: «لقد ارتدوا جميعهم ربطة عنق».طرح العقائدنشأت ميليشيا في كل منطقة من مناطق المدينة ليصل عددها إلى مئة تقريباً. لذلك، على الليبيين اليوم إقناع عشرات آلاف المقاتلين للتخلي عن شاحناتهم الصغيرة المدججة بالسلاح. معظم هؤلاء المقاتلين شبان، وقد ذاقوا سم السلطة خلال الحرب. يذكر الناجح: «نعرض عليهم تدريبات إدارية. هكذا، يتمكنون من العودة إلى وظائفهم السابقة، إنما برتب أعلى. هذا أقل ما يمكننا القيام به».حوّل القذافي ليبيا إلى بلد في حالة فوضى عارمة، وألب الناس أحدهم على الآخر. كذلك، سمح بانهيار مدن بأكملها. ما زال الوقت مبكراً للتقاتل بشأن العقائد، وفق الناجح. على الليبيين أولاً إرساء الأسس والبدء بعملية إعادة الإعمار. يقول: «تعاونتم، أنتم الأوروبيين، مع حكامنا المستبدين طوال عقود. فلا تبدأوا اليوم الحديث عن مخاطر الإسلام السياسي. صحيح أنني أفضل نشوء أحزاب سياسية ليبرالية، لكن الإسلاميين سبق أن حققوا تقدماً كبيراً، سواء أعجنا ذلك أم لا». يضيف أن شيوعيي أوروبا أنفسهم تحوّلوا إلى الديمقراطية الاجتماعية.لعل للإسلام السياسي، ذلك الخيط الذي يربط العالم العربي بالثقافة العربية الإسلامية، ما يعادله في أوروبا. ربما نستطيع تشبيهه بالكاثوليكية المتمردة في بولندا أو بنهضة الأورثوذكسية في روسيا.في مطلق الأحوال، يتوق الناس في ليبيا اليوم إلى المناقشات والمنظرات، حتى إن الصحف كافة تكون قد بيعت بحلول الظهيرة.الكيلومتر 2792:حصن القذافيلم يُسمح لأي إنسان غير الطاغية نفسه بدخول الغرفة الواقعة في قلب قصره. تمتد شبكة من القضبان الفولاذية سماكتها نحو سنتمتر ونصف السنتمتر من الأرض إلى السقف وتسد مدخل الغرفة. كذلك، لا يصل ضوء النهار إلى هذه الغرفة المحاطة بجدران غليظة من الإسمنت المسلح. اعتاد القذافي إدارة شؤون البلاد وحده في سكوت هذه الغرفة المعزولة والمشددة الحراسة. لكن حصنه الداخلي هذا بدا أشبه بزنزانة.التهمت النيران قصر الحاكم. أما أبراج المراقبة والسكنات والمقرات السكنية المحيطة به فقد خُرّبت. هكذا، بات عرين الأسد اليوم عارياً وفارغاً. أخذ الناس كل ما يمكنهم استعماله من هذا القصر، ولا ترى فيه اليوم إلا الفقراء الذي قصدوه لاسترجاع ما هو حق لهم. يستخدم أحد الرجال سيارته التويوتا ليسحب أسلاكاً من ثقب، في حين يحرق آخرون الغلاف البلاستيكي العازل الذي يغطي الأسلاك، أو يقطعون الأنابيب الفولاذية من بين الحطام. تجوب العائلات وهي تحمل أكياس الفوشار بين الأنقاض، فيما يجلس باعة التذكارات خلف طاولات تحمل بضائعهم.هنا اعتاد القذافي اللعب بالماء مع نسائه، وهنا كان يدعو رجال الدول إلى حفلات الشواء. ظهر من بين الحطام رجل جاد الملامح شديد النحول كان يجر عربة وطلب منا التقاط صورة له.يقول الدكتور أكرم بنه، ساخراً من الدكتاتور الليبي: «سرق ذلك الأشعث 42 سنة من حياتي». شغل بنه منصب مدير مصرف ليبيا المركزي في ستينيات القرن الماضي، وكانت هذه زيارته الأولى إلى ليبيا، وحدد موعداً للقاء رئيس الوزراء الجديد. يخبر: «أعرف مكان الأموال والشركات التي تنتمي إلى هذه الأسرة. أملك المعلومات كافة هنا». يربت على حقيبة صغيرة، ثم يضيف: «سأخبر الحكومة الجديدة بكل شيء. لكن أريد أن أحصل على ثمن 42 سنة أمضيتها في المنفى».عندما تتطلع إلى خارج طرابلس ترى مكب نفايات ضخماً وأشجار كينا وأبنية قاتمة شيدها الناس بأنفسهم، فضلاً عن مشاغل تصليح الدواليب المنتشرة في كل مكان. تتألف الطريق الدولية السريعة التي تخرج من المدينة وتتجه شرقاً من ستة مسالك، وعند كل نقطة تفتيش تقرأ «الله أكبر»، عبارة توحد جميع الشعوب من الرباط إلى القاهرة.قبل بلوغ مصراتة، يمكن رؤية أولى ساحات القتال في سلطان. فتكثر الثقوب في أعمدة الإنارة في الشوارع، وقد حول الرصاص الجدران إلى ما يشبه المنخل. في إحدى الزوايا، تشاهد دبابة ملتفة ومدمرة كما لو أنها مصنوعة من عجين.الكيلومتر 2999: مصراتةلا شك في أن إقامة متحف أحد أفضل السبل لتقبل الماضي. في مصراتة، أنشئ المتحف في ساحة القتال. تُشكّل هذه المنشأة متنفساً غير اعتيادي، ويبدو بعض معروضاته كما لو أنها رفعت لتوها من أرض المعركة.يُعتبر هذا المتحف، الذي أقيم في متجر سابق للمفروشات، ساحة خردة وترسانة ومزاراً للشهداء. يضم قوساً مصنوعاً من نابض نظام التعليق في إحدى الشاحنات. قربه ترى مدفعاً رشاشاً متحركاً وضع على عربة صغيرة. يشمل المتحف أيضاً ذخائر مرتبة بدقة، ألغاماً، قنابل جوية، مئات قاذفات الصواريخ الروسية المضادة للدبابات، خوذات، وقاذفات صواريخ يدوية الصنع ملقاة قرب علب للمشروبات مليئة بخلطات مختلفة من قنابل المولوتوف. رُكنت أمام هذا المتحف دبابتان، فترى أولاداً يرتدون ملابس نظيفة وأنيقة يتسلقونها كما لو أنهم فرسان يقهرون التنين الشرير.يذكر القيم على هذه المجموعة: «أحضر الناس أسلحتهم وأرادوا إخبار قصصهم. هكذا تأسس هذا المتحف»، ويؤكد أنهم اضطروا في البداية إلى تعطيل بعض المعروضات، مضيفاً أن الأمور كافة حدثت بسرعة. غصت الغرفة بالعائلات. وقف الأولاد أمام مجموعة من الصور: هذا كان اللحام وذاك الخباز وله أربعة أبناء. احتلت صور 1135 شهيداً جدران الغرفة الداخلية. يوضح القيم على هذا المتحف أن هذه الصور لا تشمل النساء لأن العائلات رفضت عرض صور لبناتهن.«الاستشهاد أفضل»تُعرض صور عدد من الإصابات التي وقعت خلال المعارك بطريقة تمس قلب الناظر إليها. قربها نُشرت جوازات سفر المرتزقة والخونة. كذلك، تتوسط الغرفة مجموعة من الغنائم، بينها كرسي مرصع وخنجر امتلكه سابقاً الحاكم الطاغية. تشمل هذه المجموعة أيضاً حذاء مصنوعاً من جلد أفاعي رمادي يُقال إنه كان ملكاً للقذافي، وطبعت داخله كلمة «احترام».علي الطبال في الثانية والثلاثين من عمره. صفف شعره بدقة لامتناهية، واختار قميصه القطنية بعناية. لكن ذراعاً اصطناعية حلت محل يده اليمنى. يخبر الطبال: «لم يحالفني الحظ. كنا على وشك أن ننسحب حين أصبت في يدي. كنت قد نسيت أمر القناصة. نزع ذراعه الاصطناعية البخسة الثمن الملصقة بطريقة غير متقنة، فبدت أشبه بقطعة نقانق. لم يتلقَّ أي مساعدات، وما عاد بإمكانه العمل. لذلك، يقول: «كان الاستشهاد خيراً لي».دخل وفد رسمي الغرفة ضمّ سفير الكويت، رجل محترم تغطي وجهه آثار البثور. كان يرتدي عباءة طُرزت أطرافها باللون الذهبي. يدفع هذا الشاب، الذي كاد يستشهد، إلى مقدمة الحشد، فيقول له السفير: «نحن فخورون بك، ألله أكبر». ويربت على كتفه، ثم يواصل جولته. يمسك الطبال بذراعه الاصطناعية، وعندما تراه واقفاً بصمت وسط الحشد، تخاله جزءاً من المتحف بحد ذاته.«دمنا ليس بيبسي»لم تبدأ عملية إعادة الإعمار في مصراتة بعد. فلا ترى أمام واجهات المباني المدمرة جبالات إسمنت، ولا يزال الناس منهمكين برفع الأنقاض. أينما نظرت، رأيت رجالاً، شباناً ومسنين متطوعين وأجراء، يزيلون ما دمرته الحرب.دوّنت أسماء الشهداء على الجدران كما لو أنها أرقام منازل، ومعها ظهرت عبارات التهديد والوعيد: «لنركل العائدين. مصراتة ملك لمن قاتلوا في سبيل تحريرها». دُمر بعض أجزاء المدينة بالكامل. حتى إن شارع طرابلس يذكر بصور سراييفو وغروزني أيام الحرب. عاودت إشارات السير العمل، ويلزم السائقون بها. لكن مع حلول المساء، تُعلق قوانين السير كافة حين تنطلق الشاحنات الصغيرة مسرعة في الشوارع وتلتف عند النواصي بسرعة مصدرة صريراً مزعجاً، فتخال أن القتال لم ينتهِ بعد.ينطلق شاب في الشارع مسرعاً بشاحنته التي تحطم زجاجها وغطى الزيت أغطية مقاعدها. قربه ألقى بندقية رشاشة. امتلأ صندوق الشاحنة بصناديق الذخيرة، وفوقها كان يرفرف علم الثوار المعلق بقضيب من حديد.كان هذا الشاب يعصب رأسه بقطعة قماش غطاها بقبعة علّق عليها نظارات شمس سوداء. ظن هذا الشاب أنه الأكثر وسامة. عرفنا إلى نفسه باللغة الإنكليزية قائلاً: «علي باني»، ثم صاح فيما راحت مجموعة من الأولاد تتأمل مظهره بإعجاب: «أقود شاحنتي أينما أشاء». هل شارك باني في الحرب؟ هل قتل الأعداء؟ يجيب بلا تردد: «مرات عدة». فتبدو إجابته هذه باردة خالية من أي مشاعر، لكنه قد يكون صادقاً.هل يُسمح لمن هربوا ولم يقاتلوا بالعودة إلى المدينة؟ يقول باني: «دمنا ليس بيبسي، إلا أنهم ليسوا خونة. أشعر بالأسى تجاههم».الكيلومتر 3244: سرتقلت أشجار الكينا بعد اجتيازنا مصراتة، وامتدت أمامنا صحراء حمراء كثيرة الصخور. شاهدنا بين الفينة والأخرى بضعة جمال أو حافلة محترقة. ينتشر العلم الليبي الجديد بألوانه الأحمر والأسود والأخضر في كل مكان، على السيارات وأبواب المتاجر والجدران والدبابات المحترقة. في مصراتة، طليت كل شجرة تحد الطريق بالألوان الوطنية. ولكن كلما اقتربنا من سرت، ندرت الأعلام. وعلى بعد عشرين كيلومتراً عن المكان الذي ولد فيه القذافي ومات اختفت هذه الأعلام بالكامل.بدت الدبابات المركونة عند آخر نقطة تفتيش قبل بلوغنا المدينة مهجورة، فلم نرَ سوى ولد يجلس في كرسي بلاستيكي. أخبرنا أنه من سرت وأنه يعرف أين قتل القذافي، ثم ركب السيارة. بدت سرت أشبه بمدينة مهجورة، فلم نشاهد سوى لجام واحد يعلق الخراف أمام متجره. عاد التيار الكهربائي إلى هذه المدينة قبل أيام فحسب. خلف الرصاص ثقوباً كبيرة في جدران الجامعة، في حين أحرقت المباني الحكومية بالكامل وتحوّل كثير من المباني السكنية إلى مجرد هياكل عظمية إسمنتية بفعل الحرب. أعمدة الإنارة وحدها كانت تنتصب في الشوارع ومعها لافتات آخر احتفال بيوم الاتحاد الأفريقي في عهد القذافي.لم نلحظ أي وجود عسكري أو ميليشياوي أو أمني في هذه المدينة. وعند تقاطع طرق في قلب المدينة، رأينا مراهقين ينظفان بندقيتي كلاشنكوف. لم يكونا يرتديان الألوان الوطنية. فقال الولد للسائق: «أخبر الأجانب أن عليهم التزام الصمت الآن».تُعتبر سرت، مسقط رأس القذافي، مدينة مهزومة، لا محررة. في الليل، يُرفع أحياناً فيها العلم الليبي الأخضر الذي يعود إلى عهد القذافي. يُقال إن الأوفياء لهذا العهد ما زالوا يختبئون في هذه المدينة. بدأ السكان بالعودة إلى منازلهم المهدمة، ويتحدث بعض التقارير عن أنهم مملؤون حقداً وغضباً. رفض السائق التوقف في هذه المدينة لأنه من طرابلس.الكيلومتر 3613:بين البريقة وأجدابيايمتد الطريق السريع بمحاذاة الشاطئ، لكن يبدو أن الليبيين يودون إخفاء البحر. فيعتبرون الشواطئ أرض الأطراف الوسخة، لا أماكن يفخرون بها، كما في الجهة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط حيث ترى لافتات كتب عليها EL mare أو El mar (البحر).«بما أن السكان أُرغموا على العيش قبالة هذا المشهد الخلاب، تغلبوا على هذه التجربة الصعبة بإحاطة أنفسهم بمباني بشعة. تتوقع زيارة مدينة منفتحة على البحر تنعم بنسيم المساء العليل. لكنك تجد مدينة أدارت ظهرها للبحر». بهذه الكلمات وصف الكاتب ألبير كامو إحدى مدن المغرب الغربي، مدينة وهران الجزائرية.بعدما تجاوزنا البريقة بنحو 30 كيلومتراً، شاهدنا محطة نفط لا تزال مقفلة. كذلك، توزعت السيارات الصدئة في مختلف أرجاء تلك الأرض الصخرية. كان بعضها منقلباً على سطحه فيما سار أجنبيان بين هذه الحطام. تبين لنا أن الرجل، الذي صفف شعره الرمادي بطريقة تقليدية هو يورغن تودنهوفر، سياسي سابق ينتمي إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ. أما المرأة، فهي المصورة جوليا ليب.في شهر مارس الفائت، أصيبت سيارتهما بصاروخ أطلقه أعوان القذافي، فقتل شخص ثالث كان يرافقهما. أراد تودنهوفر وليب معرفة مكان تصنيع هذا الصاروخ. ربما ألمانيا؟ عثر تودنهوفر على سيارته المحترقة، فحمل بقايا نظاراته ووضعها في جيبه لأنه أراد الاحتفاظ بها كتذكار. تساور تودنهوفر شكوكاً كثيرة حيال هذه الحقبة الجديدة. يذكر: «لا شك في أن الطريقة التي عامل بها الثوار القذافي بعد أسره مريعة. كانت أمامهم فرصة ليثبتوا أنهم متحضرون أكثر من النظام السابق. هذا عار».تداعيات الحربيعبر الطريق الدولي السريع بعد ذلك وسط ما خلفته الحرب من حطام، قذارة، إطارات، قطع بلاستيكية منتشرة في كل مكان، وجيف الجمال التي تعلو قوائمها فوق معدتها المنتفخة. يشكل الطريق المكان الوحيد النظيف والواضح المعالم في هذه المنطقة، هذا إن لم نذكر الحفر التي خلفتها القذائف والتي تصادفك من حين إلى آخر.مع اقترابنا من ضواحي بنغازي، طالعتنا بقايا الموكب الذي يمتد على طول كيلومتر والذي بدّل ظهوره على هذا الطريق السريع في 17 مارس دفة الحرب بما يخدم قرار الأمم المتحدة للتدخل في ليبيا. فبعد ظهر 19 مارس، هاجمت الطائرات الحربية الفرنسية قافلة الدبابات، الشاحنات، الحافلات، والسيارات المصفحة هذه.لم يتبقَّ سوى ست دبابات قرب حطام الشاحنات الكبيرة والصغيرة. يصعب عليك أن تصدق وجود قوة عسكرية مهولة كهذه. فيظهر بعض الأفلام على موقع YouTube مؤيدي القذافي والمرتزقة يهللون بفرح وينزلون من الشاحنات لتناول الطماطم. بعد بضع ساعات يحترقون بالكامل. كيف يمكن لهذا البلد أن ينهض مجدداً على قدميه؟الكيلومتر 3830: بنغازيغصت الصالة بنحو 100 أو 150 رجلاً: قادة ميليشيات، زعماء ثوريون، مقاتلون في سبيل الحرية، ومتمردون. كلهم نجوا من حرب التحرير. يعودون بخطى متثاقلة إلى مقاعدهم بعدما أضنتهم مناقشات استمرت يومين. كذلك لا تزال صفوف المقاعد تحمل اللون الأخضر الذي يذكر بعهد القذافي. سادت بين هؤلاء القادة والزعماء روح وحدة تذكر بروح الثوار الفرنسيين في شهر يونيو عام 1789 وبالقسم الذي قطعوه في ملعب كرة المضرب: سنبقى موحدين، على رغم قوة حربات بنادقنا، ولن نرضخ إلى أن نتوصل إلى اتفاق. اجتمع القادة السابقون من مختلف أنحاء البلد في هذه الصالة للمرة الأولى، ولم يسبق لكثيرين أن تقابلوا. ارتدى معظمهم زيه الرسمي، في حين حلت الأخفاف والصنادل محل الأحذية العسكرية في حالات كثيرة، كما لو أن عملية العودة إلى الحياة المدنية بدأت من القدمين. قرر عدد منهم ارتداء بذلات، عائدين بذلك إلى حياتهم السابقة كأطباء ومدرسين ومهندسين.أمضوا يومين في مساءلة أحدهم الآخر. اعتلى الأمين العام المنصة وبدأ يتلو النص لتقاطعه بين الفينة والأخرى صيحات «الله أكبر» أو رنين هاتف خليوي. استهل كلامه بالقول: «باسم الله الرحمن الرحيم، أطحنا بالنظام المستبد، وقد دخلت الثورة اليوم مرحلة ثانية. علينا راهناً معالجة شؤون الدولة».ضمت المقررات 14 بنداً، تعتبر شعارات في ليبيا المحررة التي تعمها الفوضى. البند الأول: ليبيا دولة إسلامية. البند الثاني: ليبيا دولة عصرية يسودها حكم القانون وتضمن حرية الفرد وكرامته ونزاهته. يلي ذلك حرية القضاء، الحق في التملك، حقوق الإنسان، وفصل السلطات. هكذا، تحوّلت مقررات المؤتمر إلى جدول بالحقوق الأساسية التي لا يقدر قيمتها الحقيقية إلا مَن حرم منها طوال حياته. ولم يتبقَّ أمام المشاركين إلا التصويت عليها. تتحدث التقارير عن مقتل نحو 40 ألف شخص. أفلم يحن الوقت لوقف إراقة الدماء؟سأل الأمين العام: «من فضلكم، مَن يؤيد هذه المقررات؟». فهتف الجميع «الله أكبر» ورفعوا أيديهم. كانوا رجالاً يرتدون بزات عسكرية أو رسمية أو ملابس تقليدية، رجالاً تخلوا في الكثير من الأحيان عن مهنهم كمهندسين ووسطاء تأمين وأطباء ليوقفوا زحف جيش القذافي.أمام ليبيا مستقبل زاهر«في ظل ظروف معينة، تتعلم قيادة دبابة». تفوه بهذه الكلمات الرجل الألماني الوحيد بين الثوار. عمل عصام الحصائري في المنفى كمهندس سيارات في شركة BMW. ويدير راهناً شركة سيارات أجرة كبيرة في ميونخ. عاد إلى ليبيا قبل اندلاع الثورة، وأصبح مسؤولاً عن الأمن في بنغازي. حصائري رجل ذكي مندفع أراد لبلده التقدم والتطور.قال، فيما كان القادة يغادرون الفندق: «بلدنا أحد أغنى البلدان في العالم ونحن أحد أفقر الشعوب. لا يرزح بلدنا تحت الديون. ننعم بوفرة من النفط، الغاز، ونور الشمس. نملك ألفي كيلومتر من الشواطئ، ولا تفصلنا عن أوروبا سوى نصف ساعة بالطائرة. علاوة على ذلك، لا يتجاوز عددنا الستة ملايين. أمام ليبيا مستقبل زاهر. كل ما علينا فعله وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. فيجب أن يعمل الأطباء في المستشفيات، لا المصانع»، ويجب ألا يتحولوا أيضاً إلى قادة عسكريين.يضيف الحصائري قبل أن يستقل سيارته المصفحة: «يجب ألا تذهب دماء 40 ألف إنسان سدى». أتى الحصائري بسيارته هذه من ميونخ على نفقته الخاصة، وقد نجح في النجاة حتى اليوم من 12 محاولة اغتيال. خلال عودتنا إلى وسط المدينة في وقت متأخر من الليل، مررنا بمنطقة من الأبنية السكنية الجديدة التي تشبه مدينة أشباح. راحت السيارة تهتز مع سقوطها في كل حفرة. حتى السيارات تعاني في زمن الحرب!يذكر الحصائري: «لا نأبه للحزب الذي يفوز بالسلطة. المهم أن يتولى أحد إدارة شؤون البلاد». يبلغ الحصائري الخامسة والخمسين من عمره وقد رزق أخيراً بمولود جديد. يوضح: «خضنا الثورة لسبب بسيط: لنأوي إلى الفراش وكلنا ثقة في أن منازلنا لن تتهدم قبل الفجر وأن عائلاتنا ستبقى على قيد الحياة. هذا كل ما نريده».