نظرات في التجارب العربية الثورية الراهنة

نشر في 22-09-2011
آخر تحديث 22-09-2011 | 01:50
No Image Caption
 أ. د. محمد جابر الأنصاري كان خطأً سياسياً كبيراً القفز على الاستنتاج: أن حدوث الثورة في بلدان يمكن أن يُعمم، بتأثير نظرية "الدومينو"، القائلة إن "الانهيار" يمكن أن ينتشر كالعدوى، وقد راجت نظرية "الدومينو" أيام الحرب الأميركية في فيتنام، وذهب محللون أن "الانهيار" الأميركي في فيتنام، يمكن أن يتحول إلى "انهيار" شامل في المنطقة الآسيوية المحيطة بفيتنام، وذلك ما لم يحدث بعد "الانهيار" الأميركي في فيتنام!

وبالمقابل، فإن "انهيار" الأنظمة الشيوعية في العالم أعني روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى لم يتحول "انهياراً" في كوبا ولا في كوريا الشمالية، مثلاً، كما أن الصين، بضخامة حجمها، مازالت سياسياً تتبع نظام "الحزب الواحد"، وإن انتقلت إلى نوع من "الرأسمالية" في الاقتصاد.

هكذا فإن المسألة تتعلق بالركائز المحلية لكل حالة، وليس من الضروري، أن حدوث "الثورة" في بلد يمكن أن تنتقل "عدواه" إلى البلدان المجاورة، فتايوان على سبيل المثال، لم تتحول إلى الشيوعية بعد انتصار ماوتسي تونع في الصين الشعبية عام 1949... ومازالت "تايوان" على نظامها الرأسمالي.

وقد توهم كثيرون في العالم العربي، أن حدوث الثورات في بعض البلدان العربية- بمعنى تنازل رأس الدولة- يمكن أن يكون ظاهرة عامة، وأن نظرية "الدمينو" مازالت على مفعولها القديم... الذي لم يثبت في حينه!

ولعل الشبه الحاصل بين بعض البلدان العربية التي تعرضت لتغيير الأنظمة هو الذي شجع البعض على تبني هذه "النظرية"، فقد مر زمن طويل على بعض الرؤساء وهم جالسون على كرسي الرئاسة، مما شجع على أن "يعشعش" الفساد تحت تلك الكراسي... وكما قلنا في مقالات سابقة، فإنه لا يمكن "الدفاع" عن أمثال هؤلاء الذين استحقوا ما حدث لهم!

غير أن التفكير الاستراتيجي العالمي تجاه الثورات العربية بدأ يتبلور بشكل مختلف مركزاً على "خصوصيات" الأوضاع والحالات، ففي ندوة تم انعقادها في جامعة من أهم الجامعات في العالم، وهي جامعة هارفارد، سمعنا البروفسور غراهام أليسون مدير مركز بليغر للدراسات الدولية يقول: "يجب أن تتعامل الولايات المتحدة مع كل ثورة عربية على حدة لاختلاف ظروف كل ثورة عن الأخرى من أجل تعزيز مصالح الولايات المتحدة... وعلينا أن ننجز تحليلاً مقارناً للثورات حتى نتمكن من فهم الأسباب والنتائج".

وإذا كان هذا البروفسور الأميركي تهمه مصالح الولايات المتحدة، فمن باب أولى أن يهتم الاستراتيجيون العرب بالمصالح العربية، ولا ينحصر الرأي في استراتيجي واحد، فأستاذ العلاقات الدولية وصاحب نظرية القوة الناعمة البروفسور جوزيف سي ناي، يرى أيضاً ضرورة "التعامل بشكل انفرادي مع أي حالة عربية؛ بما يضمن مصالح الولايات المتحدة، لاختلاف الثورات العربية عن بعضها".

هكذا فإن الإدارة الأميركية التي تستمع إلى مثل هذه الندوات الجامعية الفكرية أصبحت مقتنعة بضرورة "التعامل مع كل حالة عربية بشكل منفرد، بما يضمن المصالح الأميركية، ولا مشكلة في التعامل مع الأحزاب الإسلامية ما دامت انخرطت في ديمقراطية العملية السياسية".

ونحن مقتنعون بضرورة التعامل مع كل حالة عربية بشكل منفرد، ولكن الملاحظة بشأن "الأحزاب الإسلامية" تحتاج إلى إثبات من خلال التجربة... وانخراطها في "العملية الديمقراطية" ليس نهاية المطاف في هذه الفرضية!

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالثورات لا تأتي بالديمقراطية، بل إن التدرج الطبيعي، هو الذي يأتي بها، ولم تشهد روسيا، بعد الثورة ضد القيصر، كما أن فرنسا، بعد الثورة ضد الملكية، لم تشهد أي ديمقراطية، ففرنسا قررت العودة إلى نهج التدرج الطبيعي إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، وروسيا تبدأ اليوم حياةً شبه ديمقراطية بعد سبعين عاماً من الحكم الشيوعي الذي أسقط تجربة "ليبرالية" قصيرة، أما من استطاع تطوير الديمقراطية فهو الشعب البريطاني في ظل التاج الذي ضمن الاستقرار وضمن التطور المتدرج للمسيرة الديمقراطية.

ويرى المفكر المصري الكبير، الأستاذ سيد ياسين (الأهرام: 8 سبتمبر 2011م)، "أن المسيرة الديمقراطية لابد أن تكون تدرجية وتطورية، إلا إذا تم إيقافها قسراً، وهنا لابد من "الثورة" لإنقاذ الديمقراطية".

ولكني أختلف معه في مسألة أن "الثورة" بإمكانها إنقاذ الديمقراطية أو إقامتها، فالحالة الثورية، حالة حاسمة، متوترة، غضبية، وليست مؤهلة لسلوك ديمقراطي!

ولابد من حل هذا "الإشكال" بصورة مختلفة، ولا أزعم أني أملك تصوراً لحل هذا الإشكال! ولكني لا أرى في "الثورة" نهجاً لإنقاذ المسيرة الديمقراطية، وثمة شواهد تاريخية عدة، بالمقابل، على أن المسيرة الديمقراطية بحاجة إلى استقرار، وإلى تدرج طبيعي.

لقد انشغل العالم العربي طويلاً بالسؤال: هل المخرج في الثورة أم في التطور؟ وكان الجواب في البداية: بل الثورة!

ولكن الثورات لم تجلب معها إلا الإحباطات، ولم يتحقق في ظلها للناس أي مكسب أو إنجاز، وعندما يسرح المرء بفكره في التجارب العالمية، يرى أنها تقدمت بعد أن تخلت عن "المراهقة الثورية" وارتقت إلى "الرؤية التطورية".

هذا ما ينبغي أن نقوله دون خوف أو وجل، ولعلنا نصل إلى بعض الحقيقة... دون أن نزعم أن ثمة "حلاً" توصلنا إليه!

* مفكر من البحرين

back to top