فرضت رقابة على أشهر قصة فارسيَّة... الجمهوريَّة النوويَّة الإيرانية تخشى الحب!
إحدى علامات البؤس التي ترافق الأنظمة الشمولية والأصولية، انها تحارب الأدب الشعبي الموجود في الوسط الاجتماعي منذ قرون، كما فعلت حركة «حماس» في غزة عندما منعت كتاب «الحكاية الشعبية الفلسطينية – قول يا طير». كذلك يمنع معظم البلدان العربية النسخة الكاملة و{غير المهذبة» من كتاب «ألف ليلة وليلة»... وأخيراً، أمرت وزارة الثقافة الإيرانية بفرض الرقابة على أحد أشهر قصص الحب الأسطورية في الأدب الفارسي مرّ على ظهورها ما يربو على ثمانية قرون، وهي قصة «خسرو وشيرين».ذكرت وكالة أنباء «مهر» أن نظامي الكنجوي كتب قصة «خسرو وشيرين» في عام 1177 ونُشرت في عام 1180، وباتت جزءاً من الأدب الفارسي منذ ذلك الحين. لكن بعد 831 عاماً، قررت وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، وهي هيئة رقابة أيديولوجية خمينية مسؤولة عن إصدار تصاريح للكتب قبل طبعها، أن أجزاءً من الكتاب تحتاج إلى إزالة فقرات منها. وقالت فريبة نباتي، المديرة الثقافية لدار نشر «بيدايش»، والتي تنشر كتاب «خسرو وشيرين»، إنه «بعد هذه الأنواع من القرارات تشعر بالضجر في ما يتعلق بأي عمل ثقافي في هذه البلاد». وذكرت نباتي أن دار النشر، والتي نشرت الكتاب لسنوات، قررت تغيير غلاف النسخة الثامنة وأرسلته إلى الوزارة للحصول على موافقة. فكانت الصدمة عندما طلبت الوزارة حذف أجزاء من العمل بينها عبارات مثل «لنذهب لمكان نكون فيه بمفردنا» و»يمسكان بأيديهما»، واعتبرت أي إشارة في عمل أدبي، بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، إلى علاقات جسدية بين رجل وامرأة أمراً محظوراً ومنافياً للأخلاق.
الخمينيأمر مضحك أن تخاف جمهورية أحمدي نجاد الطامحة إلى أن تكون دولة نوويَّة من قصة عابرة عمرها عقود وأصبحت في متناول الجميع في العالم. أمر مشين أن تكون قصة خسرو وشيرين الأسطورية تحت مقص الرقابة، بينما ثمة ألف مصيبة ومصيبة يفبركها النظام الإيراني لشعبه، ربما كان على الرقابة أن تقرأ بعضاً من أدبيات الخميني وأشعاره العرفانية والصوفية، فالقاصي والداني يعرف أن أشعار مؤسسة الجمهورية الإسلامية تضجّ بعبارات غزل كثيرة وخمريات ودعوة إلى كأس.المهم القول إن الرقابة في أي مكان من العالم يحكمها عقل فيه الكثير من السذاجة والخبث والحقد والمزاجية، وتبعث على الضحك، وشر البلية ما يضحك! بل إن كل رقابة هي في الأساس أحد أشكال الدعاية المجانية لأي عمل أدبي أو سينمائي تستهدفه، أو تبتر عبارة منه، والمسار الثقافي في التاريخ يشهد على ذلك، فكل محجوب مرغوب...بمنأى عن تفاهة الرقابة ووقاحتها، لا بد من التذكير بمضمون قصة «خسرو وشيرين» للقراء، فهذه القصة الأسطورية الفارسية الكردية وحتى التركية، تعتبر ملحمة شعرية ضمّت بين جنباتها قصة رومنسية، لكنها انتهت نهاية تراجيدية مفجعة.يُبَشَّر خسرو (الكسرى برويز بن هرمز الرابع، حفيد أنوشيروان) بأنه سيظفر بثلاثة أمور مهمة جداً وهي مُغنٍّ رخيم الصوت إسمه «باربد»، وبجواد فريد يُدعى «شبديز «، وحبيبة فاتنة الحسن والجمال إسمها «شيرين». تتحقق هذه البشائر أو الأمنيات الثلاث تباعاً بمعونة صديقه ونديمه «شابور» الذي يتنقل بين إيران وأرمينيا مُزوِّداً خسرو بأخبار الحسن الآسر والجمال الفتّان اللذين تتمتع بهما «شيرين» حفيدة الملكة الأرمينية «مهين بانو». وما إن يرتبط الإثنان بعلاقة حُب حتى يعرّج خسرو في واحدة من رحلاته الكثيرة على ملك الروم سائلاً إياه العون والمؤازرة للقضاء على التمرّد الذي وقع ضد والده، لكنه يتزوّج هناك من «مريم» ابنة القيصر. بينما تنشأ علاقة حُب أخرى بين النحات والمعماري «فرهاد» و»شيرين» التي سمعت عن حبّه الكثير.يتحرّق خسرو غيظاً من هذه العلاقة العاطفية وبمشورة أعوانه يقررون القضاء على «فرهاد» بمكيدة لئيمة. فيخبرونه بأن «شيرين» قد ماتت بينما كان هو يشقّ الطريق الصخرية الوعرة في بيستون (غربي كرمانشاه)، وينحت من صخورها تماثيل جميلة لشيرين.الجبل الصخرييقع الخبر على فرهاد وقوع الصاعقة فيلقي بنفسه من حافة الجبل الصخري ويلاقي مصيره المحتوم. وعندما تتوفى «مريم» تصبح الطريق سالكة أمام شيرين كي تتزوج من خسرو الذي يمحضها هو الآخر حباً جماً قلّ نظيره. وفعلاً يقترن بها ويعيشان حياةً ملؤها الحب والسعادة، غير أن هادم اللذات ومفرّق الأحباب كان يقف لهما بالمرصاد حيث تُدبر مكيدة أخرى للملك خسرو ويموت على يد ابنه «شيرويه» من زوجته الرومية. وكنوع من الوفاء لزوجها تطعن شيرين نفسها بالخنجر ذاته الذي طُعِن فيه زوجها، وتُدفَن معه في قبر واحد.عشقأصبحت حوادث عشق «خسرو وشيرين» و{فرهاد وشيرين» موضوعاً محبباً في الشعر الغرامي والحماسي. ويشار إلى أن بعض الروايات الخاصة بهذا الموضوع مزج الحقيقة بالأسطورة، وبالغ في الشكل الأسطوري البعيد عن الحقائق ولعل أحد أفضل النصوص عن هذا الموضوع هو «خسرو وشيرين» للأديب الحكيم نظامي كنجوي الذي يسرد فيه قصّتهما بأسلوب شعري.يعدّ هذا الكتاب إحدى روائع الأدب الفارسي، وقد اشتمل على ستة آلاف وخمس مئة بيتٍ شعري، اختصرها عبد المحمد آيتي ونشرها في طهران في سبعينيات القرن الماضي، وهي النسخة التي تُرجمت إلى العربية. إلى ذلك، لم تكن قصة «كسرى وشيرين» مصدراً للأدب والشعر فحسب، بل كانت موضوعاً فنياً شائعاً في تلك الفترة، فغالباً ما زيّنت التحف الزجاجية والنرجيلات والقوارير ذات الرقاب الطويلة بالمناظر الشاعرية وكان منظر خسرو وهو يستقبل حبيبته «شيرين» أحد أكثر المواضيع التي نراها مجسّمة على هذه القطع الفنية.بالعودة إلى كتاب «خسرو وشيرين» للشاعر نظامي، أتمّ هذا الكاتب مؤلّفه سنة 576 هـ (1180م) وأهداه إلى جيهان بهلوان حاكم أذربيجان (582هـ). تبدأ القصة بكلام شابور، نديم خسرو، وهو يصف شيرين لسيّده، حيث زار شابور بلدها: إنها فتاة ملائكية... بدر منيرمضيئة الليل كضوء قمر ساطعسوداء العينين كماء الحياةباسقة القوام كنخلة فضيةيسيل لعاب الصدف من بعيدحسرة على لآلئ أسنان شبيهة بالنورأما شفتاها السكريتان فهما عقيق نضروقد اتخذت من عينها – الساحرة- ساحراً.يدرأ بتعاويذه عين السوء عنها...يستمر الكاتب ويسهب في وصف شيرين بشتى الصور الشعرية الرائعة ونراه يكثر من استخدام المصطلحات لوصفها مثل نبع السكر، وجه القمر، مهاة المرج، السروة الباسقة. ولعل أحد أجمل الألقاب التي أطلقها عليها هو تشبيهه إياها بـ «نهر الفرات» لعذوبتها (إشارة إلى أصلها العراقي)، وبـ{النخلة العراقية» في أكثر من موضع. وبعدما أكثر من وصفه لجمالها يشير نظامي إلى أن شابور استمر ذاكراً مهاراتها الأخرى، فهي فارسة ماهرة في ركوب الخيل، وكان لها جواد اسمه «كلكون»، يتحدّث عنه شابور:وقد ربط في إسطبلها جواد سريعلا تلحق الريح غباره أثناء عدوهمجنون بني عامر«خسرو وشيرين» مثل معظم الحكايات الأسطورية، تحاك حولها تأويلات وأخبار وفبركات، وأحياناً تنسب إليها حوادث ليست من لدنها، تماماً كما حصل في أخبار مجنون بني عامر التي بنيت في معظمها على ما رواه الرواة وهم كثر، وباتت القصة أقرب إلى خبرية تتضخم وتتقلص بين هذه الرواية وتلك.وفي العصر الحديث، ألهمت هذه الأسطورة عدداً من السينمائيين والشعراء والمسرحيين، فصوّر عباس كيروستامي فيلمه «شيرين» وهو مستوحى من هذه الأسطورة، وكُتبت مسرحيات شعرية مستمدة من أحداثها ووقائعها، منها «حكاية حب» للشاعر التركي ناظم حكمت، وقد قدمت هذه المسرحية على أشهر مسارح العالم لسنوات طويلة متتالية (في موسكو وباريس وبرلين وغيرها من العواصم). وفي أذربيجان، كتب الشاعر فورغوف مسرحية «فرهاد وشيرين» التي ترجمت الى عدد من اللغات الأجنبية وقدمت على مسارح جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.يُشار الى أن معهد الاستشراق في مدينة بطرسبرغ الروسية، جمع نصوصاً فولكلورية كردية وشرقية لهذه الأسطورة، وقد قلّد شعراء كثر قصة «خسرو وشيرين» وظهرت بمسميات كثيرة. وكان هذا الكتاب مثار اهتمام عرب ومستشرقين كثر، ففي عام 1933 أعد المستشرق التشيكي هربرت دودا كتاباً بعنوان «فرهاد وشيرين» تناول فيه «خسرو وشيرين» الذي ترجم الى لغات عدة.