الإمبراطوريات تجدد تواصلها مع مستعمراتها السابقة
لا تزال فرنسا قوة عسكرية وثقافية مهمة وستتابع جذب النخب العربية (وحتى الإسلامية منها) التي تريد الأسلحة والسلع الفاخرة، لكن ستجد فرنسا صعوبة في الترويج لمفهوم العلمانية في أنحاء المنطقة أو مضاهاة الشبكات التجارية التركية التي تحظى بتأييد واسع.
بينما يشارك المصريون والتونسيون في الانتخابات لاستبدال الطغاة بعد الإطاحة بهم، وبعد أن وصل النظام السوري إلى حافة الهاوية، تتنافس قوتان إمبرياليتان قديمتان لفرض نفوذهما السياسي على الدول العربية المضطربة.لا نتكلم هنا عن الولايات المتحدة وروسيا، فبعد سنوات من تنافس هذين البلدين على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال الحرب الباردة، انتقلت المنافسة الآن إلى فرنسا وتركيا اللتين تسعيان إلى عقد علاقات تجارية مربحة والاستفادة من نشوء جيل جديد من القادة في الأراضي التي كانتا تسيطران عليها في الماضي.لكن هذا التنافس ليس حديث العهد، فمنذ أن غزا نابوليون مصر في عام 1798، لطالما تنافست فرنسا وتركيا لفرض هيمنتهما على الشرق الأوسط، فبرزت القوة الفرنسية في منطقة المتوسط مقابل تراجع النفوذ التركي في المنطقة نفسها.وبينما كانت السلطنة العثمانية تنهار تدريجاً، فرضت فرنسا نفوذها في الجزائر وتونس ومصر موقتاً، ثم وجه الفرنسيون الضربة القاضية للسلطنة المتداعية حين سيطروا على سورية ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد ذلك، تراجعت حدة المنافسة خلال القرن العشرين عندما أصبحت تركيا دولة تركز على شؤونها الداخلية.خلال حقبة تفكيك المستعمرات، فقدت فرنسا سيطرتها السياسية على الأراضي الممتدة بين المغرب غرباً وسورية شرقاً، لكن حافظت باريس على نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة من خلال دعم الشركات الفرنسية الكبرى التي عقدت روابط مربحة مع حكام المنطقة.حتى إن تركيا تطلعت إلى فرنسا كنموذج يُقتدى به في مرحلة معينة، وعندما أسس مصطفى كمال أتاتورك تركيا المعاصرة في عام 1923، اعتمد النموذج الفرنسي المبني على العلمانية المتشددة التي تنص على فصل الدين عن الدولة والسياسة والتعليم.بعد أن هيمنت فرنسا على معظم أجزاء المنطقة خلال القرنين الماضيين، بدأ الوضع يتغير الآن، وإذا لعبت تركيا أوراقها ببراعة، فقد تنجح في مضاهاة النفوذ الفرنسي أو قد تصبح القوة المهيمنة في المنطقة.في العقد الماضي، شهدت تركيا نمواً اقتصادياً قياسياً ولم تعد بلداً فقيراً يتوق إلى الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يتمتع هذا البلد باقتصاد قوي (1.1 تريليون دولار) وجيش فاعل، وهو يطمح إلى رسم معالم المنطقة على صورته الخاصة.وبينما أدت الاضطرابات السياسية إلى إصابة شمال إفريقيا وسورية والعراق بالشلل، وبعد أن ساهم الانهيار الاقتصادي في تضرر معظم أجزاء أوروبا في منطقة المتوسط، نجحت تركيا وفرنسا في تجنب الأزمة، وتُعتبر مظاهر الخصومة المتزايدة بين البلدين أحد الأسباب التي دفعت فرنسا إلى معارضة الطلب التركي بالانتساب إلى الاتحاد الأوروبي.في خضم مساعي فرنسا إلى إنشاء اتحاد أوروبي متوسطي (اعتبره ساركوزي في عام 2008 طريقة لوضع فرنسا في صلب العالم المتوسطي)، أدرك الأتراك أمراً أساسياً: لن تسمح باريس بانتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولن تقبل بتحوّلها إلى لاعب سياسي نافذ في منطقة المتوسط التي تقودها فرنسا.لهذه الأسباب، فضلت السياسة الخارجية التركية الناشطة الابتعاد عن أوروبا، فيسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم الآن إلى توثيق علاقاته مع الأراضي العثمانية السابقة بعد أن تجاهلتها تركيا في معظم فترات القرن العشرين.من أصل 33 بعثة تركية دبلوماسية جديدة في العقد الماضي، أُرسلت 18 بعثة منها إلى الدول المسلمة والإفريقية، وأدى هذا الوضع إلى نشوء روابط تجارية وسياسية جديدة، وقد حصل ذلك على حساب العلاقات التركية مع أوروبا.عام 1999، كان الاتحاد الأوروبي يستأثر بأكثر من 56% من التجارة التركية، لكن في عام 2011، تراجعت تلك النسبة إلى 41%، وخلال الفترة نفسها، ارتفعت حصة الدول الإسلامية من التجارة التركية من 12% إلى 20%.أدى ظهور شركاء تجاريين جدد إلى نشوء نخبة محافِظة اجتماعياً في قطاع العمل، مقرها وسط تركيا، وهي تحصل على قوتها من التبادلات التجارية مع أطراف أخرى غير أوروبا وتستعمل ثروتها الجديدة لإعادة تحديد المقاربة التركية التقليدية من مفهوم العلمانية.منذ عام 2002، انهار نموذج أتاتورك المستوحى من فرنسا، فقد طور حزب العدالة والتنمية وحلفاؤه شكلاً أكثر اعتدالاً من العلمانية يسمح بتوسيع هامش المظاهر الدينية ضمن الحكومة والسياسة والتعليم، وهذا ما جذب الدول العربية إلى النموذج التركي كونها تبغض أصلاً العلمانية الفرنسية. صحيح أن البلدين دعما في السابق بعض الحكام الدكتاتوريين (فقد سمح نيكولا ساركوزي لمعمر القذافي باحتلال وسط باريس ونصب خيمة بالقرب من قصر الإليزيه في عام 2007، وقبل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بجائزة القذافي الدولية في عام 2010)، لكن سرعان ما أعلنت تركيا دعمها للثوار العرب في مرحلة مبكرة، ما أكسبها معجبين في أنحاء المنطقة.أما فرنسا، فكانت تراهن على استمرارية الحكم الدكتاتوري إلى أن دعمت أخيراً ثوار ليبيا في السنة الماضية، ولكنها لم توطّد علاقاتها مع القوى الديمقراطية المعارِضة للحكام الاستبداديين.في المقابل، عززت تركيا علاقاتها مع تلك القوى الديمقراطية، ولو عن غير قصد، من خلال توسيع قوتها الدبلوماسية في الدول العربية، فأنشأت بذلك شبكات تجارية فاعلة وأسست مدارس ثانوية حديثة تديرها حركة "غولن" المستوحاة من الإسلام، من أجل تثقيف النخبة العربية المستقبلية. حصلت تركيا بفضل الربيع العربي على فرصة غير مسبوقة لنشر نفوذها في المجتمعات العربية التي اكتسبت حريتها حديثاً.تزامناً مع تصدع الروابط التجارية بين فرنسا والنخبة العلمانية القديمة، بدأ النفوذ الفرنسي يتلاشى أيضاً.لا تزال فرنسا قوة عسكرية وثقافية مهمة وستتابع جذب النخب العربية (وحتى الإسلامية منها) التي تريد الأسلحة والسلع الفاخرة، لكن ستجد فرنسا صعوبة في الترويج لمفهوم العلمانية في أنحاء المنطقة أو مضاهاة الشبكات التجارية التركية التي تحظى بتأييد واسع، وتحديداً في سورية ولبنان والعراق حيث تتمتع تركيا أصلاً بنفوذ كبير.ومع ذلك، سيكون الطريق متعرجاً أمام تركيا، فقد حكمت الشرق الأوسط العربي حتى الحرب العالمية الأولى، ويجب أن تكون حذرة الآن بشأن طريقة نقل الرسائل التركية في هذه المنطقة.ربما يسهل استمالة العرب نحو نظرائهم المسلمين، لكن يبقى الأتراك أسياداً لإمبراطوريات سابقة تماماً مثل الفرنسيين.يطالب العرب اليوم بالديمقراطية، وإذا تصرفت تركيا كقوة إمبريالية جديدة، فقد تترافق هذه المقاربة مع نتائج عكسية.خلال مؤتمر حديث في جامعة "زيرف" (وهي كلية راقية خاصة تقع في مدينة غازي عنتاب وتحصل على التمويل من الشركات المحلية التي جعلت من تركيا قوة اقتصادية نافذة في المنطقة)، اختلف الليبراليون والإسلاميون العرب من البلدان المختلفة حول معظم المسائل، ولكنهم أجمعوا على أمر واحد: يرحب الجميع بتركيا في الشرق الأوسط شرط ألا تفرض هيمنتها على المنطقة.في شهر سبتمبر، عندما هبط أردوغان في مطار القاهرة الجديد (بُني هذا المطار من جانب شركات تركية)، حظي باستقبال حافل من ملايين الناس الذين حشدهم "الإخوان المسلمون".لكن سرعان ما أغضب أردوغان مضيفيه المتدينين حين راح يعظ عن أهمية الحكومة العلمانية التي تضمن حرية المعتقد الديني (وقد استعمل مصطلح "العلمانية" بالتركية (laiklik) علماً أن هذه الكلمة مشتقة من اللغة الفرنسية). لكن في اللغة العربية، تعني هذه الكلمة تلقائياً "الإلحاد". ربما ضاع معنى رسالة أردوغان بسبب الترجمة غير الدقيقة، لكن تجسد هذه الحادثة حدود النفوذ التركي في البلدان التي لا تزال محافِظة اجتماعياً أكثر من تركيا نفسها.ربما تتفوق تركيا على المستوى الدبلوماسي لكن تتفوق فرنسا حتماً في مجال استعمال القوة، ويتضح ذلك من خلال حرب ليبيا الأخيرة وصلاحية استعمال حق النقض في الأمم المتحدة.على الرغم من النمو القياسي الذي حققته تركيا منذ عام 2002، يساوي الاقتصاد الفرنسي أكثر من ضعفَي حجم الاقتصاد التركي، وتحافظ فرنسا على نفوذها في شمال إفريقيا.نظراً إلى الاستقرار النسبي في تركيا، تزامناً مع انتشار الاضطرابات في المنطقة، تجذب تركيا الاستثمارات من الدول المجاورة الأقل استقراراً مثل إيران والعراق وسورية ولبنان، لكن في نهاية المطاف، سيصعب الحفاظ على الاستقرار السياسي والنفوذ الإقليمي بشكل دائم، ومن المعروف أن النمو الاقتصادي يعتمد على هذين العاملين معاً.إذا أرادت تركيا أن تصبح منارة الديمقراطية في الشرق الأوسط، فيجب أن يوسّع دستورها الجديد نطاق الحقوق الفردية لمصلحة المواطنين المحليين، بما في ذلك الأكراد، وكذلك، يجب تحقيق رؤية وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الذي طرح سياسة خارجية تخلو من المشاكل مع الدول المجاورة. يعني ذلك تخطي أزمة الأسطول التي وقعت في عام 2010، وتجديد العلاقات القوية مع إسرائيل، والتوافق مع القبارصة اليونانيين الذين يعيشون على الطرف الجنوبي من جزيرة قبرص المنقسمة (يسيطر القبارصة الأتراك على الجزء الشمالي).لقد دام الصراع هناك عقوداً عدة، إذ يريد القبارصة الأتراك الأكثر فقراً إنشاء فدرالية حرة بينما يفضّل معظم القبارصة اليونانيين نشوء حكومة مركزية قوية، ويشكل اكتشاف الغاز الطبيعي على ساحل قبرص الجنوبي فرصة كبرى لإحراز تقدم نحو حل الأزمة.يمكن أن تتجاوز تركيا الخلافات من خلال اقتراح توحيد الجزيرة مقابل اتفاق على تقاسم عائدات الغاز، وقد يساهم هذا الاتفاق، إلى جانب تحسين الروابط التركية الإسرائيلية، في تسهيل التعاون لاستخراج كميات أكبر من رواسب الغاز في الساحل الإسرائيلي. تُعتبر تركيا الوجهة المنطقية لأنابيب النفط من هناك إلى الأسواق الخارجية.ستصبح تركيا قوة إقليمية نافذة شرط أن تقدم نموذجاً حقيقياً عن الديمقراطية الليبرالية وأن تتابع توثيق علاقاتها مع جميع الدول المجاورة لها... إنه التحدي الأكبر الذي يواجهه أردوغان بينما يحاول التفوق على إرث نابوليون!