بين فشلَيْ زياد الرحباني ومارسيل خليفة... صدمة جمهور يبحث عن الثورات والذاكرة
في الأيام الأخيرة، كان الجمهور اللبناني أمام مشهدين في الفن: تمثّل الأول في مطالبة مجموعة من الشبان عبر الـ{فيس بوك» بمبادرة بعنوان «الشعب يريد عودة زياد» على منوال «الشعب يريد إسقاط النظام»، وأكّد نحو 1500 معجب أنهم سيجتمعون في ساحة قصر الأونيسكو (بيروت) للمطالبة بعودة زياد الرحباني، ابن فيروز، إلى الفن... لكن المفاجأة والصدمة كانت في حضور 20 شخصاً فقط.صاحب الفكرة عامر المرعي، طالب سوري في كليّة العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، وعضو في مجموعة زياد الرحباني. لم يتوقّع ابن العشرين أن تلقى دعوته إقبالاً خجولاً على رغم وعود المشاركة التي انهالت عليه. والهدف من هذا التجمّع كان عودة زياد إلى الساحة الفنية وسماع رأيه بالثورات التي تهزّ العالم العربي، سواء بأغنية أم بمسرحيّة أم بعمل فني آخر.
جاء المشهد الثاني أكثر فداحة من المشهد الأول شكلاً ومضموناً، وتجلّى في حفلة موسيقية قدّمها مارسيل خليفة وولداه رامي وبشار في «مهرجان بيروت للموسيقى والفن» على واجهة بيروت البحرية.حمل خليفة جديده الموسيقي، بل حمل مشروع ولديه وأتى به الى بيروت. لكن الصدمة كانت عندما هتف قسم من الجمهور مطالباً خليفة بإنشاد «يا بحرية هيلا هيلا»، فيما انسحب بعض من الحضور دفعة واحدة. وصرخت امراة كانت بين المغادرين محتجّة: «أصبتمونا بالملل. جئنا لنسمع أغنيات المقاومة. تأمركت يا مارسيل».بين مطالبة بعض الجمهور اللبناني والسوري بمعرفة موقف زياد الرحباني من الثورات، ومطالبة البعض الآخر مارسيل خليفة بأغاني المقاومة، تكمن الورطة ويكون السؤال عن هوية الفنان والفن؟ فجمهور زياد الرحباني «اليساري» و{الثوري» يعتبره، في اللاوعي، «الزعيم» و{ملك الساحة على بياض» و{المتمرد» والشجاع وفتى الموسيقى المدلّل وصاحب المواقف النارية والقوال المسرحي. لكن ما لا ينتبه إليه أنه (الجمهور) يعيش أمام «سطوة الرمز» لا أكثر ولا أقل، أو أنه يبحث عن شيء لملء فراغه السياسي، أو مجده الخاوي. لا نعرف إن كان زياد لا يزال يعبّر فعلاً عن هواجس الشباب العربي عموماً واللبناني خصوصاً! وهو الذي وُصف بعد حفلات قدّمها يوماً في بعض الملاهي في بيروت بأنه «المستخف بالموسيقى والناس» بحسب تعبير أحد الصحافيين، ولا ندري إن كان له رأي في الثورات العربية وهو الذي مجّد ذات مرة الستالينية وأفعالها المشينة، وخلال السنوات الماضية وظّف تعابيره كافة في شتم هذا الفريق أو ذاك أو في الدخول مع جمهور «أشرف الناس». آنذاك، ثمة من وصف زياد بأنه «شيوعي مع حزب الله»، وتجلّت صدمته عندما أجرت محطة «المنار» الحزب إلهية مقابلة معه وحذفت على عادتها ما لا يناسبها.كذلك لم يكن «ملك الساحة على بياض» بمنأى عن تقديم حفلات ترويجية للتيار العوني في خضم الانتخابات النيابية اللبنانية. عموماً، لا جدوى من نقاش مواقف الرحباني السياسية فهي لا تختلف عن الزجل الذي يسيطر على المنابر اللبنانية.أما مارسيل خليفة، الذي «يحب الحياة» و{الأندلس» والذي انطلق من متاريس الحرب والمقاومة والميليشيات والحزب الشيوعي والذي يعرف من هو جمهوره في لبنان، فأتى كأنه يريد أن «يتفلسف» على هذا الجمهور، تارة بحديثه الصحافي وطوراً بمشروع ولديه الشبابي. كأنه جاء في حفلة تسويقية، لكن الصدمة أن الحفلة التي جمعت أربعة آلاف شخص لم تمرّ على تمام عند الحضور كلّه، فالارتجال والتجريب وحرية الموسيقى، أمور أثارت أسئلة كثيرة لدى جمهور مارسيل تحديداً، الذي نزل الى الواجهة البحرية مكان الحفلة لسماع خليفة برغبته في استعادات غنائية، حنينية ورومنسية إلى زمن غابر. بل إن بعض الجمهور أراد توظيف ذلك الحنين السرمدي في موقفه الراهن من «الثورات العربية»، لكن مارسيل ارتأى أن يكون مخلصاً لمشروعه. صرّح خليفة لجريدة «السفير» اللبنانية: «يعرف الجمهور الكثير في السينما والرسم؛ النحت والمسرح، ولكنه قد لا يعرف شيئاً عن الموسيقى؛ هناك نوع من الجهل المتعلق بالموسيقى، ولهذا نرى مستمعين محافظين للغاية لا يريدون موسيقى جديدة؛ يريدون فقط ما علق في ذهنهم من قوالب الماضي أكثر مما يريدون الجديد؛ قليل من الناس الذين يعرفون الموسيقى وقد جعلوها جزءاً من حياتهم؛ علينا أن نخلق سبلاً للاستماع وجعل الموسيقى سهلة المنال}.يريد مارسيل خليفة تغيير قواعد اللعبة من دون مقدّمات، وهو يدرك أن الأمور ليست بهذه البساطة. فقد نجح في تقديم موسيقى «جدل» في المسارح المغلقة، لكن أذكر أنه عندما حاول تقديمها على مسرح الأونيسكو شعر الجمهور بالملل، فالأخير يفضّل الأغاني التي تقترب من الوجدان والجسد، وخليفة بعد الشهرة والباع والصيت في الغرب صار يبحث عن متعته الخاصة قبل تقديم الفن للجمهور. فهو الذي يعتبر الموسيقى كالصلاة ويجب أن نصغي إليها، ربما بات يجهل أن الجمهور يعتبر «الفرح كالصلاة».في بيروت وعلى الواجهة البحرية، جلس خليفة مع ولديه وفيما كان يعبّر كالعادة عن انسجامه التام مع موسيقاه بإغماضة عينيه وانحناءة رأسه، كان رامي وبشار يعبّران عن انسجام مماثل، لكن بواسطة الجسد ويعيشان عزفهما باستعراض بدني يتطلّب قدرات كبيرة.انسجم آل خليفة مع فنّهم ولم ينسجم معهم الجمهور الحالم والباحث عن أغان يعرفها في ذاكرته، هذا الأمر بات مشكلة فنانين عرب كثر يطمحون الى «التجديد» من خلال ما يسمى «التغريب»، إذ يشعر الفنان بمتعته من خلال ما يقدّمه لكنه يعيش لحظة الاغتراب عن جمهوره.في زمن الميديا والفيديو كليبات، ينبغي تحضير الجمهور لكل جديد. حتى في الماضي كان الرحابنة يعتمدون في المسرح على كلمات الأغاني التي يسهل على الجمهور حفظها وتردادها، بمعنى أن حفظ الأغنية يسهّل انتشارها وبقاءها في الذاكرة والوجدان، وهذا الأمر يسهّل نجاح المشروع الموسيقى أو الغنائي.في حفلة خليفة الأخيرة، كان هوس التوزيع وإعادة التوزيع يسكن الأب وولديه، لذلك فنكهة الأغنية الواحدة تختلف من حفلة إلى أخرى وسط الصخب الموسيقي الممتع والعقلاني، ووسط المؤثرات المعاصرة (والغربية) التي لم يألفها جمهور خليفة، وكان بديهياً أن يتأفّف جمهور «يا بحرية» من موسيقى تجريبيّة. كان الأجدى بخليفة أن يترك الحرية لرامي وبشار يصنعان مستقبلهما خارج إطار ماضيه. لكن بالتأكيد هو يعلم أن مآل الموسيقى صعب في العالم العربي، فالكلمة تبقى أقوى من اللحن والصوت يتقدّم على الموسيقى وإن كانت الموسيقى ناجحة، والجمهور العربي يحب الموسيقى الشرقية المصاحبة للغناء.ذلك كلّه لا يعني أن موسيقى أبني خليفة لا تحظى بجمهور شبابي، بل ينبغي فصل ذاكرة مارسيل خليفة عن مستقبلهما.