لوتريامون... كتابة الأرق

نشر في 07-12-2011
آخر تحديث 07-12-2011 | 00:01
 زاهر الغافري في مطلع الثمانينيات كنت في لندن قادماً من باريس، وبعد فترة صخب قصيرة في لندن توجهت إلى أكسفورد، إلى مكان هادئ ووديع قريب من الجامعة الشهيرة، كان في حوزتي يومذاك نسخة من الطبعة الأولى بالعربية لأناشيد مالدورور الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 1982، بترجمة سمير الحاج شاهين، ورغم معرفتي المسبقة بلوتريامون وأناشيده فإن قراءة هذا الكتاب حولت ذلك المكان الحميمي والهادئ إلى مكان مقلق وشيطاني، كان ذلك منذ زمن بعيد، والآن حين أعيد قراءته أقول حسناً فعل الناشر صاحب منشورات الجمل في إعادة طباعة الكتاب 2010 بمقدمة منقحة للمترجم، فهذا العمل الشعري استثنائي بامتياز. لوتريامون (اسمه الأصلي ايزدوردوكاس)، هذا الشاعر المصاب بالأرق الدائم، الغريب الأطوار والمختل المزاج وفقاً لسيرة حياته، كان قد خبر مبكراً تراجيديا الوجود الإنساني واختلاجات عناصر الطبيعة، فراح يُمجد الشر والعصيان وفوران اللذة والقسوة، بطريقة محكمة وممنهجة، حتى أنه لم يترك للبشرية فسحة لأمل أو نجاة، غارق في التشاؤم في استنهاظ كوابيس العالم الداخلي بل في التجديف والاعلاء من قيم اللعنة والريبة والتمرد وتدمير الإنسان لذاته إلى أقصى الحدود، وهو من شدة كرهه للإنسان يقولها صراحة في النشيد الرابع «إن شعري لن يرتكز إلا على مهاجمة شتى الوسائل، الإنسان ذلك الوحش الكاسر والخالق الذي ما كان يجب أن يلد حشرة مماثلة، المجلدات ستتراكم فوق المجلدات، حتى نهاية حياتي، ومع ذلك لن يظهر فيها إلا هذه الفكرة الوحيدة الحاضرة في ذهني أبداً». وبغض النظر عن كون أناشيد مالدورور شكلت ما يمكن اعتباره مرجعاً روحياً وجمالياً للسورياليين بعد اكتشاف هذا العمل النادر وخصوصاً عند عرّاب السوريالية اندريه بروتون الذي اعتبره اشبه بالإنجيل المقدس. أقول بغض النظر عن كل ذلك إلا أن كتابة من هذا النوع المتفرد تفصح عن شعرية تقودها مخيلة فذة وجامحة وطاقة تعبيرية خطيرة وهائلة لا يمكن أن تقود إلا إلى الهلاك أو الانتحار، بالمعنى الوجودي الذي أسماه نيتشة مرة «قفزة في الفراغ» هذا الكتاب الشعري المخيف، المزعزع غير المعهود باستعاراته ومجازاته التعبيرية صفعة حقيقية تجاه العالم. وقد لا يفيدنا الحديث عن حياة لوتريامون على هذا الصعيد حتى لو أنه ولد وعاش «1846-1870» في مونتيفيوديو وشهد الحرب الطاحنة التي استمرت طويلاً بين بلدين هما الأرجنتين والأورغواي بين 1846 و1852، كل هذا لا يكفي لتوصيف كيفية تخلق كائن من هذا النوع. من هنا ليس غريباً أن يعبر أندريه بروتون عن صيحة الاعجاب بالأناشيد عندما قال: (حتى اليوم أنا عاجز تماما عن التبصر برباطة جأش في هذه الرسالة الساطعة التي يبدو لي أنها تتجاوز من كل الجوانب الامكانات البشرية «... الاسم الوحيد المقذوف عبر الاجيال الذي يُشكل تحدياً لكل ما هو غبي، دنيء ومقرف على الأرض»: مالدورور. كما أن لوتريامون عبر عن اعتداده بالنفس أيضاً فقال في المقطع الثاني من النشيد الرابع «إن أكبر عباقرة المستقبل سيظهرون لي عرفاناً صادقاً بالجميل، سيكون هناك في أناشيدي، برهان هائل على القوة، ليحتقر هكذا الآراء الشائعة. انه ينشد لنفسه وحدها وليس لأشباهه... لقد جاء حراً كالعاصفة، يرسو، ذات يوم، على الشواطئ الجموحة لإرادته الرهيبة! إنه لا يخشى شيئاً، إن لم يكن ذاته».
back to top