حتى الآن... الوضع في ليبيا يسير في الاتجاه الصحيح!
بعد أسبوعين على سقوط العاصمة الليبية سريعاً في يد الثوار، غداة ستة أشهر من الاشتباكات الضارية في ظل نظام معمر القذافي المتخاذل، ها هي طرابلس تعود إلى الحياة تدريجاً، بل إنها تستعيد حياتها الطبيعية بشكل شبه كامل، إذ يعتبر معظم الليبيين أن حكم القذافي طوال 42 عاماً كان عبارة عن محنة قاسية يجب محوها من الذاكرة.
في إحدى الأمسيات، كان الأطفال الضاحكون يملؤون مدينة الملاهي على الجبهة البحرية من طرابلس، وينشدون العبارات بينما يركبون لعبة دوامة الخيل، غير أن هتافاتهم الاحتفالية لا تتعلق بعالم الطفولة بأي شكل، بل إنها تكرر شعارات الثورة التي كانت تصدح في أنحاء العالم العربي: "الشعب يريد إسقاط النظام!".بعد أسبوعين على سقوط العاصمة الليبية سريعاً في يد الثوار، غداة ستة أشهر من الاشتباكات الضارية في ظل نظام معمر القذافي المتخاذل، ها هي طرابلس تعود إلى الحياة تدريجاً، بل إنها تستعيد حياتها الطبيعية بشكل شبه كامل، إذ يعتبر معظم الليبيين أن حكم القذافي طوال 42 عاماً كان عبارة عن محنة قاسية يجب محوها من الذاكرة، فها هم يبدؤون الآن مرحلة جديدة ولكنهم يتعاملون معها بمشاعر مختلطة من القلق والدهشة، وكأنهم يستيقظون من كابوس طويل، ويصعب أن نتجول في طرابلس من دون أن يوقفنا الناس ويقصّوا علينا حكايات عن الأهوال التي طبعت حكم القذافي.لا تزال أغلبية مناطق هذه المدينة التي تضم مليوني نسمة شبه خاوية، إذ لم تفتح معظم المتاجر أبوابها بعد، ويعكس هذا الوضع المخاوف الكامنة من ظهور طابور خامس موالٍ للقذافي، فضلاً عن وجود نقص في مختلف المواد ونشوء مشكلة رحيل العمّال الأجانب، فتمتد طوابير الناس التي تصطف لشراء البترول في بعض المناطق على مسافة كيلومتر كامل، كذلك، يحتشد الناس أمام الأفران التي تفتقر إلى كميات كافية من الخبز، لا بسبب النقص في الطحين بل لأن المصريين الذين كانوا يديرون الأفران غادروا البلد. في هذا الإطار، يقول أحد الزبائن المرهقين: "يتوقع الليبيون أن يعملوا وراء المكاتب في مبانٍ مكيّفة، لا في أفران حارة".ما من مؤشر بعد على وجود الحكومة في طرابلس، فقد قدم بعض الوزراء من بنغازي، قاعدة الثوار في الشرق، ومن المنتظر أن يعيد المجلس الوطني الانتقالي- هيئة مؤلفة من 40 شخصاً تُعنى بتحديد السياسة العامة- تمركزه قريباً، وفي غضون ذلك، تخضع العاصمة لحكم جماعات من المتطوعين وتحرسها بطريقة عشوائية جماعات من المقاتلين الملتحين الذين يتجولون في شاحنات صغيرة ويحملون الأسلحة الثقيلة ويقفون على حواجز التفتيش، ويبدو أن وجود هؤلاء المقاتلين يسرّ سكان طرابلس، على الرغم من توتر أعصابهم بسبب إقدام هؤلاء على إطلاق النار ابتهاجاً، لكن خوفاً من استياء سكان طرابلس، يحث المجلس الوطني الانتقالي المقاتلين على العودة إلى مناطقهم الأصلية، وهو يتخذ الخطوات اللازمة لتسجيل الأسلحة وتجميعها.أولاً، يجب أن تنهي القوات الثورية القتال فوراً، ويبدو أن الوضع يسير على ما يرام في هذا الاتجاه، فلم تتبقَّ إلا ثلاث مناطق معزولة في يد الموالين للنظام داخل مساحات ليبيا الشاسعة، وفي منطقتين منهما، وهما مدينة سرت، موطن الكولونيل، وبلدة بني وليد على بُعد 160 كيلومتراً جنوب شرق طرابلس، يبدو أن شيوخ القبائل ينوون الاستسلام ولكنهم يطلبون وقتاً إضافياً لإقناع مناصري القذافي المتعصّبين بالاستسلام أيضاً.في هذا السياق، يقول مفتاح رباني، زعيم قبيلة ورفلة في بلدة بني وليد: "لا يزالون مقتنعين بأن الثوار هم من المغتصبين واللصوص. تُعتبر الحملات الترويجية آخر سلاح يملكه القذافي، لكن حتى هذا السلاح بدأ يفقد مفعوله". عمد قادة الثوار إلى تكليف ألوية محلية بقيادة العمليات لإقناع المشككين بنواياهم الحسنة، وهو التكتيك نفسه الذي ساهم في تسريع مسار الثورات في أماكن أخرى.يقول رباني إن معظم القوات الموالية سبق أن غادرت بلدة بني وليد، وهي بلدة تضم 60 ألف نسمة وكانت السيطرة عليها ستسمح للسلطات الجديدة بأن تتحكم بالمنطقة الساحلية الخصبة التي تضم حوالي 95% من الشعب الليبي المؤلف من 6 ملايين نسمة، يُقال إن القذافي، مع أبنائه الثلاثة المتبقين الذين لم يُقتَلوا بفعل العمليات الجوية التي تقودها قوات الحلف الأطلسي أو لم يلجؤوا إلى الجزائر، يتجهون جنوباً في عمق الصحراء مع أقرب المقرّبين إليهم.بعد أن انتُقدت السلطات الجزائرية لأنها سمحت في السابق باستضافة أفراد آخرين من عائلة القذافي، ها هي تصرّح الآن بأنها رفضت استقبال مواكب من الموالين الهاربين، لكن من المعروف أن أشخاصاً آخرين تجاوزوا الحدود المنفلتة باتجاه النيجر. يشير هذا الموقف إلى أن الهاربين لا يشعرون بالأمان في آخر معاقل الموالين، وتحديداً في واحة سبها، إذ تُعرف بعض القبائل في تلك المناطق بتاريخها المعادي للقذافي، بينما يميل شعب الطوارق الذي يسكن في الصحراء الكبرى الممتدّة بين ليبيا ومالي إلى التخلي عن الزعيم الليبي مع أنه وفّر له الأسلحة والوظائف لفترة طويلة. يخشى مشايخ جماعة الطوارق في مالي والنيجر تدفق المسلحين، لذا هم يطلبون من جنود القذافي البقاء في ليبيا والانضمام إلى قوات النظام الجديد.تتابع طائرات حلف الأطلسي دورياتها، لكن تراجعت الحاجة إليها الآن بما أن الثوار تفوقوا عسكرياً على إمكانات قوات القذافي، وقد توقفت الطائرات الغربية عن استهداف الموالين الهاربين، إذ ستكون هذه الخطوة أصلاً خارج إطار التفويض الذي حصلت عليه من الأمم المتحدة لحماية المدنيين، وسينتهي مفعول هذا التفويض في مطلق الأحوال في 27 سبتمبر.يشيد الليبيون بطيّاري حلف الأطلسي نظراً إلى دقة عملياتهم، ما ينفي الحكايات التي تناولت سقوط ضحايا من المدنيين، ومع ذلك، يقول مسؤولون حكوميون إنهم لا يريدون أن يهيمن أصحاب النوايا الحسنة الأجانب على ليبيا الآن، فهم يريدون إعادة بناء بلدهم بأنفسهم.وضع المجلس الوطني الانتقالي خططاً لانتخاب "مجلس وطني" خلال ثمانية أشهر ومسودة دستور خلال أول ستين يوماً من تشكيله، لكن يدرك الليبيون أن هذه العملية ستواجه عوائق عدة، فلا يتمتع البلد بخبرة واسعة في مجال الديمقراطية ولا يضم أحزاباً سياسية، بل إنه يقوم على نظام قضائي هش ووسائل إعلام حرة حديثة العهد. كذلك، يفتقر جيش الثوار المؤلف من 50 كتيبة تقريباً، إلى جانب بقايا من القوات المسلحة المحترفة، إلى التنظيم والانضباط.على صعيد آخر، يتسع نطاق انتشار الأسلحة التي تشمل المتفجرات والصواريخ من دون أي رقابة، إذ أدى الحكم العشوائي طوال عقود إلى ترك إرث قائم على بنى تحتية رديئة وبيروقراطية شائكة وقلة كفاءة إدارية، ولا تزال الاضطرابات قائمة بين المناطق، وبين الإسلاميين والعلمانيين، وبين من يطالبون بطرد المسؤولين السابقين ومن يوصون بإيجاد تسوية براغماتية.حتى الآن، يبدو أن النزعة البراغماتية ولغة الحوار تغلبان على الوضع القائم، فلا يتحدث الإسلاميون، مثل وزير الاقتصاد عبدالله شامية، عن فرض الشريعة الإسلامية بل عن احترام العقود الموقّعة مع شركات النفط الأجنبية، وتنويع مجالات الاقتصاد وتقليص اتكاله على قطاع النفط، وتعزيز الاستثمارات، وتنظيم سوق العمل لمنع تدفق جديد للعمال الوافدين الذين يسعون إلى إيجاد منفذ يقودهم إلى أوروبا.يسخر معظم الليبيين من الفكرة القائلة إن "القاعدة" قد تعود لتسيطر على البلد، فبحسب رأيهم، يُعتبر المجتمع الليبي محافظاً ومتمسكاً بالتقاليد، ولكنه ينتمي إلى الطائفة السنية نفسها.يحظى عبدالحكيم بلحاج باحترام كبير، فهو القائد العسكري الجديد في طرابلس ومحارب مخضرم في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية التي تدينها الحكومات الغربية لأنها على ارتباط بالقاعدة، وعلى الرغم من اعتقاله في ماليزيا، عام 2004، وادعائه بأنه تعرض للتعذيب على يد وكالة الاستخبارات المركزية وأُرسل إلى سجن ليبي، عاد الآن لينكر بشكل قاطع علاقته بالقاعدة أو عدائيته تجاه الغرب.فقد صرّح لصحيفة "لوموند" الفرنسية: "نحن نريد دولة مدنية تحترم القانون والحقوق، ودولة تطبّق مبادئ العدالة، وسنسلّم أسلحتنا حتماً. نحن لم نأتِ لإقامة نظام مشابه لنظام طالبان عبر تنفيذ انقلاب".تشهد ليبيا تطورات كثيرة في هذه الفترة، وحتى لو استلزم الأمر بضعة أشهر كي تعاود إنتاج النفط بالمستويات التي سبقت الثورة، كما يقول بعض الخبراء، يمكن أن يعتمد البلد على أصول الصناديق السيادية الأجنبية التي تفوق قيمتها 170 مليار دولار بحسب تقديرات شامية.على صعيد آخر، يتوق الليبيون المؤهلون في المنفى إلى العودة والاستثمار في بلدهم، بعد أن قدّموا مساهمات كبرى لإنجاح الثورة، فبنظر الليبيين الذين خرجوا من نكبتهم الطويلة، يبدو المستقبل واعداً أكثر من مصير الدول العربية المجاورة غداة الثورات التي شهدتها.